تحليل: إحلال السلام في غزّة قد لا يؤدي إلى إحلال السلام في البحر الأحمر
يمن فيوتشر - مات رايزنر – المركز الدولي للأمن البحري- ترجمة خاصة الثلاثاء, 18 نوفمبر, 2025 - 07:36 مساءً
تحليل: إحلال السلام في غزّة قد لا يؤدي إلى إحلال السلام في البحر الأحمر

منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، شنّ الحوثيون —وهم جماعة متمرّدة يمنية استولت على معظم مناطق البلاد قبل أكثر من عقد— حملة استهداف واسعة للسفن في البحر الأحمر ومضيق باب المندب وخليج عدن، حيث هاجموا أكثر من 100 سفينة تجارية. وقد دأبت الجماعة على تقديم حرب إسرائيل في غزة باعتبارها المبرّر الأساسي لحملتها، مدّعية أنّ الهجمات على السفن الإسرائيلية أو أي سفن تتعامل مع الموانئ الإسرائيلية تهدف إلى “معاقبة إسرائيل” على دورها في الصراع.

ومع ذلك، وفي ضوء وقف إطلاق النار الأخير في غزة، قد يتوقع البعض أن تتوقف هذه الهجمات، خصوصًا بعد تراجع وتيرتها منذ اتفاق مايو/ أيار 2025 بين الحوثيين والولايات المتحدة، والذي تعهّد فيه الحوثيون بتجنّب استهداف السفن الأميركية مقابل وقف الغارات الجوية الأميركية على اليمن. كما أفادت تقارير بأنّ زعيم الجماعة (عبدالملك الحوثي) أصدر أوامر بوقف الهجمات على السفن التي ترفع العلم الإسرائيلي أو تلك المتجهة إلى الموانئ الإسرائيلية، وأنّ الرسالة التي وجّهها الحوثيون إلى كتائب القسام في حركة حماس —والتي تشير إلى تعليق حملتهم ضد إسرائيل— قد فُسّرت من قبل البعض باعتبارها مؤشرًا على أنّ الجماعة تعيد توجيه اهتمامها بعيدًا عن البحر الأحمر.

ويمثّل توقف هجمات الحوثيين في البحر الأحمر تطورًا مرحّبًا به، بالنظر إلى ما أحدثته الحملة من اضطراب واسع في حركة التجارة العالمية. فقد تراجع المرور البحري عبر قناة السويس بنحو 50% بسبب المخاوف من استهداف السفن في البحر الأحمر. وبدلاً من عبور القناة، اختارت العديد من السفن الإبحار عبر رأس الرجاء الصالح، وهو ما أضاف وقتًا طويلًا وتكاليف كبيرة إلى رحلاتها، وأسهم في زيادة معدلات التضخم عالميًا.

وبالنظر إلى أن ما يصل إلى 15% من التجارة العالمية و30% من حركة الحاويات العالمية يعبر سنويًا قناة السويس، فإنّ الأثر العالمي لهجمات الحوثيين لا يمكن التقليل من شأنه.

ومع ذلك، قد لا يعني وقف إطلاق النار في غزة عودة فورية للملاحة الآمنة والمستقرة في البحر الأحمر. فالهدنة لا تزال هشّة في أعقاب محاولة حركة حماس استعادة السيطرة على جيوب في مدينة غزة، وقد اتهم كل طرف الآخر بالفعل بخرق الاتفاق. كما أن الطريق نحو سلام دائم لا يزال مليئًا بالعقبات التي قد تؤدي بسهولة إلى استئناف الأعمال القتالية، بما في ذلك قضية إعادة رفات الأسرى الإسرائيليين المتبقّين، ومصير حركة حماس، ومدى استعداد إسرائيل للقبول بدولة فلسطينية.

لكن حتى التوصل إلى تسوية سلمية في غزة قد لا يكون كافيًا لوضع حد دائم لهجمات الحوثيين البحرية؛ إذ إن الدوافع الحقيقية الكامنة وراء سعي الحوثيين لتعطيل التجارة في البحر الأحمر تتجاوز بكثير ما تعلنه الجماعة بشأن “دعم القضية الفلسطينية”.

فالحوثيون يستخدمون هجماتهم البحرية أساسًا لمعالجة أزمات الشرعية التي تواجههم داخليًا وخارجيًا. فبالرغم من نجاحهم في السيطرة على صنعاء وإجبار الرئيس آنذاك (عبدربه منصور هادي) على الاستقالة، فإنهم لا يزالون يواجهون معارضة واسعة من الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا، إضافة إلى جماعات مسلّحة أخرى مثل المجلس الانتقالي الجنوبي والمقاومة الوطنية اليمنية التي تسيطر على مساحات كبيرة داخل البلاد.

أما على مستوى مناطق سيطرتهم، فيعاني الحوثيون من عدم الشعبية بين شريحة كبيرة من السكان نتيجة فرضهم قيودًا اجتماعية صارمة، وتردّي الوضع الاقتصادي، وانتشار الفساد، وعجزهم المزمن عن دفع رواتب موظفي القطاع العام. وفي السياق الدولي، تبقى إيران الدولة الوحيدة التي تعترف بالحوثيين كسلطة حاكمة، بينما تعيش الجماعة عزلة دبلوماسية واقتصادية عن معظم دول العالم.

ومن هذا المنظور، يمكن النظر إلى حملة الحوثيين البحرية باعتبارها محاولة لترسيخ صورة الجماعة كسلطة حاكمة كاملة الوظائف، وكقوة جيوسياسية قادرة على مواجهة قوى إقليمية ودولية وتعطيل التجارة العالمية. وبينما لم تنجح محاولات الحوثيين لضرب العمق الإسرائيلي نجاحًا يذكر، فقد رأت الجماعة أن استهداف السفن التجارية يمثّل وسيلة أكثر واقعية لفرض نفسها طرفًا في الصراع الأوسع مع إسرائيل، وفي الوقت نفسه لرفع مستوى التهديد الذي تمثّله على الساحة الدولية.

ويعزز هذا التفسير قرار الحوثيين تقديم تصاريح “عبور آمن” للسفن الراغبة في المرور عبر البحر الأحمر دون أن تكون هدفًا لهجماتهم؛ إذ تُسهم كل شركة شحن تتقدم للحصول على هذا التصريح في ترسيخ الانطباع بأن الحوثيين سلطة حاكمة شرعية.

وبالمثل، شكّل التوصل إلى اتفاق سلام مع الولايات المتحدة انتصارًا دعائيًا مهمًا للحوثيين، إذ أتاح لهم تصوير أنفسهم كطرف ندّ لواشنطن، قادر على إلحاق ضرر كافٍ بمصالحها لدفعها إلى إبرام اتفاق من هذا النوع.

ورغم أن تبنّي الحوثيين لقضية حرب غزة ينسجم مع مواقفهم المؤيدة لفلسطين والمعادية لإسرائيل، فإن للجماعة أيضًا دوافع استراتيجية لربط حملتها البحرية بهذا الصراع. فأولًا، يعتبر كثير من اليمنيين أن مواجهة إسرائيل قضية تحظى بإجماع واسع، ما وفر للحوثيين غطاءً شعبيًا كبيرًا. وتُظهر استطلاعات مركز صنعاء لعام 2024 أن الحوثيين ما يزالون غير محبوبين داخل اليمن، لكنها تشير أيضًا إلى أن هجماتهم البحرية أثارت مشاعر إيجابية لدى اليمنيين في مناطق سيطرة الحوثيين والحكومة والمناطق المنقسمة.

وتُضفي هذه الهجمات مصداقية على رواية الحوثيين بأنهم يخوضون حربًا دعماً لفلسطين “نيابةً عن الشعب اليمني”، في حين تجد الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا نفسها عاجزة عن انتقاد الحملة بحرية، خشية أن يعزز ذلك سردية الحوثيين التي تصوّر الحكومة كـ “وكيل غربي”.

كما أسهمت الهجمات البحرية في تعزيز التجنيد داخل صفوف الجماعة. فبحسب تقديرات الأمم المتحدة، ارتفع عدد مقاتلي الحوثيين من 220 ألفًا عام 2022 إلى 350 ألفًا عام 2024، ولعبت الحملات الدعائية المرتبطة بالصراع مع إسرائيل دورًا محوريًا في هذا الارتفاع. فكل ضربة ناجحة، وكل رد عسكري أجنبي يستهدف الأراضي اليمنية، يعزز تأثير “الالتفاف حول الراية” ويخلق تعاطفًا شعبيًا أكبر مع الجماعة.

بالإضافة إلى ذلك، ساهم ربط الحوثيين هجماتهم في البحر الأحمر بالقضية الفلسطينية في تعميق شراكتهم مع إيران. فبرغم تزايد قدرة الحوثيين على تصنيع الأسلحة محليًا، ما تزال إيران راعيًا أساسيًا للجماعة، إذ واصلت تزويدها بالذخائر، كما يتضح من اعتراض قوات المقاومة الوطنية اليمنية أكثر من 750 طنًا من الأسلحة الإيرانية الموجّهة إلى اليمن في يوليو/ تموز الماضي.

وكان تسليح إيران للحوثيين يهدف أساسًا إلى مواجهة جهود التحالف الذي تقوده السعودية لمنع اليمن من التحول إلى دولة تابعة لخصوم طهران الإقليميين. لكن استعداد الحوثيين للانخراط في صراع غزة ضد أحد أبرز خصوم إيران —إسرائيل— ساعد في تعزيز مكانتهم كوكيل موثوق يستحق استمرار الدعم، خصوصًا في وقت تكبّدت فيه شبكة وكلاء إيران الإقليميين خسائر كبيرة بعد حرب الأيام الاثني عشر المدمرة مع إسرائيل.

كما استغل الحوثيون حرب غزة كغطاء لهجماتهم في البحر الأحمر لإضعاف الصورة العامة لدول عربية أخرى؛ إذ يقدّمون مقارنة بين مشاركتهم العسكرية المباشرة وبين ما يصفونه بـ“تقاعس” دول مثل السعودية والإمارات عن اتخاذ مواقف أكثر صرامة، على الرغم من دعمهما المعلن للقضية الفلسطينية.

وبينما كان تبنّي الحوثيين للقضية الفلسطينية ناجحًا إلى حد كبير، هناك أسباب للاعتقاد بأنهم سيواصلون استهداف حركة الشحن في البحر الأحمر حتى لو ظل الصراع في غزة مجمدًا.

أولًا، يمكن للحوثيين تغيير مبرراتهم للاستهداف كلما تعثّر مسار السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل، وهو أمر مرجح. ويمكنهم استغلال كل عقبة باعتبارها “دليلًا على العدوان الإسرائيلي”، ومن ثم استئناف الهجمات.

وإذا استمر السلام الهش في غزة، فقد يتجه الحوثيون أيضًا إلى تصوير الولايات المتحدة باعتبارها “وجهًا أساسيًا” لحملتهم البحرية، مستفيدين من الكراهية الواسعة للولايات المتحدة بين اليمنيين عقب سنوات من ضربات الطائرات المسيرة ضد الجماعات المتطرفة في اليمن. لكن الانفراج الأميركي – الحوثي الأخير قد لا يكون كافيًا لردع الهجمات المستقبلية، كما يتضح من هجوم الحوثيين في مارس/ آذار 2024 على سفينة صينية رغم تقديمهم وعودًا مماثلة لتجنب استهداف سفنها.

وقد أثبت الحوثيون براعتهم في النجاة من الضربات الجوية مع الحفاظ على قدرتهم على شن الهجمات البحرية. وليس هذا ليعني أن الضربات الجوية عديمة الجدوى؛ فالهجمات الأميركية هذا الربيع ألحقت أضرارًا تجاوزت المليار دولار، وأسفرت عن مقتل قيادات حوثية بارزة، وأسهمت في دفع الحوثيين إلى طاولة المفاوضات. كما نجحت ضربة إسرائيلية حديثة في قتل القائد العسكري الحوثي (محمد عبد الكريم الغماري).

ومع ذلك، قد يحسب الحوثيون أن المكاسب المحتملة من زيادة الدعم الإيراني —إذا بدأوا استهداف السفن المرتبطة بالولايات المتحدة— قد تفوق الخسائر الناتجة عن الضربات الأميركية الانتقامية، خصوصًا وأن هذه الضربات قد تدفع مزيدًا من الشباب المستائين إلى الانضمام إلى صفوفهم.

وأخيرًا، قد يشجّع تزايد كفاءة الحوثيين في شن هجمات البحر الأحمر على استمرارهم فيها. فقد زاد الحوثيون مؤخرًا تنسيقهم مع كل من القوات المسلحة السودانية وجماعة الشباب الصومالية المتطرفة. وقد يتيح هذا التعاون توسيع نطاق استهداف السفن في المنطقة، إضافة إلى زيادة المخاطر على السفن التي تلتف حول سواحل أفريقيا تجنّبًا للهجمات، فضلًا عن توفير مصادر إضافية للاستخبارات والدعم المادي.

وبدلًا من الاعتماد فقط على الأسلحة بعيدة المدى، تشير الهجمات الأخيرة إلى أن الحوثيين بدأوا يتبنون مجموعة أوسع من التكتيكات، بما في ذلك استخدام مزيج من الزوارق المسيّرة وسفن يقودها مقاتلون لتنفيذ عمليات اقتحام وزرع متفجرات على السفن. وتشير هذه التكتيكات إلى أن الحوثيين قادرون على الاستمرار في مضايقة السفن حتى لو تراجع إمدادهم بالصواريخ والطائرات المسيّرة.

ورغم أن هجمات الحوثيين البحرية قد تتفاوت في الأشهر المقبلة، فإن تحقيق مرور آمن ومستقر عبر البحر الأحمر يبدو بعيد المنال في المستقبل القريب. فحملة الحوثيين ليست مرتبطة بشكل جوهري بالصراع في غزة، ومن المرجح أن تستمر حتى لو انتهت الحرب هناك بشكل سلمي. وسيواصل الحوثيون على الأرجح استخدام هذه الهجمات كورقة ضغط للتفاوض على تسويات أكثر ملاءمة لهم مع كل من السعودية والحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا، لتعزيز موقفهم السياسي في المستقبل. ولن ينتهي تهديدهم للملاحة إلا بانتهاء الصراع الداخلي الممتد منذ عقود بين الحوثيين وخصومهم داخل اليمن.

لقراءة المادة من موقعها الأصلي - فتح الرابط التالي: 

https://cimsec.org/peace-in-gaza-may-not-mean-peace-in-the-red-sea/


التعليقات