من السهل أن يُضفى طابعٌ مبالغ فيه على الضربات الإسرائيلية التي استهدفت قيادات ميليشيا الحوثيين في صنعاء. فموقعٌ مثل “رئيس الوزراء” قد يبدو في ظاهره ذروة السلطة، ومقتلُ عددٍ من الوزراء قد يُصوَّر على أنه ضربة قاصمة لقيادة الجماعة. غير أنّ ما يُسمّى برئيس الوزراء (أحمد الرهوي) وحكومته —المُعيَّنون من الحوثيين خلف واجهة حكومية— لم يكن لهم دور فعلي سوى الظهور العلني، ومصافحة الموالين، والتفاوض مع الوكالات الدولية. لقد شكّلوا الوجه الأكثر ليونة لجماعةٍ شديدة الارتياب بالآخرين، مهووسة بالسيطرة، فيما ظلت السلطة الحقيقية محصورةً ضمن دائرة ضيّقة من العائلة والمقرّبين.
ومع ذلك، فإنّ مقتلهم —وإن لم يكن ذا أثر مباشر على استقرار المنطقة— قد حرّك شيئًا في مخيلة اليمنيين الذين استسلموا لواقع الصراع مع هذه الميليشيا إلى أجل غير معلوم. وما كشفته تلك الضربات كان بليغًا بقدر ما دمّرته: حركة بُنيت على امتصاص الخسائر الظاهرة، مع الحرص في الوقت نفسه على حماية مراكز قوتها الحقيقية.
وكان أبرز الخسائر أحمد الرهوي نفسه، الرجل الذي اختير رئيسًا للوزراء في أغسطس/آب 2024، لا لثقله السياسي بل لرمزيته. فكونه جنوبيًا في حركةٍ متجذّرة في مرتفعات الشمال، كان حضوره يُراد له أن يوحي بالشمولية في حكومةٍ يهيمن عليها في الواقع نخبٌ شمالية ذات طابع طائفي. أما دوره الحقيقي فكان تزويد الجماعة بواجهةٍ تُوحي بالوحدة الوطنية، لا ممارسة السلطة.
وإلى جانبه، قُتل وزراء الخارجية والعدل وحقوق الإنسان والثقافة والزراعة والإعلام وغيرهم، في ضربةٍ اجتاحت صفوف الحكومة وأظهرت الحوثيين بمظهر سلطةٍ تمتلك مؤسسات دولة. كما طالت الضرباتُ نوابًا في وزارتي الداخلية والدفاع، لتكشف هشاشة شخصياتٍ كانت تتحرك بحرية أكبر لعدم انتمائها إلى الدائرة الضيقة الأشد انغلاقًا داخل الجماعة. هؤلاء جميعًا ارتضوا أن يضعوا رصيدهم المهني في خدمة ميليشيا تسعى إلى الشرعية، ليصبحوا شركاء في منظومة هيمنة أذاقت اليمنيين ويلاتٍ جسيمة.
غير أنّ الخسارة الأعمق تبقى نفسية. فقد اعتمد الحوثيون لسنوات على صورةٍ توحي بأنهم عصيّون على الاستهداف، قادرون على امتصاص الضربات والخروج منها أكثر قوة. لكن مشهد (عبد الملك الحوثي) وهو يُلقي خطابًا متلفزًا في اللحظة نفسها التي كان وزراؤه يُقتلون فيها، قد شقّ تلك الأسطورة عن الحصانة. وتطرح توقيتات العملية أسئلةً محرجة للجماعة بشأن مدى اختراق الاستخبارات الإسرائيلية لصفوفها، وهي أسئلة تتجاوز بكثير هذه العملية الواحدة.
ومع ذلك، فعلى الرغم من نجاح العملية، لم تؤدِّ الضربات إلى قطع رأس الحركة. فما يزال عبد الملك الحوثي على رأس القيادة، كما أنّ رئيس هيئة الأركان العامة، اللواء (محمد عبد الكريم الغماري) —المسؤول عن إدارة الجهد الحربي اليومي— ما زال على قيد الحياة. ولا تزال أجهزة الأمن والاستخبارات التابعة للحوثيين تعمل، وكذلك هيكل القيادة العسكرية لديهم.
وهذا البقاء ليس صدفة، بل نتيجة تصميمٍ مُسبق. فقد أنشأ الحوثيون نظامًا يمكن فيه شَغلُ المواقع العليا بشخصياتٍ قابلة للاستبدال. فرؤساء الوزراء والوزراء والناطقون الرسميون يُفترض أن يكونوا واجهةً مرئية قابلة للتغيير. بل إنّ الوزراء المعيّنين كانوا تحت مراقبة مخبرين موالين للنواة الزيدية الطائفية الصلبة داخل الجماعة، مما أوجد طبقات من الرقابة داخل حكومتهم نفسها. ومع أنّ معظم أعضاء الحكومة ظلوا في مواقعهم قرابة عام، إلا إنّ مقتلهم لا يُصيب الحركة بالشلل، بل يُدمَج في سردية “الشهادة”.
هذه الثقافة القائمة على قابلية الاستبدال تتيح للجماعة أن تخسر الأفراد دون أن تخسر السلطة، وأن تُظهِر ملامح الحكم دون أن تمارسه فعليًا، وأن تضحي بواجهاتٍ باهظة الثمن فيما تحمي مراكز القيادة الحقيقية. فالجماعة في النهاية تحمل اسم زعيمها السابق حسين الحوثي —شقيق عبد الملك الحوثي— الذي قُتل عام 2004 قبل أن يشهد صعود الحركة.
لم يكن الأثر الأكبر للضربات في استمرارية القيادة، بل في كشف هشاشة الجماعة. فقد أكّد الحوثيون مقتل الرهوي يوم السبت فقط، بعد يومين من الغارة الجوية الإسرائيلية التي أودت بحياته. وفي الساعات التي تلت الضربات، فرضت الجماعةُ تعتيماً إعلامياً صارماً وأطلقت حملة تضليل، ساعيةً إلى منع أي ذكر للخسائر. غير أنّ تبادل التعازي عبر وسائل التواصل الاجتماعي جعل من المستحيل احتواء الخبر.
وتتجلى المفارقة بحدة لافتة، فقبل ثلاثة أيام فقط من مقتله، كان الرهوي قد أعلن أن النظام “تطهّر من الخونة”، متباهياً باليقظة والتماسك. أما الاعتقالات التعسفية التي تلت ذلك —بما فيها اعتقال موظفين تابعين للأمم المتحدة في صنعاء— فكانت مؤشراً آخر على انعدام الأمن داخل الجماعة.
ويُعتبر جنون الارتياب لدى الحوثيين متجذّرًا مؤسسياً؛ إذ يديرون مئات مراكز الاحتجاز غير القانونية التي تضم آلاف السجناء السياسيين. وحتى المنتقدون التقليديون للضربات الإسرائيلية التزموا صمتاً لافتاً. فلم تُصدر الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً ولا جامعة الدول العربية أي إدانات، في خروجٍ ملحوظ عن مواقفهم المعتادة. في المقابل، استغلت الحكومة اليمنية اللحظة لتذكير العالم بأن الحوثيين أنفسهم حاولوا اغتيال أعضاء في حكومتها عبر غارة على مطار عدن عام 2020، أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 20 شخصاً وإصابة أكثر من مئة آخرين.
هذا الصمت يوحي بقبول ضمني، أو حتى بما هو أبعد من ذلك: إدراكٍ بأن تمكّن إسرائيل من إنجاز ما عجز عنه الآخرون قد يُسهم في حلّ معضلة إقليمية. وفي نهاية المطاف، جاءت الإدانات الوحيدة من إيران وحزب الله.
في الداخل، يوجّه الموالون للحوثيين أصابع اللوم إلى المسؤولين الأمنيين بتهمة الإهمال، مطالبين بتطهير صفوف المخابرات. أما اليمنيون الخاضعون لسيطرة الحوثيين فيعبّرون عن رضا قاتم لأن سجّانهم الذين كانوا يومًا عصيين على المساس قد سقطوا أخيرًا. ويكشف هذا الرضا عن الفجوة بين الدعاية الحوثية المتمحورة حول القضية الفلسطينية وواقع شعبيتهم المنخفضة على الصعيد المحلي.
أما بالنسبة لإسرائيل، فقد مثلت الضربات تحولًا من التركيز السابق على البنية التحتية والممتلكات الاقتصادية للحوثيين إلى استهداف قيادتهم السياسية بشكل مباشر. هذا التصعيد في أسلوب الاستهداف يوجّه رسالة واضحة: إسرائيل مستعدة لتصعيد العواقب، مما يجعل التكلفة الشخصية لصانعي القرار الحوثيين أكثر مباشرة.
أما اليمنيون تحت سلطة الحوثيين، فقد أظهرت الضربات أن قبضة الجماعة لا تقوم على القوة بقدر ما تقوم على غياب التحدّي. فبعد سنوات من مشاهدة الحوثيين وهم يتلاعبون بالمجتمع الدولي دون عقاب —متصعيدين في البحر الأحمر، ومهاجمين إسرائيل، وناجين من الحروب مع السعودية التي انتهت بتسوية فعلية— استنتج العديد من اليمنيين أن سجّانيهم يتمتعون بحرية مطلقة. وقد وفّرت الضربات لمحة عن حدود ما بدا في السابق عصيًا على الزعزعة.
نظرة إلى المستقبل، من غير المرجح أن يتعرض الحوثيون لشلل استراتيجي. فسيستبدلون وزراءهم الذين سقطوا بشخصياتٍ جديدة مؤقتة، وينظمون تجمعاتٍ أكبر، ويطلقون تهديدات أكثر صخبًا. كما سيضاعفون جهود الردع من خلال تصعيد الهجمات على إسرائيل وفي البحر الأحمر، ساعين لإثبات أن قدرتهم على الضرب لا تزال قائمة. لكن اختراق الاستخبارات الذي مكّن من تنفيذ هذه الضربات يجب أن يقلق ليس الحوثيين فحسب، بل ما يُعرف بمحور المقاومة الأوسع. فإذا كانت الاستخبارات الإسرائيلية قادرة على الوصول إلى صنعاء، فهذا يشير إلى وجود ثغراتٍ في كامل شبكة الوكلاء التابعة لهم.
وما يظهر من هذا الاختراق هو تغير في المعادلة الاستراتيجية. فعلى الرغم من أن الحوثيين كانوا يدركون قدرات الاستخبارات الإسرائيلية من خلال هجمات الأجهزة اللاسلكية على حزب الله، إلا أنّ الاختراق المباشر لدوائر قيادتهم يفرض تقييمًا مختلفًا. فقد كانوا يعتقدون أن عزلتهم الجغرافية وأمنهم العملياتي يجعلهم أقل عرضة للخطر مقارنة بنظرائهم اللبنانيين. أما ضربات الأسبوع الماضي فقد حطمت هذا الافتراض، وجعلت قيادتهم أكثر جنونًا بالارتياب، وأكثر انعزالية، وأكثر قمعًا تجاه سكانهم والمنظمات الدولية.
داخل اليمن، يعني هذا المزيد من الاعتقالات التعسفية، وتصعيد الدعاية، وتشديد ثقافة الخوف. أما بالنسبة لإسرائيل، فالأمر يعني أن الردع يمكن تحقيقه ليس فقط عبر اعتراض الصواريخ، بل أيضًا من خلال تقويض أسطورة عصيان الحوثيين على الاستهداف. وبالنسبة لإيران، فإن رؤية أقوى وكلائها يفقد هالة عصمته توحي بأن نموذج شبكة الوكلاء يواجه ثغراتٍ منهجية، لا مجرد انتكاسات تكتيكية.
الخبر السيئ لكل من اليمن وإسرائيل هو أن النظام الحوثي ما يزال قائمًا. فلا يوجد فراغ قيادي، ولا أزمة خلافة. أما الخبر الجيد فهو أن الضربات كسرت واجهة السيطرة وثقة الحوثيين بأن لا أحد يستطيع المساس بهم.
هذه هي المرحلة التالية في حرب اليمن: ليست سقوط الحوثيين، بل تآكل أساطيرهم. ما يموت هي الوجوه؛ وما يبقى هو آلة القمع التي تُبقي اليمن رهينة. والسؤال الآن: إلى متى ستستمر هذه الآلة في فرض الاعتقاد والطاعة؟