قال لي صديقي خالد الفقيه، وهو صانع محتوى يعيش في محافظة لحج جنوبي اليمن، بصوت تختلط فيه الدهشة والفرح: “هذه أول مرة أقدر أرفع فيديو كامل بدون ما ينقطع النت في النص”.
كان يتحدث عن تجربته الأولى مع خدمة الإنترنت الفضائي “ستارلينك”، التي حصل عليها من محل إلكترونيات صغير في مدينته – لا من نقطة بيع رسمية – كما يفعل كثيرون في اليمن، ممن أنهكتهم خدمة الإنترنت الأرضي البطيئة والمنقطعة دائماً.
بالنسبة لخالد، كان هذا التحسن في سرعة الإنترنت حدثاً شخصياً استثنائياً. لكن بالنسبة لخبراء الاتصالات وأطراف النزاع، هو جزء من معركة أوسع على السيادة الرقمية في البلاد، ووجه آخر من الحرب الجيوسياسية التي تتقاطع فيها المصالح المحلية والإقليمية والدولية.
“الحوثيون يتحكمون بشكل كامل في قطاع الاتصالات”، يقول فهمي الباحث، الناشط في الحقوق الرقمية، عضو مؤسس لجمعية الإنترنت في اليمن، لـ”الحرة”، موضحاً أن “البنية التحتية للإنترنت مصممة بحيث يكون هناك مزود خدمة واحد يتم التحكم فيه من صنعاء”.
•اليد العليا للحوثيين
“مليشيا الحوثي عسكرت هذا القطاع”، يقول رائد الثابتي، مستشار وزارة الاتصالات اليمنية، متهماً الجماعة باستخدام الانترنت لتتبع تحركات خصومها واستهداف قيادات ميدانية. فمنذ دخولهم إلى صنعاء عام 2014، وضعت الجماعة وزارة الاتصالات وكبرى الشركات المشغلة مثل “يمن موبايل” و”سبأفون” و”يو” إضافة إلى “تيليمن” و”يمن نت” تحت إدارتها المباشرة.
هذا الاحتكار منحها قدرة غير مسبوقة على مراقبة المكالمات، وحجب المواقع أو تقييد الوصول لها – ومنها موقع “الحرة” – وقطع الخدمة عن مناطق الحكومة اليمنية متى ما أرادت.
الطبيعة المركزية لشبكة الاتصالات اليمنية، التي تتركز خوادمها في صنعاء “وترتبط مباشرة بمبنى الأمن القومي منذ عام 2006”، بحسب الثابتي، جعلت من الصعب على الحكومة اليمنية إيجاد بدائل فعّالة. ورغم إطلاق مشروع “عدن نت” عام 2022 كخيار موازٍ يرتبط بكابل دولي عبر جيبوتي بعيداً عن شبكة صنعاء، لم تنجح الخطوة إلا في نطاق محدود، بسبب صعوبة إنشاء بنية تحتية تضاهي تلك التابعة لوزارة الاتصالات في صنعاء، إضافة إلى اتهامات بالفساد أحاطت به. وبذلك، بقيت السيطرة الفعلية بيد الحوثيين، وهي سيطرة تدر عليهم، وفق وزير الإعلام اليمني معمر الإرياني، نحو نصف مليار دولار سنوياً، منها 240 مليون دولار من مبيعات خدمات الإنترنت والبيانات.
•كابلات بحرية محدودة
يعتمد اليمن على عدد قليل من الكابلات البحرية الدولية، أهمها كابل “فالكون” الذي يربط الساحلين الشرقي والغربي، ونقطة “عدن نت” المتصلة بكابل نحو جيبوتي.
هذا النقص جعل شبكة الإنترنت هشة وسريعة التأثر الانقطاعات مقارنة بجيرانها، رغم مرور أكثر من 15 كابلاً دولياً عبر البحر الأحمر وباب المندب. وفي السنوات الأخيرة، تصاعدت المخاوف مع تهديد الحوثيين باستهداف تلك الكابلات، وهي اتهامات تنفيها الجماعة فضلاً عن تعرض الشبكة لهجمات سيبرانية، كان آخرها البارحة.
•ستارلينك كبديل
في عام 2021، بدأت الحكومة اليمنية مفاوضات مع شركة “ستارلينك” لإدخال خدمة الإنترنت الفضائي إلى البلاد. وبعد مشاورات امتدت لسنوات، وُقّع الاتفاق في يناير 2024 وفي سبتمبر من نفس العام أعلنت الشركة الأميركية بدء تقديم الخدمة في البلاد، لتصبح أول دولة في غرب آسيا تحظى بتغطية كاملة من الإنترنت الفضائي، في خطوة وصفتها السفارة الأميركية بأنها “إنجاز يفتح آفاقًا جديدة”.
غير أن هذا الإعلان جاء في ظرف سياسي وعسكري بالغ الحساسية، مع ضربات أميركية لمواقع حوثية وتصاعد هجمات الحوثيين على السفن في البحر الأحمر. وهو ما جعل الجماعة ترى في “ستارلينك” تهديداً أمنياً مباشراً يمنح خصومها قدرة على تجاوز شبكاتها الأرضية، وتواصل حتى الآن حملات في مناطق سيطرتها لمصادرة الأجهزة والقبض على كل من يملكها، متهمة مستخدميها بالتجسس، مدّعين أن الحكومة تهرّبها لخدمة “المخابرات الأميركية والإسرائيلية”.
•حمّالة أوجه
ترى الحكومة اليمنية أن “ستارلينك” قد يضعف قبضة الحوثيين على الاتصالات ويحدّ من قدرتهم على الرقابة ومتابعة الخصوم، الأمر الذي يصب في تقوية السلطات الشرعية عسكرياً وأمنياً، لكن سؤالاً يطرح نفسه:
•ماذا لو استخدمها الحوثيون؟
يجيب ويليام أكوتو، أستاذ الأمن العالمي في الجامعة الأميركية، في حديثه لـ”الحرة”، بأن جماعات مثل الحوثيين قد ترى في “ستارلينك” وسيلة تمنح مقاتلي الخطوط الأمامية اتصالاً عالي السرعة يصعب التشويش عليه أو اعتراضه. وأضاف أن هذه التقنية استُخدمت في نزاعات أخرى في أوكرانيا والسودان وميانمار لتأمين الاتصالات الميدانية وتشغيل الطائرات المسيّرة، محذراً من احتمال تكرار السيناريو نفسه في اليمن إذا وقعت هذه الأجهزة في أيدي الحوثيين. وخلال الإعداد، قال لي بعض ممن قابلتهم إنهم يعتقدون أن بعض قيادات الحوثيين يستخدمون “ستارلينك” سراً.
•رفض أم تمويه؟
قد يكون إعلان الحوثيين “محاربة ستارلينك مجرد تمويه” كما يقول الباحث، وهو تكتيك شائع في النزاعات حيث يختلف الخطاب العلني عن الممارسة الميدانية، ففي الحرب الروسية الأوكرانية، هاجمت موسكو علناً استخدام كييف للخدمة، بينما عُثر على أطباق ستارلينك في مناطق تحت سيطرة القوات الروسية، بعضها تم الاستيلاء عليه أو تهريبه.
ويشير الباحث إلى أن أجهزة “ستارلينك” يمكن تشغيلها حتى في دول غير مدرجة رسمياً في خريطة التغطية. وفي اليمن، لم تكن الخدمة غائبة تماماً قبل الإعلان الرسمي؛ فقد دخلت الأجهزة عبر التهريب، وتمكن بعض المستخدمين من تشغيلها بفضل خاصية التجوال (roaming) التي تربط الأطباق بالأقمار الصناعية القريبة من الدول المشمولة بالخدمة. هذا ما سمح ببيعها في “الأسواق السوداء” وتوفرها في نقاط بيع غير معتمدة من الحكومة.
•بنود مثيرة للجدل في عقد ستارلينك
العقد الموقّع بين الحكومة اليمنية وشركة “ستارلينك” في يناير 2024، والذي يبلغ نحو 30 صفحة، يمنح الحكومة في مادته السابعة والعشرين ضمن بند “الاعتراض القانوني والأمن وحجب الشبكة” صلاحيات واسعة لحجب المواقع واعتراض الاتصالات الإلكترونية لأسباب أمنية أو قانونية.
ورغم تقديم هذه البنود كإجراءات لحماية الأمن الوطني، يرى فيها باحثون انعكاساً لأساليب الرقابة التي لطالما انتُقد الحوثيون بممارستها. كما تتناقض مع قانون الاتصالات اليمني رقم (33) لسنة 1996، الذي ينص على حق الجمهور في الاستخدام الحر للاتصالات وسريتها، ولا يسمح بالرقابة إلا بموجب إذن خطي مسبق من السلطة القضائية وفي حالات محددة.
والأمر يزداد تعقيداً بالنظر إلى غياب تشريع يمني شامل لحماية البيانات الشخصية؛ فطبقاً للباحث، “لا يوجد في اليمن قانون خاص بحماية البيانات الرقمية”، رغم الإشارة له في العقد.
هذا التباين يثير تساؤلات عند صانع المحتوى خالد الفقيه وعند كثير من اليمنيين حول ما إذا كانت الاتفاقية تفتح الباب أمام توسع رقابة الدولة على الإنترنت، حتى في المناطق الخارجة عن سيطرة الحوثيين.