تتواصل الحرب في اليمن منذ أكثر من عقد، ومعها يتواصل تغييب مسار العدالة الانتقالية عن أولويات الأطراف المتصارعة. في المقابل، ترفع منظمات المجتمع المدني صوتها مطالبة بوضع هذا المسار في قلب أي عملية سلام مقبلة، انطلاقًا من قناعة بأن السلام الحقيقي كشفًا لا تجاهلًا للحقيقة، ومحاسبة الجناة، وتعويض الضحايا، وضمان عدم تكرار الانتهاكات.
يقول وليد الجبر، رئيس منظمة مساواة للحقوق والحريات: “نفهم العدالة الانتقالية كعملية شاملة ومتكاملة تهدف إلى كشف الحقيقة، ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات، وتعويض الضحايا، مع ضمان عدم تكرار الجرائم من خلال آليات قانونية واجتماعية وسياسية تكرس المساءلة والمصالحة وإعادة بناء الثقة بين المواطنين.”
وتتقاطع رؤيته مع تقرير المركز الدولي للعدالة الانتقالية (ICTJ) لعام 2023، الذي يؤكد أن “غياب العدالة الانتقالية في اليمن سيجعل أي اتفاق سلام هشًا، إذ لا يمكن تجاوز الألم دون اعتراف ومحاسبة.”
ومن جانبه، يرى ناصر الصانع، رئيس منظمة عين لحقوق الإنسان، أن البداية العملية تتمثل في “تشكيل هيئة وطنية مستقلة للعدالة الانتقالية بمشاركة الضحايا والمجتمع المدني، تكون مهمتها التوثيق الشامل للانتهاكات، واعتماد برامج لجبر الضرر المادي والمعنوي، ودمج مسار العدالة ضمن أي عملية سلام شاملة.”
أما عديلة الخضر، أمين عام اتحاد نساء اليمن – أبين، فتشير إلى ضرورة أن يرتبط المسار بالتركيبة الاجتماعية والسياسية في اليمن: “يجب أن تأخذ العدالة الانتقالية في اليمن بعين الاعتبار التاريخ السياسي والاجتماعي للبلد… وأن تُبنى على أساس إصلاحات هيكلية في القضاء والأمن لضمان عدم تكرار الانتهاكات.”
وتضيف أن وقف الصراع وتشكيل لجان تحقيق مستقلة وتوعية المجتمع “خطوات أولى لا غنى عنها.”
وفي السياق نفسه، توضح جمعية 'حياة أفضل للتعايش والتنمية' أن العدالة الانتقالية مشروع وطني يتجاوز القانون إلى إعادة بناء المجتمع: “العدالة الانتقالية عملية شاملة لمعالجة آثار الصراع وحفظ الذاكرة الجمعية وضمان مشاركة الضحايا والفئات المهمشة في صياغة مستقبل قائم على العدالة والمساواة.”
تشير المنظمات إلى واقع معقد يعوق دورها، بدءًا من استمرار الحرب وتعدد مراكز القرار وصولًا إلى غياب الإرادة السياسية.
يقول وليد الجبر: “غياب الإرادة السياسية واستمرار الصراع أهم ما يعرقل إنشاء آليات وطنية مستقلة… كما أن ضعف استقلالية القضاء يشكل عائقًا أمام أي مسار للمساءلة.”
ويشير تقرير Justice4Yemen Pact (2023) إلى “نقص الوعي المجتمعي والخوف من الانتقام وغياب التنسيق بين منظمات المجتمع المدني”، معتبرًا أن هذه العوامل تجعل المسار هشًا.
وترى عديلة الخضر أن الانقسامات والتهديدات الأمنية “تصعب الوصول إلى الضحايا أو التوثيق بحيادية.”
تجمع المنظمات على أن العدالة الانتقالية لا تتحقق دون إشراك الضحايا والنساء والفئات المهمشة.
يقول ناصر الصانع: “يجب ضمان تمثيل النساء والفئات المهمشة في لجان المصالحة وهيئات القرار… وتمكينهم من تصميم برامج العدالة وجبر الضرر.”
ويقترح وليد الجبر إنشاء “لجان استماع محلية تمكن النساء والمهمشين من التعبير عن معاناتهم، مع توفير حماية قانونية ونفسية واقتصادية”، مشددًا على ضرورة المقاربة الحساسة للنوع الاجتماعي.
تؤكد جمعية 'حياة أفضل' أن الدعم الدولي ضروري لتقوية قدرات المنظمات اليمنية والضغط على الأطراف لإدراج العدالة في أولوياتها، إضافة إلى حماية المدافعين عن حقوق الإنسان.
ويشير تقرير DAWN MENA (2022) إلى أن “غياب الدعم الدولي الحقيقي يجعل المجتمع المدني في مواجهة تحدٍ يفوق إمكانياته، بينما تحتاج البلاد إلى شراكات دولية عادلة لبناء ذاكرة وطنية جماعية.”
تقترح منظمات المجتمع المدني “تشكيل هيئة وطنية مستقلة تضم الضحايا والمجتمع المدني”، و“توثيق شامل للانتهاكات بدعم فني دولي”، إلى جانب “إطلاق برامج تعويض وإصلاح مؤسسي في القضاء والأمن”، و“بناء الذاكرة الوطنية عبر مبادرات مصالحة مجتمعية وحوار محلي”.
تعيش اليمن واقعًا متصدعًا وذاكرة محملة بانتهاكات عميقة، وفي هذا السياق تصبح العدالة الانتقالية ضرورة وطنية لإعادة بناء الثقة واستعادة معنى الدولة.
ويغدو الحديث عن سلام مستدام بلا قيمة حين يُبنى على تجاهل الضحايا أو تجاوز الألم، وحين تُترك الانتهاكات بلا مساءلة أو تفكيك لأسبابها.
ويؤكد صوت المجتمع المدني أنه ركيزة أساسية، لا طرفًا هامشيًا، في رسم مستقبل يقوم على الإنصاف والمساءلة والمصالحة.
وقد أدركت منظمات المجتمع المدني أن غياب المساءلة يعيد إنتاج المآسي، وأن أي سلام لا ينصف الضحايا لن يكون سوى هدنة عابرة. ومن هنا، يصبح إشراك المجتمع المدني في صياغة وتنفيذ سياسات العدالة الانتقالية، وبدعم دولي جاد، الطريق الأكثر صدقًا نحو وطن يتسع للجميع، ويؤمن بأن: لا سلام بلا عدالة، ولا عدالة بلا حقيقة، ولا مستقبل بلا إنصاف الماضي.