من بعيد، تبدو مقبرة الكومنولث العسكرية في عدن أشبه بورشة بناء مهجورة. لا بد من قطع مسافة قصيرة خارج المدينة للعثور عليها، حيث تمتد مساحات خالية ومغبرة. البريطانيون غادروا قبل أن يملؤوها بالضحايا، سواء من جانبهم أو من خصومهم. وعند الاقتراب، يظهر تجمع صغير من شواهد القبور، تتضح عليها أسماء عائلات ذات جذور أنغلوساكسونية: آرمسترونغ، موفات، بارتلي، بيل. وإلى جانبها شعارات الوحدات: قوات الخدمة الجوية الخاصة (SAS)، فوج المظليين، وفيلق المهندسين الكهربائيين والميكانيكيين الملكي. جميعها تعود إلى الفترة بين 1965 و1967.
كانت تلك سنوات ما يسميه البريطانيون “حالة الطوارئ في عدن”، والتي انتهت بانسحاب لندن من آخر معاقلها الإمبراطورية. ورغم أن لجنة قبور الكومنولث لا تشرف على المقبرة، إلا أن السلطات المحلية تحافظ عليها بحالة مقبولة، وإن متواضعة.
وأثناء مغادرتنا، اقترب منا شاب ملتحٍ وسأل مرشدنا بالعربية: “لماذا ما زالوا هنا؟” فاكتفى المرشد، وهو ضابط في الحرس الرئاسي التابع للسلطة المحلية، بهز كتفيه قائلاً: “إنهم جزء من تاريخنا.” أما الشاب فظل يراقبنا بصمت ونحن نغادر ــ نحن الأجانب القادمين من الولايات المتحدة وإسرائيل.
جاء البريطانيون إلى عدن عام 1839. وبعد رحيلهم عام 1967، سادت فترة من الارتباك أعقبها قيام جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية الموالية للاتحاد السوفيتي. وكغيرهم من القوى الاستعمارية، ترك السوفييت بصماتهم هنا وهناك: جداريات باهتة تُظهر عمالاً وجنوداً جنوبيين يحتفلون بالنصر، ولافتات مزينة بنجوم حمراء غمرها غبار عدن. استمرت الجمهورية حتى عام 1990، حين جرى توحيد اليمن لفترة قصيرة. أما اليوم، فقد انقسمت البلاد مجددًا، بينما تتصارع قوى جديدة على السيطرة.
كان هذا يبدو يومًا ما بعيدًا عن إسرائيل والمشرق. لكنه لم يعد كذلك. فمنذ نوفمبر/تشرين الثاني 2023، تخوض جماعة الحوثي المدعومة من إيران حرب صواريخ مع إسرائيل. وقدرتهم على الإيذاء لا تضاهي قدرات رعاتهم الإيرانيين، لكنهم أثبتوا صلابة واستمرارية. وعلى عكس إيران وحزب الله، رفضوا وقف إطلاق النار. حتى اغتيال إسرائيل لرئيس وزراء الحوثيين وعدد من وزرائه مؤخرًا لم يدفعهم إلى التراجع.
مضيق باب المندب: ورقة قوة ونفوذ
لم تأتِ القوى الاستعمارية القديمة إلى جنوب اليمن بدافع الإحسان، بل بسبب الموقع الاستراتيجي. يمتد الساحل الجنوبي لليمن على مضيق باب المندب، أو “بوابة الدموع”، الذي يربط المحيط الهندي بخليج عدن والبحر الأحمر وصولاً إلى قناة السويس والبحر المتوسط.
لا يتجاوز عرض المضيق عند أضيَق نقطة 30 كيلومترًا، وتعبره سنويًا نحو 10% إلى 12% من حركة التجارة البحرية العالمية. من يسيطر عليه يمتلك ورقة نفوذ خطيرة: إما ضمان أمن الملاحة إذا كان الهدف الاستقرار، أو استخدامه كورقة ابتزاز عبر التهديد بالتعطيل. لهذا السبب تناوبت الإمبراطوريات القديمة على السيطرة عليه، وهو السبب نفسه وراء اشتداد الصراع اليوم بين قوى إقليمية ودولية، تُديره جزئيًا عبر وكلاء.
حاليًا، يتمحور الصراع على هذا الممر بين إيران، التي تستخدم الحوثيين كذراع لها، وبين تحالف مناوئ يضم بدرجات متفاوتة الإمارات والسعودية والولايات المتحدة وإسرائيل، مع الاستعانة بحلفاء محليين.
صعود الحوثيين وخصومهم
في عام 2011، أطاحت انتفاضة شعبية بالرئيس علي عبدالله صالح، الذي حكم البلاد منذ عام 1978. لكن سقوطه لم يؤدِّ إلى سلام أو حكم تمثيلي. تفجرت الصراعات الداخلية، وسارعت القوى الإقليمية لملء الفراغ.
عام 2014، تقدمت جماعة الحوثي من معاقلها في صعدة للسيطرة على صنعاء، وحاولت التوجه نحو باب المندب. لكن هجوم التحالف الذي تقوده السعودية في 2015 أوقفهم بعد معارك عنيفة. ومع ذلك، تمكنوا من السيطرة على شريط ساحلي واسع على البحر الأحمر يضم موانئ الحديدة والصليف ورأس عيسى.
هكذا جرى تفادي سقوط المضيق في يد إيران مباشرة، لكن اليمن انقسم مجددًا. واليوم يستخدم الحوثيون الساحل الذي استولوا عليه لتصعيد هجماتهم على الملاحة الدولية تحت شعار “دعم غزة”، بينما يستفيدون من الأجندة الإيرانية. أما القتال البري داخل اليمن، فرغم اتفاق ستوكهولم 2018، فإنه لم يُحسم.
الحوثيون يسيطرون بقبضة صارمة، لكنهم يواجهون قوى متفرقة، أبرزها المجلس الانتقالي الجنوبي بقيادة عيدروس الزبيدي، الذي يسعى لإعادة دولة جنوبية مستقلة. قواته تشكل العمود الفقري على جبهات أبين وشبوة ولحج والضالع. فيما تتمركز قوى أخرى، منها قوات مرتبطة بحزب الإصلاح الإسلامي، في جبهات مختلفة.
الوضع يبقى هشًا. كما قال علي الكثيري، رئيس الجمعية الوطنية للمجلس الانتقالي: “هناك وقف إطلاق نار، لكنه غير موجود فعليًا على الأرض. في ثلاثة جبهات شن الحوثيون هجمات خلال الأيام الماضية بالطائرات المسيّرة وقذائف الهاون.”
خطوط المواجهة
في محافظة الضالع، ظهرت الفوارق في التسليح بوضوح لصالح الحوثيين. لكن اللواء عبدالله، القائد الميداني للمجلس الانتقالي والبالغ 72 عامًا، بدا يتحرك بخفة وسط الجبال، مستعيدًا خبرته الطويلة منذ أن التحق بالحرس الشعبي عام 1968.
“لا حرب ولا سلام هنا”، قال اللواء، مشيرًا إلى خطوط التماس. “نتمسك بخط دفاعي. أحيانًا ينفذ الحوثيون غارات، لكن قواتنا تتصدى لهم.” وأضاف: “نحن والولايات المتحدة في خندق واحد ضد إيران. الحوثيون ذراع لإيران، ونحتاج إلى دعم وأسلحة حديثة لكسر مشروعها.”
في عدن، عرض اللواء صالح سلام قائمة مفصلة بالاحتياجات العسكرية: من الرشاشات وأنظمة الدفاع الجوي إلى الطائرات المسيّرة وأجهزة الرؤية الليلية. الفجوة في التسليح تبقى كبيرة، رغم الكفاءة الميدانية لمقاتلي المجلس.
القاعدة في جزيرة العرب
بالتوازي، تجري معركة أقل ظهورًا ضد تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، أحد أقوى فروع الشبكة الجهادية العالمية. حتى 2022، سيطر على مناطق في أبين، قبل أن تستعيدها قوات المجلس الانتقالي. ورغم خسارته الأرض، تبقى أبين مركزًا لنشاطه.
يؤكد مسؤولون في المجلس الانتقالي والحكومة وجود روابط تكتيكية بين الحوثيين والقاعدة، قائمة على أعداء مشتركين. وزير الدفاع محسن الداعري قال: “عندما سيطر الحوثيون على صنعاء، ورثوا سجناء من القاعدة. عملوا معهم وأعادوا إطلاقهم. لديهم عدو مشترك، فتوصلوا إلى تفاهمات.”
ويضيف قادة المجلس أن مأرب الخاضعة للحوثيين تشكل اليوم ملاذًا آمنًا للقاعدة، بينما يقيم زعيمها سيف العدل في طهران. الهدف المشترك للطرفين، كما يقول مسؤولو الانتقالي، هو إفشال المجلس الجنوبي والسيطرة على كامل الساحل من المهرة شرقًا حتى باب المندب غربًا.
الطريق إلى الأمام
مع استئناف الحوثيين هجماتهم على الملاحة العالمية، لم يعد النزاع شأنًا محليًا. المجلس الانتقالي والحكومة المعترف بها دوليًا يعلنان استعدادهما للقيام بالدور الميداني لصد الحوثيين.
لكن في مواجهة الحوثيين في الحديدة، تحتاج هذه القوات إلى دعم دولي أكبر وإلى غطاء جوي خارجي. من دون ذلك، يبقى الصراع على الهيمنة في هذه الزاوية النائية من الشرق الأوسط بعيدًا عن الحسم.
الرابط ادناه لقراءة المادة من موقعها الأصلي: