منذ صدور القرار الأميركي الأخير، في 29 أغسطس الماضي، بمنع عدد من كبار المسؤولين الفلسطينيين، وفي مقدمتهم الرئيس محمود عباس، من حضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، بدا واضحًا أن ردود الأفعال الدولية لم ترتقِ إلى مستوى التوقعات ولا إلى حجم الآمال التي عُلّقت على مثل هذه المحطات التاريخية، خصوصًا في ظل الزخم المتصاعد نحو الاعتراف بدولة فلسطين.
انعقاد الدورة الثمانين للجمعية العامة المقرر انطلاقها في 23 أيلول/سبتمبر الجاري، والمخصّص لمناقشة موضوع «معًا نحقق الأفضل: ثمانون عامًا وأكثر من أجل السلام والتنمية وحقوق الإنسان»، جاء مشوبًا بقرارٍ يتناقض مع شعارات السلام والتنمية وحقوق الإنسان، ويضع النظام الدولي أمام اختبار جديد يتعلق بشرعية المؤسسات الأممية وحدود نفوذ الدولة المضيفة، ما لم تتكرر تجربة عام 1988 التي شهدت تصويت الجمعية العامة بالأغلبية الساحقة على نقل مقر اجتماعها من نيويورك إلى جنيف، لتمكين الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات من إلقاء خطابه التاريخي. خطابٌ أكّد فيه حق الفلسطينيين في الحرية والعودة وبناء دولتهم المستقلة، مختتمًا بعبارته الشهيرة: «إن الحرب تندلع من فلسطين والسلام أيضًا». وكانت تلك خطوة غير مسبوقة في تاريخ الأمم المتحدة، يصعب تخيل تكرارها اليوم في ظل المتغيرات الكبيرة التي شهدها العالم خلال سبعة وثلاثين عامًا.
في عام 1988، كانت القضية الفلسطينية لا تزال تحتل مكانة «القضية المركزية» للأمة العربية دون منازع. ولم تكن هناك قضايا أخرى (مثل الربيع العربي أو الإرهاب أو الحروب الأهلية) تنافسها على الأولوية في المشروع السياسي العربي. وكان دعم منظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت تُعَد آنذاك الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، هو القاسم المشترك الأدنى بين جميع الأنظمة العربية، بغض النظر عن توجهاتها الأيديولوجية. كما لم تكن هناك انقسامات فلسطينية/عربية حادة كما حصل بعد عام 2007.
وكان العرب أكثر قدرة على إنتاج موقف جماعي واضح في القضايا الفلسطينية، خصوصًا بعد إعلان الاستقلال الفلسطيني في الجزائر (نوفمبر 1988)، الذي حظي باعتراف واسع عربي ودولي.
ويُضاف إلى ما سبق وجود قطبين عربيين بارزين (مصر والعراق). فرغم الانقسامات، كان هناك هيكل واضح للقوة: فمصر كانت قد استعادت مكانتها في الجامعة العربية بعد حرب أكتوبر واتفاقية كامب ديفيد، ولعبت دور الوسيط المحوري بين العالم العربي والغرب، بينما كان العراق في أوج قوته العسكرية بعد حرب الخليج الأولى ضد إيران (1980-1988)، ويتمتع بثقل اقتصادي وسياسي كبير.
وقد وفّر هذا التوزيع للثقل، رغم تنافسه، قنوات ضغط وتأثير أوضح بكثير مما نراه اليوم في ظل الفوضى متعددة الأقطاب. كما كانت القضية الفلسطينية آنذاك قادرة على توحيد الخطاب العربي الخارجي بشكل أوضح أيضًا.
وفي عام 1988، وفي ظل غياب الحروب الأهلية والانهيارات الكبرى، كانت معظم الدول العربية (باستثناء لبنان الذي كان غارقًا في حربه الأهلية) تحافظ على تماسكها الداخلي. فلم تكن المنطقة قد شهدت بعد انهيار الدولة في الصومال أو ليبيا أو اليمن أو سوريا، ولم يظهر بعد صعود تنظيمات إرهابية عابرة للحدود بجيش ودولة مثل داعش. وكان العنف منصبًّا بالدرجة الأولى على الصراع مع إسرائيل والصراعات بين الدول (مثل الحرب العراقية-الإيرانية)، لا داخلها.
ومع ذلك، فإن من المهم الإشارة إلى أن ذلك التماسك كان في جوهره هشًا وسطحيًا، إذ انقسمت الأنظمة بين محور معتدل (مصر، الأردن، ودول الخليج بعد مؤتمر فاس)، ومحور راديكالي (سوريا، ليبيا، الجزائر، ومنظمة التحرير نفسها إلى حدّ ما آنذاك، حيث بدأت كجزء من جبهة الرفض، ثم تحوّلت بعد إعلان الاستقلال في الجزائر نوفمبر 1988 إلى محور أقرب إلى المعتدلين). غير أن هذا الانقسام كان يخلق ديناميكيات يمكن إدارتها دبلوماسيًا، بخلاف حالة التفكك الحالية.
وبالمقابل، لم يكن القرار الأميركي بمنع ياسر عرفات مهيمِنًا بالكامل على «الغرب» ككتلة موحّدة. ففي تصويت الجمعية العامة بشأن نقل جلسة عرفات إلى جنيف، أيد 154 دولة القرار، فيما عارضته فقط الولايات المتحدة وإسرائيل، وامتنعت بريطانيا. وهذا يوضح أن واشنطن لم تنجح في حشد الغرب كله خلفها. بل إن الإعلام والأوساط الأكاديمية الغربية شهدت انتقادات علنية للمنع، باعتباره انتهاكًا لاتفاقية مقر الأمم المتحدة.
أما في الوقت الحالي، وفيما يخص القضية الفلسطينية تحديدًا، فنجد تماسكًا أوضح بين واشنطن وعدد من العواصم الغربية الكبرى في دعم إسرائيل أو تجنّب مواجهتها، رغم وجود خلافات أوروبية أحيانًا (خصوصًا في الاعترافات الرمزية بدولة فلسطين أو في المواقف الإنسانية من الحرب على غزة). ومع ذلك، يبقى القرار الأميركي أكثر تأثيرًا وضبطًا على المستوى الدولي، وهو ما انعكس في غياب أي حراك كبير وفاعل تجاه القرار الأميركي الأخير، سواء للضغط من أجل التراجع عنه أو للدفع نحو نقل مقر اجتماع الجمعية العامة إلى دولة أخرى.
•تداخل الحسابات
بالعودة إلى القرار الذي اتخذته الإدارة الأميركية بعدم منح تأشيرات دخول لعدد من كبار المسؤولين الفلسطينيين، من بينهم الرئيس محمود عباس، للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة المقبلة في نيويورك، فإنها خطوة تعكس تداخل الحسابات الداخلية الأميركية مع موازين الصراع الدولي، فالقرار، الذي بُرّر بذرائع مرتبطة بـ«الأمن القومي» و«رفض مكافأة الإرهاب»، يتجاوز في جوهره مجرد إجراء إداري أو بروتوكولي، ليغدو سابقة خطيرة في تاريخ الأمم المتحدة، إذ يحوّل مقر المنظمة من فضاء محايد مفتوح أمام جميع الدول الأعضاء، إلى أداة سياسية تخضع لمزاج الدولة المضيفة وحساباتها الضيقة.
من الناحية القانونية، يمثّل هذا الموقف الأميركي انتهاكًا مباشرًا لاتفاقية المقر الموقّعة بين واشنطن والأمم المتحدة عام 1947، والتي تنص على التزام الدولة المضيفة بتمكين جميع الممثلين المعتمدين من الدول الأعضاء من الوصول إلى مقر المنظمة دون عوائق. وقد أشارت السلطة الفلسطينية في بياناتها إلى هذا الجانب، معتبرة أن القرار يندرج في إطار سياسة العزل والتهميش الممنهج التي تستهدف إسكات الصوت الفلسطيني على المنابر الدولية، كما دعت إلى تدخل أممي لوقف ما قد يصبح سابقة تقوّض حياد المقر.
فمن زاوية مؤسسية، يطرح القرار إشكالية قانونية مباشرة تتعلق باتفاقية مقر الأمم المتحدة مع الولايات المتحدة (Host Country Agreement). هذه الاتفاقية تفرض على الدولة المضيفة تسهيل وصول جميع الممثلين المعتمدين إلى مقر المنظمة وممارسة أعمالهم دون عوائق تعود إلى حسابات سياسية داخلية. وقد اعتبر الفلسطينيون، ومعهم أطراف دولية، أن القرار خرق صريح لالتزامات واشنطن.
أما من زاوية سياسية، فإن الإعلان يعدّ فعلاً سياسياً من طراز جديد يتمثل في استخدام «سلاح التأشيرة» كأداة ضغط استراتيجي لإعادة تعريف قواعد التمثيل الدولي. ومن هنا، فإن إقصاء القيادة الفلسطينية عن الجمعية العامة يعني عمليًا إفراغ أهم منصة عالمية للتعددية من مضمونها، وإضعاف قدرة الفلسطينيين على عرض قضيتهم أمام المجتمع الدولي.
الردّ الفلسطيني يجب أن يستبعد، في المنظور القريب، خيار قيام الرئيس محمود عباس بانتداب ممثل فلسطين في الأمم المتحدة الدكتور رياض منصور لإلقاء كلمته وتمثيله في الاجتماعات المقرَّرة مع الوفود، أو الاكتفاء بإلقاء الكلمة عن بُعد. كما ينبغي ألا يقتصر الرد على مجرّد التنديد، بل أن يتجه نحو تعزيز استراتيجية «التدويل» عبر مسارين متوازيين:
أولهما، تكثيف الجهود للحصول على اعترافات أوروبية وأممية متزايدة بدولة فلسطين، بما يُضعف منطق العزل الأميركي. ويأتي ذلك في وقت يتصاعد فيه حراك الاعتراف بدولة فلسطين، حيث أطلقت خمس عشرة دولة غربية، بينها فرنسا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا والبرتغال، في يوليو/تموز الماضي، نداءً جماعيًا للاعتراف بالدولة الفلسطينية ووقف إطلاق النار في قطاع غزة. كما أعلنت دول أخرى، بينها بريطانيا وفرنسا وأستراليا، عزمها الاعتراف بدولة فلسطين خلال اجتماعات الجمعية العامة المقبلة.
وثانيهما تصعيد المسار القانوني من خلال محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، بهدف تحميل إسرائيل ومن يساندها تبعات قانونية ملموسة. وقد يشكل قرار المنع الأميركي دافعًا إضافيًا للقيادة الفلسطينية لتعميق أدواتها القانونية والدبلوماسية خارج المنابر التقليدية التي تتحكم فيها واشنطن.
•ردود أفعال.. رفض لفظي وانقسام استراتيجي
اعتبرت السلطة الفلسطينية أن القرار «ينتهك الاتفاقيات الدولية»، مطالبةً الأمين العام ومجلس الأمن بالتدخل، ومحذّرةً من أن تُستخدم هذه الخطوة لتبرير ممارسات عقابية أوسع.
أما الردّ العربي الرسمي فجاء في معظمه مُدانًا، لكنه متباين: بيانات استنكار من بعض الدول، واستنكار واسع في بيان اللجنة الوزارية العربية-الإسلامية التي تضم وزراء خارجية مصر وقطر والسعودية والأردن والبحرين وتركيا وإندونيسيا ونيجيريا وفلسطين، إلى جانب الأمينين العامين لجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي. وقد أكد البيان أن القرار يتعارض مع القانون الدولي و«اتفاقية المقر».
في المقابل، غاب موقفٌ حاسم عن بعض العواصم العربية، إمّا لاعتبارات تحالفية أو بسبب الروابط الاستراتيجية مع الولايات المتحدة. ويعكس هذا التشتت ضعف اللحمة العربية ويُقلّل من فاعلية أي ردّ جماعي رادع.
كما صدرت مواقف رافضة من منظمة التعاون الإسلامي، التي اعتبرت الخطوة تهديدًا مباشرًا لحياد الأمم المتحدة. أما إقليميًا، فقد كانت تركيا الأكثر صراحة، إذ وصفت القرار بأنه «خطأ استراتيجي» يضع الولايات المتحدة في مواجهة مع مبادئ النظام الدولي.
دوليًا، انقسم الموقف الأوروبي: فقد دعت بروكسل إلى إعادة النظر بالقرار والتعبير عن «القلق العميق»، فيما طالبت دول مثل إيرلندا وبلجيكا بضمان حضور الوفد الفلسطيني. أما فرنسا وإسبانيا، فاتخذتا مواقف نقدية واضحة، بينما فضّلت عواصم أخرى نهج الحذر خشية الدخول في مواجهة مباشرة مع واشنطن.
وذهب وزير خارجية لوكسمبورغ، كزافيه بيتيل، أبعد من ذلك حين اقترح نقل أعمال الجمعية العامة مؤقتًا إلى جنيف لضمان الحضور الفلسطيني.
في الأمم المتحدة، أكد المتحدث الرسمي ستيفان دوجاريك أن المنظمة ستناقش المسألة مع وزارة الخارجية الأميركية، تماشيًا مع اتفاقية المقر. أما في تل أبيب، فقد استُقبل القرار بترحيب باعتباره «ردًا على الحرب القانونية ضد إسرائيل».
وبشكل عام، يعكس التباين في المواقف الغربية مأزقًا أكبر يتعلق بمدى استعداد المجتمع الدولي لمواجهة سياسة أميركية تمس قواعد اللعبة الأممية ذاتها، لكنه في الوقت نفسه يُظهر هامشًا يمكن استغلاله دبلوماسيًا إذا حشدت السلطة والفاعلون المدنيون ضغطًا ذكيًا ومدعومًا قانونيًا.
سيما وأن إدانة رفض منح التأشيرات تمثل واحدة من القضايا القليلة التي حظيت بإجماع زعماء الاتحاد الأوروبي الـ27 في كوبنهاغن، السبت 30 أغسطس، في حين يواجهون صعوبات منذ أشهر للاتفاق على عقوبات ضد إسرائيل بسبب جرائم الإبادة والتجويع التي ترتكبها في قطاع غزة، وفقًا لتقارير صحفية.
ويضاف إلى ذلك إمكانية استثمار ميزة تعدد الأقطاب؛ فظهور الصين كمنافس استراتيجي، وصعود روسيا (رغم ضعفها الاقتصادي) كقوة عسكرية مزعجة للنظام الغربي، وبروز قوى إقليمية مثل تركيا والهند وإيران، يعطي الحلفاء الأوروبيين خيارات ومساحات للمناورة لم تكن متاحة من قبل. كما أن أوروبا، وخاصة فرنسا وألمانيا، تسعى لبناء «استقلالية استراتيجية» وعدم الرهان الكامل على الولايات المتحدة، خاصة بعد سياسات الرئيس ترامب التي هدّدت حلف الناتو.
ولذلك أصبح الخلاف بين الحلفاء علنيًا وصريحًا، وظهرت مواقف ناقدة بشدة لإسرائيل (الحليف الرئيسي للولايات المتحدة) وتدعو لفرض عقوبات، وأصبحت هذه الفجوة في المواقف ظاهرة للعيان وليست خلف الأبواب المغلقة. على سبيل المثال، تصاعدت التوترات بين فرنسا وإسرائيل؛ ففي حين أعلن إيمانويل ماكرون في تموز/يوليو الماضي أن باريس ستعترف بدولة فلسطين خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر المقبل، انتقدت نائبة وزير الخارجية الإسرائيلي، شارين هاسكل، الرئيس الفرنسي لمحاولته «دفع جميع الدول» إلى أن تحذو حذوه، واتهمته بتقديم «هدية دولة لحماس».
وفي مقابلة مع الإذاعة الفرنسية العامة، أعلنت النائبة الإسرائيلية أن إغلاق القنصلية الفرنسية في القدس «مطروح على طاولة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو». ووفقًا لمسؤولين إسرائيليين كبار، يمكن لإسرائيل أيضًا أن تستولي على ممتلكات فرنسية في البلاد وفي الأراضي التي تم ضمها، بما في ذلك قبر الملوك في القدس الشرقية، وفقًا لتقارير Euronews.
•حيادية المنظومة الأممية
بشكل عام، لم تكن ردود الأفعال الغربية والعربية عند المستوى المطلوب، مما يخلق حالة من الفوضى وعدم اليقين تجعل أي عمل جماعي متماسك مهمة شبه مستحيلة. ومع ذلك، وبعيدًا عن تفصيل تعقيدات الجيوسياسية في العلاقات الدولية وتأثيرها على مسار القضية الفلسطينية، فإن القرار يشكل اختبارًا لمكانة الأمم المتحدة كمنبر عالمي مستقل.
فإذا كان المقر الأممي في نيويورك قد تحول إلى أداة ضغط بيد واشنطن، فإن ذلك يضعف ثقة الدول الأعضاء في حيادية المنظومة الأممية برمتها، ويغذي الدعوات المتصاعدة لإصلاح مجلس الأمن والجمعية العامة على نحو يحدّ من هيمنة الدولة المضيفة. ومن هذه الزاوية، يبدو أن القرار الأميركي فتح جبهة جديدة من النقاش، ليس حول القضية الفلسطينية فقط، بل حول مستقبل النظام الدولي ذاته: هل هو نظام قائم على قواعد قانونية ملزمة للجميع، أم مجرد فضاء تتحكم فيه القوة والهيمنة؟
•سياق استراتيجي أشمل
لا يمكن فصل هذا القرار عن سياق أشمل من السياسات الأميركية. فقد سبقه إغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن عام 2018، ووقف التمويل عن وكالة الأونروا، وغيرها من القرارات. كلها إجراءات تشكل في مجموعها سياسة عقاب جماعي تهدف إلى شلّ القدرة الفلسطينية على الحراك الدولي، وإجبار القيادة على قبول شروط التسوية الإسرائيلية.
ويأتي القرار أيضًا في وقت تتعرض فيه واشنطن لانتقادات متصاعدة بسبب دعمها غير المشروط لإسرائيل في حربها على غزة، وما ترتكبه من سياسة تجويع أودت بحياة مئات الأطفال والمدنيين. هكذا، تسعى الإدارة الأميركية إلى تعويض عجزها الأخلاقي عبر خطاب متشدد يقدَّم داخليًا كدليل على الحزم في مواجهة الفلسطينيين، وخارجيًا كترجمة للدعم الاستراتيجي لإسرائيل، هذه الموازنة بين المناخ السياسي الداخلي واعتبارات التحالف الإقليمي هي مفتاح تفسير دوافع القرار.
إنها إذاً ليست مجرد مسألة تأشيرات، بل تعبير عن مأزق استراتيجي أميركي يربط شرعية النظام الدولي برؤية أحادية منحازة، ما يفتح الباب أمام صراع طويل حول طبيعة التعددية الدولية نفسها.
•تداعيات عملية فورية
لا يقتصر أثر القرار على قمة الجمعية العامة، بل يمتد إلى مستويات إنسانية وتعليمية وصحية: طلاب محرومون من فرص الدراسة، مرضى مهددون بفقدان فرص العلاج، وبرامج تعاون قد تتعطل بفعل قيود التأشيرات. برقية دبلوماسية مؤرخة في 18 أغسطس أظهرت أن القنصليات الأميركية تلقت تعليمات بتفعيل المادة 221 (g) من قانون الهجرة لإبطاء أو رفض منح التأشيرات لحاملي الجواز الفلسطيني، ما حوّل القرار من إجراء رمزي إلى سياسة تؤثر على حياة آلاف الفلسطينيين. بهذا المعنى، يصبح القرار أداة لعرقلة بنى المجتمع المدني والمؤسسات الوطنية الفلسطينية على مستوى الحياة اليومية.
•مخاطر أمام الفاعلين الدوليين
أخطر ما في القرار أنه يفتح الباب أمام سابقة خطيرة: فإذا أصبح استخدام التأشيرة كأداة تقييدية أمرًا مقبولًا، فسيتحوّل مقر الأمم المتحدة من منبر للقوانين إلى ساحة تفاوض على النفوذ. ولذا، فإن الاحتواء الفعّال يتطلب خطوات عاجلة من الفاعلين الدوليين: دعوة أممية رسمية لتأكيد الالتزام باتفاقية المقر، مبادرة أوروبية تقود مسعى دبلوماسيًا لإلزام واشنطن بالتراجع، طرح بدائل لعقد الجلسات في جنيف أو بروكسل، ولجوء فلسطيني منظّم إلى محكمة العدل الدولية للطعن في مدى التزام الدولة المضيفة بواجباتها.
ولأن القرار يشكّل سابقة تهدد النظام الدولي القائم على مبدأ المساواة في السيادة، وتمهّد لتصفية القضية الفلسطينية لا بالقوة العسكرية فحسب، بل عبر الإقصاء الدبلوماسي الممنهج، فإن النخب السياسية في الغرب والعالم العربي مدعوة اليوم لاتخاذ موقف حاسم: إما الدفاع عن مبادئ التعددية الدولية، أو السكوت على تحويل الأمم المتحدة إلى نادٍ مغلق لأصحاب الامتيازات.
وقراءة هذا التطور بعيون النخب السياسية – في الغرب كما في العالم العربي – يجب أن تتجاوز الإدانات الشكلية. فالقضية اليوم اختبار لمصداقية القواعد متعددة الأطراف. والخياران واضحان: إما التصدي لهذه السابقة بالعمل المؤسسي والقانوني والدبلوماسي المدروس، أو القبول بمسار جديد يجعل من إرادة الدولة المضيفة معيارًا أعلى من القانون الدولي. ومن المؤكد أن حماية الأمم المتحدة كفضاء حيوي للحوار تتطلب قرارات سريعة، موحّدة، وذات أثر عملي — لا من باب الخصومة مع واشنطن، بل من منطلق الدفاع عن ما تبقّى من مبادئ العدالة الدولية التي لا يجوز أن تُقاس بتقلّبات السياسة الداخلية.
أما الخيارات المتاحة أمام الفلسطينيين، فيمكن تلخيصها في ثلاثة مسارات متوازية:
تكثيف جهود التدويل عبر حشد الاعترافات بدولة فلسطين في المحافل الدولية والأوروبية؛
تصعيد المسار القانوني عبر المحاكم الدولية، لا سيما محكمة العدل الدولية، باستخدام الآليات التي تسمح بالطعن في انتهاك التزامات الدولة المضيفة؛
رفع مستوى المناورة الدبلوماسية بتحريك قضايا الإقصاء أمام مؤسسات الأمم المتحدة ذات الصلة لضمان سريان التمثيل الفلسطيني.
ويعد التصعيد القانوني والدبلوماسي في هذا السياق آلية ضرورية لتعويض القيود المفروضة على قنوات الوصول والحضور.
•الخلاصة
يمثل قرار المنع الأميركي أكثر من وسيلة لحرمان الفلسطينيين من منصة دولية؛ لأنه يعد في جوهره إعادة تشكيل لقواعد التمثيل الدولي على أساس القوة لا القانون. وبذلك يغدو اختبارًا مزدوجًا: للفلسطينيين في قدرتهم على ابتكار مسارات تتجاوز العراقيل الأميركية، وللمجتمع الدولي في مدى التزامه بمبادئ القانون الدولي في مواجهة سطوة القوة.
أما بالنسبة لواشنطن، فقد يُكسبها القرار نقاطًا سياسية داخلية قصيرة الأجل، لكنه يهدد على المدى البعيد بتآكل شرعيتها كـ«راعٍ للنظام الدولي»، ويُسرّع من ولادة نظام عالمي بديل يقوم على تعددية حقيقية لا تمنح التأشيرة لأحد وتحجبها عن آخر.
وعلى الرغم من المخاوف من أن القرار الأميركي قد «يفشل في إجهاض» الاعترافات بدولة فلسطين، إلا أن خيوط أمل يمكن تتبعها من خلال ما كشفه وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، الجمعة 5 سبتمبر الجاري، في تصريحات صحفية، حين قال: «لا يمكن مناقشة القضايا المتعلقة بفلسطين في غياب الفلسطينيين»، مشيرًا إلى أن تركيا تحركت دبلوماسيًا بالتنسيق مع عدة دول عربية وإسلامية، بينها فلسطين والسعودية ومصر وقطر والأردن وسلطنة عمان. هذه الدول أكدت موقفًا مشتركًا مفاده أن المؤتمر الأممي يجب ألا يتعطل، وأن الاعتراف بدولة فلسطين يجب أن يمضي قدمًا.
فهل ستنجح هذه الدول، بما تمتلكه من ثقل سياسي ودبلوماسي، في صناعة حدثٍ يعيد التوازن للنظام الدولي ويضع حدًا لهيمنة الدولة المضيفة، ويؤسس لمرحلة جديدة تُكرَّس فيها التعددية والشرعية الدولية، بدلًا من الاستسلام لابتزاز القوة؟ إن الإجابة عن هذا السؤال ستحدد ليس فقط مستقبل القضية الفلسطينية، بل أيضًا مصير النظام الأممي برمته في العقود المقبلة.