في أواخر أغسطس/ آب، دشّنت إسرائيل مرحلة جديدة من المواجهة مع جماعة الحوثي، حين استهدفت غرفة عمليات قيادية في العاصمة صنعاء، ما أسفر عن مقتل رئيس الوزراء (أحمد غالب ناصر الرهوي) وعدد من أعضاء حكومة الحوثيين. وقد شكّلت هذه العملية، المدعومة بجهود استخباراتية، تحوّلاً استراتيجياً من مواجهة محدودة في البحر إلى ضربات مباشرة تستهدف القيادات السياسية والإدارية للجماعة. ووصف وزير الدفاع الإسرائيلي (يوآف غالانت) العملية بأنها “ضربة ساحقة”.
ولم يتأخر رد (عبد الملك الحوثي)، إذ سعى في خطاب له إلى رفع معنويات أنصاره، معتبراً أن “اغتيال وزراء مدنيين لن يضعف اليمن، بل سيزيد من عزيمته وثباته”. وفي السياق نفسه، توعّد رئيس الوزراء المكلّف (محمد أحمد مفتاح) بالانتقام، متهماً واشنطن وتل أبيب بقيادة “إمبراطورية استخباراتية” تمكنت من التغلغل داخل اليمن.
وفي الأيام التي أعقبت الضربة الإسرائيلية وما رافقها من تعبئة متبادلة، استمرت التوترات في التصاعد، إذ شيّع الحوثيون في صنعاء 12 مسؤولاً، أعقبها إطلاق صواريخ وطائرات مسيّرة باتجاه إسرائيل. وأعلن الجيش الإسرائيلي في 3 سبتمبر/ أيلول اعتراض أحد الصواريخ بعد إطلاق إنذار في تل أبيب، بينما سقط صاروخ آخر في منطقة مفتوحة. وفي الوقت ذاته، أعلن الحوثيون أنهم استهدفوا ناقلة النفط سكارليت راي في البحر الأحمر، في خطوة أثارت قلقاً بالغاً، خصوصاً أنها تهدد أمن الطاقة والملاحة وتزيد من حجم المخاطر.
ولم يقتصر الرد الإسرائيلي على الضربة الجوية، بل شمل خطاباً رمزياً تصعيدياً؛ إذ هدّد وزير الدفاع يوآف غالانت بإنزال “الضربات التوراتية” على الحوثيين، مؤكداً أن إسرائيل “ستُكمل الضربات العشر” حتى زوال التهديد. ويعكس هذا الخطاب رغبة في الردع النفسي إلى جانب الردع العسكري، لا سيما مع وصول بعض الصواريخ الحوثية إلى مناطق حساسة داخل إسرائيل. غير أن هذه اللغة لا تحجب التحدي القائم، إذ إن كل ضربة إسرائيلية تستدعي احتمال رد حوثي جديد، ولو محدود، بما يطيل أمد حرب الاستنزاف ويزيد احتمالات التصعيد، بما في ذلك استهداف مناطق جديدة.
مع ذلك، أشارت الباحثة (إبريل لونغلي آلي) من معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى إلى أن “أياً من القتلى لم يكن من صناع القرار السياسي أو العسكري في صفوف الحوثيين، بل إن غالبية هؤلاء المسؤولين لم يكونوا أصلاً جزءاً من الحركة”. وأضافت: “في الواقع، ما قضى عليه الإسرائيليون هو حكومة شكلية إلى حد كبير”. ويثير هذا التوصيف تساؤلات حول جدوى الضربة، وما إذا كانت قد عززت الردع فعلاً أم منحت الحوثيين ذريعة لتشديد قبضتهم الداخلية وتوحيد أنصارهم ضد عدو خارجي يشترك اليمنيون جميعاً في كراهيته.
في ضوء هذه التطورات، تبدو الخيارات المتاحة أمام الحوثيين معقدة. فمواصلة التصعيد بالصواريخ والطائرات المسيّرة ترسّخ مكانتهم كآخر فصيل نشط ضمن ما يُعرف بـ”محور المقاومة”، بعد توقف إيران وحزب الله والفصائل العراقية عن استهداف إسرائيل، وفقدان كل من حماس والجهاد الإسلامي قدرتهم على ضرب تل أبيب. وهذا يمنح الحوثيين مكسباً رمزياً، لكنه في المقابل يضعهم تحت وطأة ضربات إسرائيلية متزايدة وضغوط إنسانية متنامية، لا سيما مع تفشي الكوليرا وتراجع قدرات النظام الصحي.
أما توسيع المواجهة البحرية، فسيضاعف المخاطر على التجارة العالمية، وقد يستدعي تدخلاً دولياً يفرض عزلة خانقة عليهم. وفي المقابل، يمثل خيار التهدئة التكتيكية فرصة لإعادة تنظيم الصفوف، لكنه قد يضعف من شعبيتهم داخلياً ويجبرهم على مواجهة الأزمات الاقتصادية والخدمية المتفاقمة.
على الجانب الآخر، تواجه إسرائيل معضلة هي الأخرى. فمواصلة استراتيجية “قطع الرأس” تمنحها صورة قوة قادرة على اختراق صنعاء، لكنها لا توقف تهديد الملاحة ولا تضمن وقف الصواريخ، خصوصاً وأن معلوماتها الاستخباراتية حول الحوثيين لا تضاهي ما تملكه بشأن حزب الله أو حماس. كما أن توسيع نطاق الاستهداف ليشمل البنية التحتية قد يفاقم الأزمة الإنسانية ويعرّضها لانتقادات دولية. ويبقى الرهان على عامل الوقت مرتبطاً بمدى قدرتها على تحمّل كلفة عمليات عسكرية تُدار على بُعد آلاف الكيلومترات في ظل أولويات إقليمية أخرى.
وعلى الرغم من الدعم الأميركي الواضح لحكومة (بنيامين نتنياهو)، إلا أن واشنطن بعثت بإشارات تفضيلها للمسار السياسي. ففي مايو/ أيار، أعلن الرئيس (دونالد ترامب) أن “القصف سيتوقف” بعد التوصل إلى تفاهم يقضي بوقف هجمات الحوثيين على السفن الأميركية. غير أن أي تصعيد جديد قد يعيد واشنطن إلى الخيار العسكري لحماية الملاحة، خصوصاً إذا طالت مصالحها المباشرة.
ويكشف هذا الواقع العسكري والسياسي المعقّد أن الضربات الإسرائيلية وحدها لن توفر الأمن لتل أبيب، تماماً كما أن التصعيد الحوثي لن يعزز شرعية الجماعة. فالمسار الأكثر واقعية يتمثل في مسارات متوازية، تشمل إنهاء الحرب في غزة باعتبارها الشرارة الأوسع، وحماية الملاحة الدولية في البحر الأحمر، وإطلاق عملية سياسية يمنية شاملة يعود فيها الحوثيون طرفاً سياسياً لا فصيلاً مسلحاً متمرداً. ومن دون هذه الخطوات، ستظل المنطقة رهينة دائرة مفرغة من التصعيد تهدد مستقبلها السياسي والاقتصادي.