حين تنظر من بعيد إلى يافع في محافظة لحج بجنوب اليمن، تبدو المدينة وكأنها معلّقة بين السماء والصخور، فيها قصور ومبان شاهقة تتحدى الزمن. هذه المباني التي يصل ارتفاع بعضها إلى ستة طوابق أو سبعة متوّجة بتشريفات حجرية فريدة ليست مجرّد هياكل صامدة، بل سجلاًّ حياًّ لعزيمة الإنسان وذاكرة المكان وانعكاساً للهوية التاريخية والثقافية للمنطقة.
من بين جبال لحج حافظت يافع على طابعها العمراني الفريد على تغيّر الأزمنة، وصمدت أمام التحديات التي فرضتها فترات التحوّل السياسي والاجتماعي وما شهدته من تغييرات قسرية في مناح مختلفة. استمرّ هذا الصمود حتى العقود الأخيرة، مع نجاح يافع في الحفاظ على هوية مبانيها وأسلوبها العمراني التقليدي. فقد تخطت مرحلة الاستعمار البريطاني بين 1839 و1967، ثم عهد الجمهورية الاشتراكية الجنوبية بين 1967 و1990. لكن عوامل قاهرة برزت لاحقاً جلبت معها نماذج معمارية دخيلة على الطابع العام للمكان شكّلت نقطة فاصلة في تاريخ المدينة، منها الهجرة العكسية الكبيرة من دول الخليج، خاصةً بعد غزو العراق الكويتَ سنة 1990. عاد المغتربون ومعهم رؤوس الأموال التي أحدثت تغيرات اجتماعية وثقافية في المنطقة ساهمت في تغيير ملامح الإرث المعماري القديم. إذ سرعان ما اجتاح الإسمنت والخرسانة مدينة يافع، بحجة الإسكان السريع للعائدين. هذا كله في ظل نظام يمني وليد حقق الوحدة بين شطري البلاد الشمالي والجنوبي سنة 1990، ولكن في عهده تردت ملامح التنسيق البصري الذي اتسمت به المنطقة طيلة قرون.
وما بين العامل الاقتصادي والسياسي المتراكم على مدى عقود، ما زالت يافع اليوم تعاني من غياب سياسات عمرانية لا تراعي خصوصية المكان. بل زادت الأمور تردياً مع اندلاع الحرب بين الحكومة اليمنية وجماعة الحوثيين بدءاً من سنة 2015. ففقدت قصور يافع شيئاً فشيئاً قدرتها على التفرّد بنفسها وفق طابعها العمراني المميز. تغيّرت كذلك أنماط البناء، فتبدّلَت معها حسابات أبناء المنطقة وبدؤوا بالانفصال تدريجياً عن الإرث الحجري الذي طبع جزءاً من هويتهم الجمعية. هذا وسط دعوات للمحافظة على ماضي المدينة، ودعوات أخرى تميل للحداثة أو إيجاد حلٍّ وسطٍ يجمع بين الأصالة ووسائل الراحة الحديثة في البناء.
في منطقة جبلية بتضاريس وعرة تغلب عليها الصخور، تتمدد يافع في شمال شرق محافظة لحج بجنوب اليمن. تحدّها من الشمال محافظة البيضاء ومن الشرق منطقتا لودر ومكيراس في محافظة أبين ومن الغرب محافظة الضالع. فيما يحيط بها من الجنوب مناطق أخرى ضمن محافظة لحج. وعلى امتداد قرون وسط هذا المحيط تشكلت علاقة عضوية بين الإنسان اليافعي وبيئته الجبلية الصخرية، إذ استغلّ السكان الطبيعة الصخرية للمنطقة في إقامة الحصون والقلاع والقصور والمباني المنحوتة في الصخر.
ظلت الجبال والأرض شاهدة على إرث معماري متجذّر لا يُرى إلا في يافع ويحمل سمات النمط الحميري، حضارة جنوب الجزيرة العربية القديمة التي حكمت اليمن أكثر من ستمئة عام، من سنة 115 قبل الميلاد حتى سنة 525 ميلادية.
عندما شيّد اليافعيون بيوتهم على قمم الجبال وسفوح الوديان، أخذوا في الحسبان عوامل الطقس والمناخ. فاختاروا الحجر مادة لسكنهم لصلابته ومقاومته عواملَ الطبيعة وتقلبات الزمن. والحجر متسق بصرياً مع تضاريس محيطه. تقول سلمى سمر دملوجي في كتابها "ذي أركيتكتشر أوف يمن: فروم يافع تو حضرموت" (العمارة في اليمن: من يافع إلى حضرموت) المنشور سنة 2007، إنّ "العمارة في يافع تتناغم مع الخلفية الجبلية القاسية، بينما تعكس التصميمات الداخلية الميل اليمني للألوان والأنماط الزاهية".
هذه العمارة ضاربة في القِدَمْ، وكثير من القصور والمباني عمرها أكثر من أربعمئة عام. وتتميّز بيوت يافع الحجرية بلونها الرمادي المائل إلى الأزرق، و طوابقها التي قد تتخطى السبعة. تفصل بين هذه الطوابق أحزمة من "النورة" (الجير الأبيض) البيضاء الناصعة، وتعلوها "التشاريف"، وهي أكاليل حجرية للتزيين علامةً على اكتمال البناء. مادة البناء الأساس عادةً الأحجار الجيرية أو البركانية المتوفرة محلياً، وتُثَبَّت بالطين، مع استخدام الأسمنت والحديد في أضيق الحدود. النوافذ صغيرة وتزيّن بالزخارف الحجرية أو الأخشاب المنحوتة. وبعض البيوت مصممة كما يبدو لأهداف الدفاع عن النفس، يبرز هذا من أسطحها المرتفعة ومداخلها الحجرية السميكة ونوافذها الضيقة.
وبسبب جغرافية المنطقة المكونة في معظمها من سلاسل جبلية متداخلة، لم تنشأ مدينة منتظمة التخطيط. إذ تكوّنت يافع من تجمعات سكنية تنتشر على قمم الجبال وعند ضفاف الأودية، وفق ورقة بحثية بعنوان "العمارة التقليدية في يافع"، لأستاذ العمارة اليمنية القديمة في جامعة عدن أحمد إبراهيم حنشور سنة 2009.
ظلت هذه المنطقة نموذجاً فريداً للتماسك المعماري والاجتماعي في العصر الحديث، خاصة في فترة الحماية البريطانية جنوبَ اليمن بين 1839 و1967. إذ كان اهتمام بريطانيا اقتصادياً منصبّاً على عدن التي احتلتها بهدف تأمين طريقها البحري إلى الهند عبر استغلال ميناء عدن الاستراتيجي حينئذ. لذا ظلّت المناطق الداخلية ومن بينها يافع متأخرة اقتصادياً. كذلك أدخل البريطانيون الطراز المعماري الحديث إلى عدن، في حين حافظت المناطق الجبلية مثل يافع على عمارتها الحجرية التقليدية.
ساعد على استمرار هذا النمط المعماري أيضاً، منذ بدايات القرن العشرين، الهجرة الداخلية إلى حضرموت وعدن، والخارجية لشرق إفريقيا وإندونيسيا والهند وسنغافورة ودول الخليج في مراحل لاحقة في الخمسينيات والستينيات. فقد مثلت هذه الهجرة رافداً اقتصادياً أساساً للعمران اليافعي، وهو ما مكّن أبناء المنطقة من بناء منازلهم والحفاظ على فنّهم المعماري الفريد.
في عهد جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية بين 1967 و1990، بقيَت يافع صامدةً موقعاً للهوية التراثية والموروث الثقافي. ولكن شأنها شأن بقية مدن الجنوب، واجهت تحوّلات فكرية واجتماعية في الثمانينيات مع تصاعد التأثيرات الدينية المحافظة القادمة من الخارج ومن الخليج خصوصاً، في مواجهة النهج الاشتراكي السائد آنذاك. خلق هذا التحول حالة من التباين في الهوية الثقافية والاجتماعية، التجديد مقابل التقليد، ما أضعف الارتباط بأصالة المنطقة. تعمّق هذا التباين مع وحدة شطري اليمن الجنوبي والشمالي سنة 1990، وعودة المغتربين القسرية من دول الخليج بعد غزو صدام حسين الكويت في العام نفسه.
يقول زين الكلدي، مدير منصة "حِميَر" الإعلامية الثقافة، في حديث للفراتس إنّ يافع كانت في القرن العشرين بيئةً مصدّرةً للعمالة، خصوصاً إلى السعودية. ويوضح أنّ معظم الأموال الآتية من المغتربين كانت تُوجَّه لقطاع الزراعة أو للحفاظ على نمط المعيشة التقليدي. ووفق الكلدي لم تكن هناك حاجة أو رغبة في إدخال العمارة الإسمنتية التي أخذت تغزو مدناً أخرى. ويلفت الكلدي إلى أن عوامل أخرى، مثل غياب الاستثمارات الكبيرة في الداخل وضعف الخدمات، ساهمت في حفاظ الناس على الطابع التقليدي للبيوت، فضلاً عن بُعد المنطقة عن المراكز الحضرية الكبرى.
يقول مدير مكتب الثقافة في يافع، عبد الرب محمد ناجي للفراتس، إن "موروث الأجداد لا يعوَّض، فهو كنز ثمين ورصيد حيّ للهوية اليافعيّة. تلك البيوت مرتبطة بروح المكان، وبالذكريات العائلية والاجتماعية المنسوجة في ظلالها". ويضيف، إن هذه المنازل شُيّدت وفق معايير جمالية متناغمة مع الطبيعة، تعكس المكانة الاجتماعية للعائلة وتاريخها، فحافظ سكان يافع على هويتهم المعمارية والاجتماعية من هذا المنطلق.
غير أنّ هذا الإرث المتماسك لم يبقَ بمنأى عن التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي جلبتها الهجرة، وكذلك التجاذبات السياسية وتأثيراتها على المغتربين ولاسيما في عقد التسعينيات. لتبدأ مرحلة جديدة، يمكن وصفها بالحرجة، في تاريخ العمارة اليافعية.
بعد توحيد شطري اليمن ثمّ غزو العراق الكويت سنة 1990، تبنّت الحكومة المركزية في صنعاء موقفاً منحازاً لبغداد. دفع ذلك دول الخليج ولاسيما السعودية لترحيل المغتربين اليمنيين، وبينهم الآلاف من أبناء يافع. حسب التقديرات فقد غادر السعودية حوالي مليون يمني عائدين لديارهم، وقد اضطر الكثير منهم لبيع كل ما يملكونه في السعودية، أحياناً بأسعارٍ زهيدة. كانت تحويلات هؤلاء من السعوديّة سنة 1987، مثلاً، قرابة مليار دولار أمريكي مشكّلةً نسبة كبيرة من إجمالي الناتج المحلي للدولة اليمنية حينئذ.
كانت هذه العودة القسرية كارثة على البلد، إذ قلبت الأوضاع السياسيّة والاقتصادية وسلطت الضوء على المشاكل البنيوية التي كانت تواجهها الدولة اليمنية. غير أنها حملت تحوّلاً مزدوجاً طال المعمار في يافع. إذ تدفّق المال فجأة، وكان السكان بحاجة ملحة للإسكان السريع. بهذا اصطدم المعمار اليافعي للمرة الأولى بالبناء الإسمنتي والخرساني. وظهرت في القرى بيوت جديدة للعائدين من الخليج بواجهات إسمنتية باهتة غابت عنها الزخارف الحجرية والنوافذ الصغيرة، وتغيّر معها إحساس اليافعيين بالمكان.
لم يقتصر التحوّل المعماري على الدوافع الاقتصادية والاجتماعية فحسب، بل تأثر أيضاً بالسياسات المركزية التي شكّلت نظرة الدولة إلى التراث والتنمية العمرانية. ففي ظلّ تركيز صنعاء على حماية التراث في المركز، غابت الرقابة المحلية والدعم الثقافي عن مدن الجنوب ومحافظاته. انعكس هذا التجاهل على الفن المعماري في يافع، حيث تسابقت العائلات إلى بناء منازل إسمنتية ضخمة.
عن تلك الحقبة، يؤكّد زين الكلدي أنّ التحوّلات الاجتماعية والسياسية كان لها أثر واضح في هذا التحوّل العمراني. إذ ساهمت عودة المغتربين بعد حرب الخليج الثانية، وإن بنسبة محدودة، في تنشيط حركة البناء الحديثة. بينما ساهم التحوّل في النظام السياسي في الجنوب من النظام الاشتراكي إلى اقتصاد السوق في انفتاح الأسواق وتوسّع دخول المواد الإنشائية إلى يافع، ليسهم ذلك ببدء مرحلة من التبدّل العمراني في المنطقة.
ويضيف الكلدي أنّ يافع تشهد اليوم توسّعاً ملحوظاً في استخدام الإسمنت في أعمال البناء، نتيجة عوامل متداخلة عجّلت بما يُعرف بالغزو الإسمنتي. فقد أصبح خياراً مفضّلاً لما له من قوة ومتانة قريبة من قوة الحجر الطبيعي. إضافةً إلى انخفاض تكلفته وسرعة إنجازه، ما قلّل من الحاجة إلى الأيدي العاملة. وأسهم تحسّن شبكة الطرق وتوسّعها في تسهيل نقل كميات كبيرة من الإسمنت إلى مختلف المناطق، الأمر الذي عزّز انتشاره في مشاريع البناء.
معلومات مشابهة يؤكدها للفراتس المهندس المعماري صالح مطيع. يقدّم مطيع مقارنة بسيطة بين البناء الحجري والبناء الإسمنتي موضحاً أن الإسمنتي يعتمد على عمالة أقل تكلفة وخبرة، ويوفّر في التكلفة الإجمالية بنسبة تتراوح بين 20 و35 في المئة، وفي مواد البناء بنسبة 15 إلى 25 في المئة. إضافةً إلى تقليص مدة تنفيذ المشاريع إلى نحو النصف. من هذه المقارنة يتّضح أنّ البناء الخرساني خيار منطقي، لكنه من ناحية أخرى أسهم في تراجع الالتزام بالهوية العمرانية التقليدية. إذ أصبح المجتمع أكثر تساهلاً مع التشوّهات البصرية والمعمارية، مقارنةً بالفترة السابقة التي اتّسمت بالتمسّك بالمعايير التقليدية للبناء، وفق قوله.
خلق تصاعد تدفقِ رؤوس الأموال العائدة من المغتربين انقساماً في المشهد العمراني بين الأصالة والحاجة إلى التحديث. فبينما حافظت القرى اليافعية القديمة على طابعها المتناغم مع الجبال بتكوينها الحجري الصلب، برز البناء الخرساني اتجاهاً جديداً أقرب إلى موضة اجتماعية منه إلى حاجة معمارية. لكنها موضة تخفي هاجساً حقيقياً لدى البعض من طمس الملامح التراثية التي صاغت هوية يافع وأهلها عبر قرون.
يشير أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية في جامعة عدن علي صالح الخلاقي، في كتابه "فنون العمارة الحجرية في يافع" الصادر سنة 2014، إلى أنّ عائدات الهجرة وفّرت زخماً وقوةً لاستمرار النموّ والتوسع العمراني، وخلقت تنافساً على بناء القصور الحديثة والضخمة. مع أنّ العديد من اليافعيين يقيمون في الخارج أو في مدن أخرى داخل البلاد، إلا أنّهم يشيّدون مساكن فخمة يزورونها عادةً في إجازاتهم فقط.
يؤكد المؤرخ والباحث اليمني في تاريخ الشرق الأدنى فضل الجثام، في حديث مع الفراتس، على محورية دور الاغتراب في تعميق التغيّر العمراني في يافع والمناطق اليمنية الأخرى. ويقول: "المغترب يتأثّر بالأنماط المعمارية للبلدان المضيفة، ويعود بأفكار بناء وأساليب جديدة قد لا تتوافق مع العمارة الحجرية أو الطينية التقليدية. فتظهر مبانٍ جديدة تختلف في الشكل والمواد المستخدمة في تشييدها عن العمارة التقليدية، مثل الفلل والمنازل متعددة الطوابق ذات النوافذ الكبيرة".
ويشير الجثام إلى أنّ الرغبة في التحديث وإبراز المكانة الاجتماعية تساهم في هذا التحوّل. إذ يرى بعض المغتربين في البناء الحديث بالإسمنت رمزاً للتقدم والنجاح الاجتماعي، مقارنةً بالبناء الحجري الذي قد يعد قديماً، ما يدفعهم أحياناً للتخلي عن الأساليب التقليدية.
ويتفق علي صالح الخلاقي، في حديثه مع الفراتس، مع الجثام في أنّ "العمارة الإسمنتية دخيلة على بيئة يافع"، وأنها "لا تنتمي شكلاً ولا مضموناً إلى تراثها العريق". ويوضح أن هذه العمارة "تعتمد على مواد مستوردة وأساليب إنشائية جامدة تتنافر مع تضاريس الجبال ومناخ المنطقة، وتكسر الانسجام البصري الذي تميّزت به العمارة الحجرية". ويعبّر الخلاقي عن أسفه للجوء بعض المقتدرين والأعيان إلى البناء الإسمنتي "بدافع المباهاة والتقليد، لا الحاجة". ويضيف بأن "الرقيّ الحقيقي يكمن في الحفاظ على الأصالة، لا في تبنّي مظاهر الحداثة التي تفرّغ المكان من روحه".
هذا التحوّل لم يتوقف عند حدود التغيّر الاجتماعي أو مظاهر الرفاه الجديدة. بل تعمّق أكثر مع تعاقب الأزمات السياسية والاقتصادية، حتى بلغت ذروتها مع اندلاع الحرب الأخيرة في اليمن سنة 2015 بين الحكومة اليمنية وجماعة الحوثي. لتبدأ مرحلة جديدة من الانهيار الاقتصادي ودمار البنى التحتية التي طالت يافع وهويتها التاريخية.
اندلعت حرب اليمن في مارس 2015 بعملية "عاصفة الحزم" التي قادها تحالف من عشر دول بقيادة المملكة العربية السعودية استجابة لطلب الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، بعد سيطرة الحوثيين على العاصمة صنعاء وتقدمهم نحو الجنوب. تأثّرت يافع اقتصادياً كغيرها من المدن اليمنية بعد اندلاع الحرب، غير أنّ هويتها العمرانية تكبّدت خسارة فادحة تفوق ما شهدته عقب حرب الخليج الثانية سنة 1991. فقد تضاعف الاعتماد على الإسمنت مع تدهور الوضعين الأمني والاقتصادي وتراجع الدخل الفردي، ما جعل من البناء الحجري خياراً شبه مستحيل.
ترى الباحثة في التراث أسرار سليمان، في حديث مع الفراتس، أنّ الحرب بين الحوثيين والحكومة أسهمت سلبياً في تمدّد استخدام الإسمنت والخرسانة المسلحة. وكما كان الأمر في التسعينيات، ولكن بوتيرة أعلى، أوضحت سليمان أنّ اللجوء للأسمنت والخرسانة المسلحة يعود إلى سرعة إنجازهما مقارنة بالبناء التقليدي بالحجر الذي يتطلّب مهارات خاصة ووقتاً أطول في القص والتشكيل والنقل والتركيب. وتشير إلى أنّ عامل السرعة أصبح حاسماً في زمن الحرب، إذ يسعى الناس إلى إكمال منازلهم في أقصر وقت ممكن تحسباً لأي تطورات.
إضافةً إلى ذلك، فإن العمالة المتمرّسة في البناء بالإسمنت باتت متوفرة، وأقل تخصصاً من البنّائين الحرفيين المتخصصين في الحجر، مما يسهّل العثور على الأيدي العاملة ويقلّل من التكاليف. تشير سليمان إلى عامل التكلفة، فأثمان البناء الإسمنتي أقل بكثير مقارنة بالبناء الحجري، الذي يتطلّب شراء الحجر الجيد ودفع أجور العمال القادرين على تشكيله.
لم يقتصر تأثير الحرب على الجانب الاقتصادي، بل امتد ليصيب البناء حرفةً تقليديةً عريقة. تقول أسرار سليمان: "تأثّرت الحِرف التقليدية والعمارة بشكل كبير وسلبي بسبب الحروب، التي دمّرت معالم تاريخية ومدناً بأكملها، وتسببت في تدهور الأوضاع الاقتصادية، ما حال دون تنفيذ أعمال الصيانة والترميم". وتضيف: "كما أدّت الحرب إلى فقدان المهارات المعمارية بسبب هجرة الحرفيين المهرة. إذ تُعدّ هذه الفئة من الأكثر تأثراً بالنزاعات، فيغادر كثيرون منها بحثاً عن الأمان أو فرص عمل أفضل داخل البلاد أو خارجها. كذلك غاب الطلب والتمويل في زمن الحرب، فانخفض الاهتمام بالبناء التقليدي".
وبينما لا يزال الضرر غير شامل، تظلّ آثار الحرب عميقة على البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية على المدى الطويل. فمع تراجع الطلب، تقلّصت ممارسة حرفة البناء التقليدي وتوريثها للأجيال الجديدة، لتصبح الآن مهددة بالاندثار التدريجي. هذا الواقع المعقّد يجعل المواطن اليافعي اليوم أمام معادلة صعبة.
ما بين نمط معماري يعكس الأصالة والانتماء، وواقع جديد يفرض ضرورات الحداثة وتحسين جودة الحياة، يقف المواطن اليافعيّ اليوم حائراً بين الهوية والرفاهية. فبينما يرى البعض أن الحجر رمز لا يجوز التفريط به، يعده آخرون عبئاً في زمن السرعة وارتفاع التكاليف.
الشابة وردة اليافعي من المهتمين برفاهية المكان. تقول للفراتس: "المنازل القديمة ضيقة جداً، تُخصَّص فيها غرفة واحدة للزوجة تضم الحمّام والمغسلة. كما أنه لا تتوفر فيها خصوصية كافية، لأن الأسرة الممتدة تعيش في منزل واحد، والمَرَافِق مشتركة، حتى المطبخ. وهناك مرافق للحيوانات، ما يتطلب جهداً أكبر في التنظيف". وتضيف: "أما المنازل الإسمنتية الحديثة، فهي أوسع وأكثر راحة، والمطابخ فيها مشمسة وتنظيفها أسهل، وتمنح خصوصية أكبر للأسرة".
في المقابل يرى نايف الحدي، المنحدر من يافع، أنّ البيوت الإسمنتية "تفتقد لروح المكان، ولا تحمل الرمزية الثقافية التي تميّز البيوت الحجرية بنقوشها وزخارفها المميزة، مما شوّه الهوية الأصيلة للمنطقة". ويعبّر الحدي بأسى عن شعوره بالاغتراب عادّاً موجة العمران الحديث "تساهم بقطع الصلة بين الإنسان والأرض والذاكرة الجمعية". ويتساءل: "إذا فقدنا بيوتنا الحجرية، فماذا سيميّز يافع عن غيرها؟".
وفي ما يبدو حلاً وسطاً يرى علي الخلاقي أنه إذا كان لا بد من التجديد، فمن الضروري استخدام الحجر المحلي في الواجهات الخارجية للمباني في القرى الجبلية أو المدن. والسبب في رأيه ما يحمله الحجر من دلالات رمزية على الصلابة والعراقة، ولما يضفيه من انسجام بصري مع البيئة الطبيعية. ويؤكد الخلاقي أنّ النوافذ المزخرفة والشرفات البارزة عناصر أساس يجب الحفاظ عليها، لأنها تشكّل الجسر الذي يربط الحاضر بجذور المكان وهويته. في المقابل يمكن إدخال عناصر الراحة الحديثة، مثل المصاعد والتمديدات الكهربائية والتصميمات الداخلية المعاصرة. مع استخدام الخرسانة المسلحة هيكلاً داعماً يوفّر الأمان والمتانة، من دون المساس بالمظهر الخارجي الذي اعتادت عليه العين اليافعية، وفق قوله.
وسط التجاذبات والأزمات السياسية والاقتصادية التي تعصف باليمن، تخوض يافع معركتها المعمارية بين التمسك بهويتها الحجرية الأصيلة والاستجابة للتغيّرات الحديثة. فالتحوّل في نمط البناء لم يكن نتيجة قرارٍ من أبناء يافع فحسب، بل فرضته التحولات السياسية والاقتصادية التي شهدها اليمن، خصوصاً في العقود الثلاثة الأخيرة. واليوم، في ظل الآثار الممتدة للأزمات، تقف يافع أمام منعطف جديد. إذ لم تعد المعركة فقط بين الحجر والإسمنت، بل بين الذاكرة والمستقبل. فكلّ جدارٍ يشيَّد فيها بات اختباراً لمدى قدرة المكان على الحفاظ على هويته، وسط عالمٍ يعيد تشكيل ذاته كلّ يوم.