تتواتر بشكل شبه يومي أخبار آثار يمنيّة في مزادات عالمية، والأدهى هي عروض يمنيّة لآثار للبيع على مواقع محلية على شبكة الإنترنت، في دلالة على عِظم الخسارة وفداحة النزيف الذي يهدد الذاكرة الحضارية اليمنيّة، وذلك في غفلة من أبناء البلد المشغولين بأخبار الصراع، أو ربما في غمرة تجاهل المسؤولين منهم، الذين قد يكون بعضهم شركاء في استثمار هذا النزيف، الذي لم يبدأ، للأسف، مع الحرب، بل كان متوفرًا قبلها، لتشُكل له الحرب فرصة تفاقم فيها الوضع.
وفي هذا السياق، يعرض مزاد بلاكاس الفرنسي، الأربعاء المقبل، رأس تمثال يمنيّ من المرمر، في سياق مسلسل من عروض الآثار اليمنية في المزادات العالمية، على هامش ما يشهده البلد من احتراب منذ أكثر من عشر سنوات.
وأوضح الباحث في آثار اليمن في الخارج، عبدالله محسن، أن رأس التمثال منحوت بإتقان من حجر المرمر ذي العروق الكريمية والرمادية، ويتميز بأسلوب واقعي يُبرز ملامح الوجه العريضة والعينين الغائرتين، وتبقى إحدى العينين محتفظة بتطعيمها الأصلي المصنوع من الصدف والحجر الجيري، داخل إطار داكن من مادة قارّية.
وأضاف في منشور على فيسبوك: “تبدو الشفتان مصوغة برقة، والأنف مستقيم، أما الشعر فقد رُسم بخطوط دقيقة محفورة تغطي فروة الرأس ومؤخرة العنق. ويُلاحظ على السطح بعض التشققات الطفيفة وآثار الصقل القديم التي تشهد على عراقة القطعة وزمنها السحيق”.
وقال: “كانت هذه الرؤوس النصفية تُوضع في محاريب المقابر بجنوب الجزيرة العربية، لتجسّد صورة المتوفى وتخلّد ذكراه، في تقليد فني يجمع بين الرمزية الجنائزية والهُوية المحلية في فن النحت العربي الجنوبي القديم”.
وكان محسن أعلن، في وقت سابق، عن عرض ثلاث قطع أثرية من أجمل آثار اليمن في21 نوفمبر/ تشرين الثاني في “مزاد الآثار الجميلة والفنون القديمة” الذي تنظمه غاليري زاكي في فينا بالنمسا.
وحسب المزاد، فإن “العديد من الأعمال المعروضة في هذا المزاد تنتمي إلى مصادر مرموقة ومجموعات تاريخية، بما في ذلك متحف موجان للفنون الكلاسيكية في الريفييرا الفرنسية، ومتحف زيلنيك استفان للذهب في جنوب شرق آسيا، بالإضافة إلى عدد من هواة جمع التحف والتجار الأسطوريين مثل تشارلز إيدي، وروبرت وايس، وجون إسكينازي، وفايز بركات، وسام وميرنا مايرز، وآلان وسيمون هارتمان”.
مقبرة “تمنع”
وأوضح أن إحدى هذه القطع من القرن الأول قبل الميلاد، “منحوتة بشكل واضح على شكل رأس امرأة بأنف طويل ومستقيم، وشفتين بارزتين، وذقن مدبب، وعينين كبيرتين لوزيتين، أسفل حواجب منحوتة بدقة، وشعر مربوط للخلف خلف الأذنين”. ارتفاعها 18.5 سم، أما وزنها 4 كيلوغرام.
وحسب كاتالوغ المزاد فإن “رؤوس المرمر من هذا النوع مزودة بالجبس وتوضع في مكانة مستطيلة مرتفعة على لوحة من الحجر الجيري المنقوش، موجهة لمواجهة المشاهد مباشرة. تُظهر الأمثلة تجاويف عيون وحواجب كبيرة مثقوبة مُجهزة للترصيع، وهي سمات موثقة على رؤوس جنوب شبه الجزيرة العربية في المتحف البريطاني، حيث كانت الحواجب والبؤبؤات تُملأ بالزجاج أو الحجر، وعلى شواهد جنائزية ذات صلة نُقشت عليها أسماء المتوفى أو عشيرته. تُشير مواقع الاكتشافات وسجلات المتاحف إلى أن هذه الأعمال تعود إلى الممالك الرئيسية في اليمن القديم، بما في ذلك قتبان (بيحان/تمنّع) وسبأ (مأرب)، مما يشير إلى استخدام إقليمي واسع النطاق لمثل هذه المعالم التذكارية”.
وأضاف: “يُوضح رأس أنثى شهير من مقبرة تمنع (مريم) بشكل أكبر بنية النوع، والشعر المضاف إليه الجص بالإضافة إلى العينين المطعمتين باللازورد أو الزجاج الأزرق، مع تأكيد السياق الجنائزي. تُعزز التماثيل الجنائزية المماثلة المصنوعة من المرمر والشواهد في مجموعات المتاحف مثل المتحف البريطاني دورها كعلامات قبور أو مكونات لآثار المقابر في جميع أنحاء اليمن”.
وقال: “تعود ملكية هذه القطعة إلى جوزيف أوزان، غاليري ساماركاند، باريس، فرنسا، تم اقتناؤها من مجموعة سويسرية خاصة، مع إقرار كتابي من المالك السابق يفيد بأن هذه القطعة من مجموعة والده التي اقتناها قبل عام 1971”.
“تُرفق بهذه القطعة نسخة من هذه المذكرة الموجهة إلى غاليري ساماركاند، بتاريخ 2 ديسمبر/ كانون الأول 2011. غاليري ساماركاند هو معرض للآثار في باريس، تأسس عام 1973، ويتخصص في علم الآثار والفن الآسيوي والفن الإسلامي. منذ عام 2013، تُديره سابرينا أوزان، مُواصلةً أعمال والدها جوزيف أوزان. يشتهر المعرض بتوريد القطع الفنية لمؤسسات فنية كبرى مثل متحف اللوفر، ومتحف غيميه، ومتحف متروبوليتان للفنون في نيويورك”.
وأورد محسن نقلًا عن أحد خبراء المزاد حول مملكة سبأ القديمة إضاءته: “كانت تتحكم في طرق البخور التي تنقل اللبان والمر من جنوب شبه الجزيرة العربية، اليمن، إلى البحر الأبيض المتوسط. وبسيطرتها على ممرات القوافل عبر منافذ مأرب – شبوة – قانا (بئر علي) والبحر الأحمر، استفادت سبأ من الجمارك والدبلوماسية والتجارة التي أقرتها المعابد لتزويد الأسواق الرومانية والنبطية والمصرية بمنتجاتها في ذروة الطلب.
وشهدت تلك الفترة أيضاً اجتياز سبأ لموجة صعود القوة الحِميرية وحملة إيليوس غالوس الرومانية الفاشلة (26-24 قبل الميلاد)، مما أبرز الأهمية الاستراتيجية للمنطقة. باختصار، جعل إتقان سبأ للعطريات منها ركيزة أساسية للتجارة في أواخر العصر الهلنستي وأوائل العصر الروماني، مع تأثيرات ثقافية ونقدية ملموسة على نطاق واسع في جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط”.
ويقدر محسن عدد القطع الأثرية اليمنيّة التي تسربت للمزادات بأكثر من 23 ألف قطعة.
فيما ذكر بيان لهيئة الآثار والمتاحف بصنعاء، في مارس/ آذار، أن “عدد القطع الأثرية التي تم السطو عليها وتهريبها إلى خارج البلد منذ عام 1994 حتى اليوم بلغت أكثر من 13 ألف قطعة أثرية، منها نحو ثمانية آلاف قطعة أثرية تهم نهبها وتهريبها إلى خارج البلد خلال فترة الحرب على اليمن حسب بعض المعلومات والمصادر المعتمدة لدى الهيئة”.
وكان تقرير استقصائي لمركز بحثي يمنيّ، حصر ووثق 4265 قطعة أثرية يمنية منهوبة ومهربة، تم عرضها في المزادات الإلكترونية في ست دول خلال الفترة 1991- أغسطس/ آب 2022، منها 2610 قطع أثرية تم نهبها وتهريبها منذ بدء الحرب في 2015.
عن أبرز وأكثر الآثار اليمنية، التي تمثل غالبية وأهم القطع المهربة خلال الحرب، أوضح محسن في حديث سابق لـ”القدس العربي”: “تعد النقوش المسندية وشواهد القبور والمجسمات النصفية والبرونزيات أكثر الآثار المهربة خلال فترة الحرب”.
ما يتعلق بأهم القطع الأثرية اليمنية التي خرجت من البلد وتمثل خسارة كبيرة جدا للذاكرة قال: “تعد النقوش المسندية والزبورية أهم القطع المهربة، لأنها تقدم تاريخاً مكتوباً لليمن القديم، من حيث سردها للأحداث والوقائع والشخصيات والواقع الاجتماعي والسياسي والقانوني، ومن خلالها يمكن تأسيس سردية مترابطة ومنطقية لقصتنا كشعب يعيش اليوم في دوامة تيه كبيرة متكررة عبر التاريخ”.
وزادت بفعل الحرب المستعرة في اليمن أعمال نبش ونهب وسرقة المواقع الأثرية، لا سيما مع تعدد سلطات الحرب، وتجاهلها أهمية حماية المواقع الثقافية على حساب تركيز اهتمامها على جبهات القتال.
وكان وضع الآثار هناك قبل الحرب سيئًا أيضًا، إذ لم تتوفر حماية لجميع المواقع الأثرية، ما جعل عمليات النبش والنهب والسرقة والتهريب متواصلة، وهي العمليات التي وفرت لها الحرب بيئة مواتية؛ ما يتسبب في استمرار التهريب المنظم لها.
ويفتقد اليمن لتوثيق كامل لبيانات القطع الأثرية المحفوظة في متاحفه، التي ما زال معظمها مغلقا بفعل الحرب، ولا يتوفر لها إمكانات الحفظ والتخزين الملائم.
وظهرت البدايات الأولى لتهريب الآثار اليمنية منذ بدء رحلات الاستكشاف التي قام بها العديد من المستكشفين، الذين زاروا اليمن بغية التعرف إلى ما تحويه من وثائق وكنوز وآثار منذ القرن الثامن عشر الميلادي.
وكانت أول بعثة أوروبية وصلت إلى اليمن عام 1763 تتكون من خمسة علماء من الدنمارك والسويد وألمانيا برئاسة الدنماركي “نيبور”.
ومن ذلك الوقت بدأ تسرب قطع الآثار اليمنية إلى خارج اليمن عبر من وصل من الرحالة والباحثين، وبدأ ما يُعرف بالتجارة لبيع الآثار من قبل المواطنين للرحالة الأجانب.
وكانت أعمال البحث والتنقيب مستمرة من قبل عدد من البعثات الأجنبية واليمنية في كثير من مناطق البلاد، إلا أنها توقفت مع اندلاع الحرب، ما أتاح الفرصة للنبش والنهب والتهريب المنظم من قبل لصوص التاريخ.