شهدت السنوات الأخيرة انتشاراً لافتاً لعدد من الادعاءات في بعض البرامج التلفزيونية المصرية، ارتبط كثير منها بمعلومات مضللة، ونظريات مؤامرة قديمة أُعيد تدويرها. هذه المزاعم تُقدَّم للمشاهدين كأنها حقائق ثابتة أو تحذيرات مؤكدة، على الرغم من أنها لا تقوم على أي أساس علمي. والأخطر أن المروجين لها غالباً شخصيات عامة أو إعلاميون غير مختصين، من دون الاستناد إلى مراجع علمية محكّمة، أو دراسات معتمدة.
يوثق التقرير أبرز الادعاءات المُذاعة عبر القنوات المصرية، ويفندها، اعتماداً على أبحاث منشورة في مؤسسات وجامعات ومجلات طبية وعلمية موثوقة.
في برنامج “آخر النهار” على قناة “النهار” المصرية، في 25 آب/أغسطس 2024، تحدث وسيم السيسي، أستاذ جراحات المسالك البولية، عن أن العلاج الكيميائي لمرض السرطان عديم الفائدة، بل يساعد فقط على تسريع وفاة المريض، قائلاً: “هيتمنع الكيماوي من العالم كله.. لأنه عرفوا إنه ممنّوش فايدة، فايدته إنه يخلص على المريض ويخلص بدري”. المذيع تامر أمين لم يعترض، بل كرر تأييده بعبارات مثل “صح.. مفهوم”؛ ما يمنح هذه المزاعم شرعية أمام الجمهور.
استخدام العلاج الكيميائي في علاج السرطان، حُسِم منذ سنوات طويلة وفقاً لعدة دراسات، أثبتت فائدة العلاج الكيميائي في علاج المرضى، وإطالة أعمارهم، مقارنةً مع الذين لم يتلقوا العلاج الكيميائي. ولا يزال العلاج الكيميائي مدرجاً ضمن قائمة منظمة الصحة العالمية للأدوية الأساسية في عام 2023، ولم يُحظر أو يُمنع استخدامه.
وبحسب المعهد الوطني للسرطان بالولايات المتحدة الأميركية، يُستخدم العلاج الكيميائي لعلاج السرطان، أو تقليل فرصة عودته، أو إيقاف نموه أو إبطائه.
أظهرت نتائج مراجعة منهجية على الحالات المتقدمة من سرطان الرئة ذي الخلايا غير الصغيرة NSCLC، أن إضافة العلاج الكيميائي إلى الرعاية الدائمة، يحسّن البقاء على قيد الحياة. هذه المراجعة أجرتها منظمة Cochrane -وهي شبكة عالمية غير ربحية متخصصة في مراجعة وتحليل الأبحاث الطبية والصحية- عام 1995 وحدّثتها عام 2012.
وأوضحت أن 29 من كل 100 مريض، تلقوا العلاج الكيميائي مع رعاية داعمة، ظلوا على قيد الحياة، مقارنةً بـ 20 من كل 100 تلقوا رعاية داعمة فقط.
ونشرت مجلة طب الأورام السريرية، في آذار/مارس 2011، تجربة سريرية شملت ألفاً و477 رجلاً، مصابين بأورام منوية من المرحلة الأولى، بعد استئصال الخصية، إذ جرت مقارنة العلاج الإشعاعي مع جرعة واحدة من دواء كاربوبلاتين (علاج كيميائي).
كما أثبتت التجربة أن العلاج الكيميائي فعال تقريباً مثل العلاج الإشعاعي في منع الانتكاس؛ إذ كان معدل البقاء الخالي من المرض بعد خمس سنوات، 94.7 في المئة في مجموعة كاربوبلاتين، و96.0 في المئة في مجموعة العلاج الإشعاعي، بفارق 1.3 في المئة، وهو فارق ضئيل بلا دلالة إحصائية، وفق المعهد الوطني للسرطان.
في برنامج “نظرة” على قناة “صدى البلد”، في 18 تموز/يوليو عام 2024، ادّعى الفنان محمد صبحي أن الولايات المتحدة قادرة على التحكم في الطقس، في إشارة إلى مشروع “هارب” (HAARP)، وأشار إلى أن موجة جفاف ضربت كوريا الشمالية كانت نتيجة تدخل أميركي للضغط عليها سياسيّاً؛ لاستيراد محاصيل القمح.
وأكد صبحي، أنهم استعانوا بمشروعات العالم الأميركي نيكولا تيسلا، الموجودة في مذكراته غير المنشورة، التي قال فيها إنه يملك أفكاراً ستقضي على البشرية، مشيراً بذلك إلى ما سمّاها مشروعاته المتعلقة باكتشاف الطاقة الكهرومغناطيسية.
مشروع “هارب” برنامج بحثي علمي لدراسة طبقة الأيونوسفير (50–400 ميل فوق سطح الأرض)، يُدار منذ عام 2014 من جامعة ألاسكا فيربانكس. أهم أدواته جهاز “IRI” الذي يرسل موجات راديوية عالية التردد (3.6 ميغاواط) لدراسة الاتصالات الفضائية والرصد العلمي.
ادّعى “صبحي” أن قائد سلاح الجوّ الأميركي صرّح عام 2022 بقدرة بلاده على التحكم في المناخ، رابطاً ذلك بمشروع “هارب”. إلا أن التحقق من هذا الادعاء يثبت أنه “زائف”، إذ لم يصدر أي تصريح من هذا النوع عن أي مسؤول عسكري أميركي. بحثنا عن تصريحات لقائد سلاح الجو الأميركي بشأن قدرة بلاده على التحكم في المناخ، خاصة على محطة “سي إن إن” الأميركية، كما ادّعى صبحي، ولم يثبت أنه أدلى بمثل تلك التصريحات.
في المقابل، ورد تصريح رسمي أقدم يعود إلى أيار/مايو 2014، حين قال ديفيد والكر، نائب مساعد وزير القوات الجوية لشؤون العلوم والتكنولوجيا والهندسة، خلال جلسة استماع في مجلس الشيوخ: “نحن ننتقل إلى طرق أخرى لإدارة الأيونوسفير، وهو ما صُمم هارب حقّاً للقيام به، لحقن الطاقة في الأيونوسفير للتمكن من التحكم فيه فعليّاً، ولكن ذلك العمل قد اكتمل”.
وبعد ذلك، أعلنت القوات الجوية الأميركية نيتها إغلاق المحطة لانتهاء الأغراض العسكرية المرتبطة بها، لينتقل المشروع رسميّاً في آب/أغسطس 2015 إلى إشراف جامعة ألاسكا فيربانكس.
تُجمع الدراسات العلمية والمصادر الرسمية على أن مشروع “هارب” لا يمتلك أي قدرة على التحكم في المناخ أو إحداث تغيرات في الطقس. فالموجات الراديوية، التي يطلقها المشروع، تعمل في نطاق ترددي عالٍ يُمتص داخل طبقة الأيونوسفير؛ وهي طبقة تقع على ارتفاع يزيد على 60 كيلومتراً، بعيداً عن الطبقات الجوية السفلى (التروبوسفير والستراتوسفير) التي تتحكم في تشكل السحب والأمطار والعواصف.
وتؤكد أبحاث منشورة في مجلات علمية أميركية، أن الطاقة التي ينتجها “هارب” ضئيلة للغاية مقارنة بالظواهر الطبيعية مثل البرق أو الشفق القطبي، وأن تأثيره يظل محدوداً في تغييرات مؤقتة داخل الأيونوسفير، وسرعان ما تزول هذه التأثيرات بانتهاء البث.
ويشير البروفيسور بيتر دايسون، خبير الأيونوسفير بجامعة لا تروب، إلى أن قدرة أجهزة “هارب” لا تتجاوز 3.6 ميغاواط، وأن كثافة الموجة تقل تدريجيّاً مع انتشارها لتصل إلى مستويات متناهية الصغر، قبل أن تعود المنطقة المُسخنة إلى طبيعتها بسرعة، وأن الموقع الرسمي للمشروع يوفر معلومات كافية لدحض نظريات المؤامرة التي تصوّره كأداة للتحكم في الطقس.
تعود موجات الجفاف في شبه الجزيرة الكورية إلى عوامل طبيعية مرتبطة بالرياح الموسمية الآسيوية، وهي العامل الرئيسي في هطول الأمطار بالمنطقة. فعندما يتأخر موسم الأمطار أو يقل عن المعدل الطبيعي، تحدث موجات جفاف شديدة، كما وقع بين عامي 2013 و2015، ثم في 2019.
عام 2015، أعلنت الأمم المتحدة أن مناطق واسعة من كوريا الشمالية تعاني جفافاً حاداً أثّر في المحاصيل الأساسية، وزاد من وفيات الأطفال بسبب الإسهال. وفي 2019، واجهت البلاد أسوأ جفاف منذ قرن؛ ما أدى إلى أضعف موسم حصاد خلال عشر سنوات، وترك نحو عشرة ملايين شخص (40 في المئة من السكان) في حالة انعدام أمن غذائي، وفق تقرير مشترك لمنظمة الأغذية والزراعة، وبرنامج الأغذية العالمي.
في المقابلة نفسها ببرنامج نظرة، زعم محمد صبحي أن لقاحات كورونا تسببت في عقم 60 مليون هندي، وربطها بما سمّاه “مخطط المليار الذهبي” لتقليص سكان العالم، مشيراً إلى أن لقاحات كورونا جزء من خطة لتقليل البشر ليصل عددهم إلى مليار.
تتبعنا ادعاء “صبحي”، ووجدناه “غير صحيح”، إذ لم يصدر عن السلطات الهندية أو منظمة الصحة العالمية أو أي جهة صحية موثوقة، ما يفيد بإصابة 60 مليون هندي بالعقم بسبب “لقاحات كورونا”.
ونفت الدكتورة سوميا سواميناثان، كبيرة علماء في منظمة الصحة العالمية، في مقابلة سابقة على موقع المنظمة، في 3 حزيران/يونيو 2021، وجود أي دليل علمي على أن اللقاحات تتداخل بطريقة ما مع خصوبة الرجال أو النساء، مؤكدةً أنها “خرافة شائعة”، وأنه لا توجد طريقة يمكن من خلالها أن تتدخل اللقاحات في عمل الأعضاء التناسلية.
وخلصت دراسة أجرتها المجلة الأميركية لعلم الأوبئة، في آب/أغسطس 2022، شملت ألفين و126 امرأة في أميركا وكندا، كنّ يحاولن الحمل طبيعيّاً بين كانون الأول/ديسمبر 2020 وتشرين الثاني/نوفمبر 2021، إلى أن تلقي لقاح كوفيد-19 ليس له تأثير سلبي على الخصوبة لدى الشريكين، ولا أي انخفاض قصير المدى في الخصوبة بعد إصابة الشريك الرجل بفيروس كورونا المستجد.
أوضح هذا التقرير أن الادعاءات التي تروّجها بعض البرامج المصرية، في إطار نظريات المؤامرة، ليست سوى مزاعم زائفة لا تستند إلى أي دليل علمي، وتتناقض مع ما تؤكده الأبحاث والمراجع الطبية الموثوقة عالميّاً.
جانب من تعليقات الجمهور على المعلومات التي قدمها كل من وسيم السيسي ومحمد صبحي
الخطر الحقيقي يكمن في تمرير هذه الادعاءات عبر الإعلام، ما يحوّل القنوات من منصات للتوعية إلى أدوات للتضليل. ويتضح أثر ذلك بوضوح في تفاعل الجمهور؛ إذ تجاوزت مشاهدات حلقة محمد صبحي المليون مشاهدة، ووصفه بعض المعلقين بأنه “صاحب رؤية ثاقبة” وطالبوا بظهوره أسبوعيّاً. وفي حلقة وسيم السيسي، التي تخطت 79 ألف مشاهدة على “يوتيوب”، حتى تاريخ 10 تشرين الأول/أكتوبر 2025، وصف متابعون تصريحاته بأنها “مفيدة جدّاً” و”صحيحة تماماً”، في حين انصبت الانتقادات على المذيع تامر أمين، بسبب مقاطعته لضيفه، لا بسبب مضمون الادعاءات.
التعليقات تظهر أن الخطر الأكبر لا يكمن في الادعاءات نفسها، بل في سرعة تبنيها وتداولها من قبل الجمهور، حين تُطرح بلا تدقيق ولا مراجعة. وحين يتحوّل الإعلام إلى أداة تضليل، تصبح الحقيقة هي الضحية الأولى.