نادراً ما شهد التاريخ الحديث حملة عسكرية جرى التمهيد لها بهذه الدرجة من العلنية والإلحاح، كما حدث مع الضربات الإسرائيلية والأميركية التي استهدفت البرنامج النووي الإيراني في يونيو/ حزيران 2025.
فطيلة أكثر من ثلاثة عقود، ظلّ القادة في تل أبيب وواشنطن يطلقون تحذيرات صارمة بشأن طموحات الجمهورية الإسلامية النووية ونشاطاتها، وتعاقب خمسة رؤساء أميركيين على التعهّد بمنع طهران من بلوغ عتبة امتلاك القدرة النووية العسكرية.
ورغم هذا التمهيد والتحذيرات المتكررة والإشارات الواضحة إلى اقتراب التحرك، فإن الهجوم الأولي الذي شنّته إسرائيل على البنية التحتية النووية الإيرانية —والذي تلاه تدخل أميركي خاطف لكنه حاسم— فاجأ طهران ومعظم دول العالم.
وقد ساهم عامل المفاجأة في تسهيل النجاح المذهل للعملية، التي أسفرت سريعًا عن شلّ القيادة العسكرية الإيرانية، وضمان التفوّق الجوي الإسرائيلي فوق الأراضي الإيرانية، وتقويض قدرة طهران على الرد، وإلحاق أضرار جسيمة بما يُعدّ “جواهر التاج” في مشروعها النووي.
وأدى التنفيذ المحكم للعملية، مقرونًا بغياب رد فعّال من جانب طهران أو من شبكتها الإقليمية من الوكلاء الذين كانت تُحسب لهم الهيبة، إلى مفاجأة أخرى تمثّلت في الوصول السريع إلى نهاية الأزمة، عبر وقفٍ لإطلاق النار فُرض أميركيًا في اليوم الثاني عشر من النزاع.
ففي أقل من أسبوعين، تمكّن التحالف الأميركي-الإسرائيلي من تحقيق ما كان كثيرون يعتبرونه مستحيلاً: توجيه ضربة قاصمة للبرنامج النووي الإيراني من دون إشعال حرب إقليمية واسعة.
أما هجمات إيران الصاروخية الانتقامية على إسرائيل، إلى جانب ضربة استعراضية استهدفت القاعدة الجوية الأميركية في قطر، فقد كانت رمزية أكثر منها فعالة.
وبالنسبة لكثيرين في واشنطن، بدت نتائج العملية وكأنها تطوي صفحة عقودٍ من التدخلات العسكرية الأميركية الفاشلة أو المحبطة في الشرق الأوسط، وتعيد الاعتبار للقوة الأميركية في المنطقة.
وقد فاقت النتائج المذهلة للعملية العسكرية تداعياتها المباشرة، إذ عمّقت الانهيار الأوسع في الوضع الاستراتيجي لطهران، والذي كان قد بدأ في العام السابق، عندما وجّهت إسرائيل ضربة قاصمة لأهم أذرع النظام الإيراني —ميليشيا حزب الله في لبنان— وتزامن ذلك مع انهيار نفوذ إيران في سوريا إثر تلاشي نظام بشار الأسد.
ومع اندلاع النزاع في يونيو/ حزيران، لم تُبدِ الشريكتان الظاهريتان لطهران، موسكو وبكين، أكثر من إدانة باهتة عكست حدود دعمهما الفعلي.
فمنذ عام 1979، حين وصلت إلى السلطة في طهران سلطة ثورية ذات طابع إسلامي، دأبت واشنطن وحلفاؤها على محاولة كبح جماح إيران. وقد بلغ هذا المسعى الآن نقطة مفصلية: فالجمهورية الإسلامية أضعف اليوم، وأكثر عزلة، من أي وقت خلال العقدين الماضيين. ولم تعد قادرة على فرض إرادتها في الإقليم، ولا حتى على حماية حدودها أو الدفاع عن شعبها.
ومع سقوط هذا “العملاق” أرضًا، قد يغري البعض إعلان النصر، لكن ذلك سيكون سابقًا لأوانه. فإيران باتت منهكة، لكنها لم تُقصَ بعد من المشهد.
ولا تزال الأخطار الجسيمة التي تشكلها الجمهورية الإسلامية قائمة، بل وقد تتفاقم في سياق صراعٍ متواصل. فرغم الخسائر الفادحة والإهانة التي لحقت بها على يد أعدائها الرئيسيين، لا يزال النظام الثوري يُحكم قبضته القسرية على السلطة. وقد تكون بنيته النووية قد تضررت بشدة، لكنها لم تُدمَّر بالكامل.
وقد تُغذّي دوافع الثأر والبقاء على قيد الحياة نزعة النظام الإيراني إلى العنف وزعزعة الاستقرار —سواء داخل إيران أو خارجها— وتقضي على ما تبقّى من تردّد داخلي تجاه السعي لحيازة رادعٍ نووي.
كما قال الكاتب الأميركي جيمس بالدوين ذات مرة: “أخطر ما يمكن أن تخلقه أيّ مجتمعات هو الرجل الذي لم يعد لديه ما يخسره.”
ويبدو أن هذه العبارة تنطبق الآن على أولئك الذين لا يزالون يتحكمون في ما تبقّى من أنقاض النظام الثوري الإيراني.
فمع تراجع شبكة وكلائهم الإقليمية، وتدمير دفاعاتهم الجوية، وافتضاح هشاشة تحالفاتهم الكبرى، بات أوصياء الجمهورية الإسلامية في أمسّ الحاجة إلى أدوات جديدة لدرء الأخطار المحدقة بهم.
ومن الصعب التنبؤ بثقة بكيفية تطور الديناميات الداخلية في أعقاب هذه الهزيمة المُذلّة؛ وقد تحمل المرحلة المقبلة مفاجآت إضافية.
لكن ما يبدو شبه مؤكد هو أن أقوى الفاعلين في طهران سيسعون إلى إعادة بناء ما تبقّى من برنامجهم النووي، وإلى استعادة السيطرة الكاملة للنظام على المجتمع الإيراني.
وحتى في حالتها المُنهكة، ستظلّ طهران المتصلّبة لاعبًا خطيرًا ومصدرًا قويًا لعدم الاستقرار والغموض في المنطقة.
ففي الشرق الأوسط الحديث، نادرًا ما أدّت الضربات القوية ضد جهات مشاغبة إلى مصالحة، أو استسلام، أو حتى تهدئة طويلة الأمد.
أما أي توافق محتمل بين القوى الباقية — إسرائيل، السعودية، وتركيا — حول ملامح نظام إقليمي جديد، فقد تضرّر بفعل الحرب على غزة، وسيزداد هشاشةً في ظل استمرار النزاع غير المحسوم مع إيران.
وفي نهاية المطاف، ربما تكون إسرائيل والولايات المتحدة، عبر لجوئهما إلى القوة العسكرية، قد عجلتا بوقوع النتيجة ذاتها التي كانتا تسعيان لتفاديها: نظامٌ ثيوقراطي إسلامي أكثر قمعًا وعدائية، يمتلك قنبلة نووية مخبأة، وثأرًا مفتوحًا يسعى لتصفيته في جواره الإقليمي.
أما الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي لطالما خاض حملاته ضد التدخلات الأميركية الطويلة والمكلفة في الشرق الأوسط، فقد يجد أن استراتيجية “الخروج المفضّل” التي ينشدها لم تعد سوى “نجاح عملياتي” آخر، لم يُفضِ إلى توازن سياسي مستقر.
⸻
• الحسابات الإيرانية الجديدة
بدأ البرنامج النووي الإيراني كمشروع للطاقة المدنية في سبعينيات القرن الماضي، في عهد النظام الملكي البهلوي المتحالف مع الولايات المتحدة والمهووس بالمكانة الدولية، وذلك رغم التحفظات الأميركية آنذاك بشأن مخاطر الانتشار النووي.
وبعد ثورة عام 1979، اعتبر الحكّام الجدد في طهران أن هذا البرنامج إرثٌ من تأثير الغرب، فعمدوا إلى إغلاقه إلى حدٍّ كبير.
ومع ذلك، استمرت بعض الأبحاث النووية، وبعد أن اجتاح صدام حسين إيران عام 1980 ودخل البلدان في حرب استنزاف دموية، أعيد النظر في الاستثمار بالبنية التحتية النووية باعتباره مصدرًا مناسبًا للطاقة الرخيصة، وأداةً لفرض النفوذ، ووسيلة ردع ضد أي عدوان مستقبلي.
وعلى مدار العقود الأربعة التالية، قامت الجمهورية الإسلامية ببناء برنامج نووي على نطاق صناعي، أصبح تدريجيًا أحد أعمدة هوية النظام، وتجسيدًا لعلاقته المعقدة والمضطربة مع القوى الغربية.
وقد ركّزت جهود إيران النووية بعد الثورة، في بداياتها، على تحقيق الاكتفاء الذاتي التكنولوجي وتطوير القدرات المحلية، لكنها توسعت في أواخر التسعينيات لتشمل مسعى سريًا واسع النطاق للحصول على قدرة تسليحية نووية.
وكان القادة الإيرانيون واعين بشدة للمخاطر، خاصة بعد الهجوم الإسرائيلي عام 1981 الذي دمّر جزئيًا مفاعل “أوسيراك” النووي العراقي، ما دفعهم إلى اتخاذ الحيطة والحذر، خصوصًا عندما شنّت إدارة جورج بوش غزو العراق عام 2003، حيث جُمّد العمل على تسليح البرنامج مؤقتًا.
واتسم هذا الحذر بسياسات طهران منذ البداية، إذ كان القادة الإيرانيون كثيرًا ما يستشهدون بفتوى دينية أصدرها المرشد الأعلى علي خامنئي عام 2003 تُحرّم استخدام أسلحة الدمار الشامل.
ومع ذلك، وكما أقرّ الرئيس الإيراني الأسبق علي أكبر هاشمي رفسنجاني عام 2015: “لم نغفل يومًا أنه إذا ما تعرّضنا لتهديد وجودي، وأصبح من الضروري سلوك طريق آخر، فعلينا أن نكون مستعدين لذلك.”
وبعد أن تبادلت إيران وإسرائيل ضربات مباشرة في أبريل/ نيسان ثم في أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2024، بدأت حتى الأصوات الأكثر براغماتية داخل النظام الحاكم تلمّح علنًا إلى إمكانية السعي نحو امتلاك السلاح النووي.
ففي نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، قال وزير الخارجية الإيراني الأسبق كمال خرازي:
“إذا نشأ تهديد وجودي، فستُعدّل إيران عقيدتها النووية. ولدينا القدرة على تصنيع الأسلحة ولا نواجه أي عائق في هذا الصدد.”
-------
قد يتوصّل القادة الإيرانيون إلى قناعة مفادها أن الخيار النووي بات الخيار الوحيد المتاح أمامهم.
ففي أعقاب الهجوم الأميركي-الإسرائيلي المشترك في يونيو/ حزيران، قد يُنظر إلى “التأمين النووي” على أنه أكثر إغراءً من أي وقت مضى بالنسبة للجمهورية الإسلامية.
وقد يعمد قادة طهران إلى مضاعفة رهانهم النووي من خلال محاولة إنقاذ ما تبقى من برنامجهم المنهار، وبدء مسعى شامل لامتلاك سلاح نووي — ولكن هذه المرة بصمتٍ أكبر.
وسيكون مدى قدرتهم على تحقيق ذلك مرهونًا بحجم الضرر الذي لحق بالبنية التحتية النووية، والتي تعرّضت لأضرارٍ جسيمة. فقد أفضت الضربات الإسرائيلية إلى القضاء على نخبة من العلماء النوويين الذين صمّموا البرنامج وأشرفوا عليه.
ورغم أن حجم الدمار لا يزال قيد التقييم، إلا أن المؤشرات الأولية الصادرة عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA) وخبراء مستقلين تشير إلى أن قدرة إيران على التخصيب قد تراجعت بشكلٍ كبير، وربما تعطلت بالكامل.
ومع ذلك، يرى بعض المحللين أن طهران قد تتمكن من استعادة قدرتها وتعويض خسائرها خلال أشهر أو سنوات قليلة، وأن بعض المكونات الأساسية — مثل مخزوناتها من اليورانيوم المخصّب، وأجهزة الطرد المركزي التي لم تكن قد نُصبت بعد أثناء الهجوم — قد تكون نجت من الضربات، ويمكن إعادة توجيهها نحو برنامج تسليحي طارئ يمكّنها من إنتاج سلاح نووي خلال عام واحد.
وإذا ما سعت إيران إلى إعادة بناء برنامجها النووي، فسيكون ذلك في غياب أي إشراف رسمي، وبانتهاكٍ صريح لالتزاماتها المستمرة بموجب معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT).
فخلال الفترة القصيرة التي عاشتها خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) — الاتفاق النووي الذي أبرمته إيران مع الولايات المتحدة وقوى كبرى عام 2015 — قدّمت طهران قدرًا من الشفافية مقابل السماح لها بالحفاظ على برنامجها النووي وتخفيف العقوبات الاقتصادية الدولية الخانقة.
لكن بعد انسحاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الاتفاق عام 2018، بدأت إيران تتراجع تدريجيًا، ولكن بثبات، عن التزاماتها، بما في ذلك تقييد وصول المفتشين إلى بعض المواقع الخاضعة للرقابة.
وبعد الهجمات الأخيرة، ألمح مسؤولون ومعلّقون إيرانيون إلى أن تعاون بلادهم السابق مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية هو ما أتاح للولايات المتحدة وإسرائيل جمع معلومات استهداف دقيقة.
وقد صوّت البرلمان الإيراني على تعليق التعاون مع الوكالة، ما دفع الأخيرة إلى سحب مفتشيها المتبقّين من إيران على وجه السرعة لحمايتهم.
وعليه، وفي المستقبل القريب وربما لفترة أطول، لن يكون هناك أي طرف مستقل قادر على التحقق من وضع البرنامج النووي الإيراني.
ففي السابق، اعتمدت إيران على الحذر والشفافية لحماية استثمارها في البرنامج النووي، وبالتالي لضمان بقاء النظام نفسه.
لكن هجمات يونيو/ حزيران على الأرجح قلبت المعادلة؛ فبعد هذه الضربات، قد تكون طهران مستعدة لتحمّل مخاطر أكبر للحفاظ على خياراتها النووية، مع الحرص على إبقاء هذه الجهود طي الكتمان عن أعين العالم.
ويُفاقم هذا التحوّل تآكل منظومة “الدفاع المتقدّم” التي كانت توفرها شبكة وكلاء إيران في المنطقة.
ففي ظل نجاح إسرائيل في تحييد حزب الله، وسقوط الحليف السوري لطهران، قد يصل القادة الإيرانيون إلى قناعة مفادها أن الخيار النووي بات الخيار الوحيد المتبقي.
⸻
• الالتفاف حول الراية
ستتحدد ملامح تعاطي طهران مع برنامجها النووي بناءً على تطورات المشهد السياسي الداخلي في أعقاب الضربات الإسرائيلية والأميركية.
إذ يدرك القادة الإيرانيون تمامًا حساسية احتمالات عدم الاستقرار الداخلي. وقد حرصت وسائل الإعلام التابعة للنظام على تصوير نتائج الحرب التي استمرت 12 يومًا على أنها نصر؛ فالنظام الحاكم صمد، واستعدّ لجولة قتال أخرى.
وقد عززت التداعيات الأولية للنزاع من قبضة النظام، الذي لجأ إلى الأساليب التي طوّرها خلال أزمات سابقة لضمان الاستقرار في مرحلة يُتوقَّع أن تكون أكثر اضطرابًا.
واستعدادًا لاحتمال تجدّد المواجهات، بادر النظام إلى قمع الأصوات المنتقدة. فقد تلقّى معارضون، من بينهم نرجس محمدي، الحائزة على جائزة نوبل للسلام عام 2023، تهديدات مباشرة، كما تم اعتقال المئات، بعضهم بتهم تتعلّق بالتجسس.
وبالموازاة، شرعت السلطة القضائية المتشددة في تسريع محاكمات المتهمين بالتعاون مع إسرائيل.
وفي إطار هذه الحملة، أُجبر نحو نصف مليون أفغاني لجأوا إلى إيران خلال سنوات الحرب الطويلة في بلادهم على العودة القسرية، مع تصاعد عمليات الترحيل ضمن حملة واسعة استهدفت “المتعاونين مع إسرائيل”، وكانت قد بدأت مطلع العام.
ورغم إصرار المسؤولين الأميركيين على أن الضربات لم تكن تهدف إلى تغيير النظام، إلا أن الخطّة الإسرائيلية ربما كانت أكثر طموحًا.
فقد أفادت صحيفة واشنطن بوست بأن مسؤولين إيرانيين كبارًا تلقّوا مكالمات هاتفية مجهولة باللغة الفارسية تحثّهم على التخلي عن النظام، وإلا فسيواجهون الموت.
كما ذكرت صحيفة طهران تايمز — وهي وسيلة إعلامية ناطقة بالإنجليزية تصدر داخل إيران — أن إسرائيل فشلت في تنفيذ محاولة أوسع لـ”قطع رأس” النظام، كانت تستهدف اغتيال الرئيس الإيراني، ورئيس البرلمان، وعدد من كبار المسؤولين الآخرين.
وبدلاً من إسقاط النظام أو شلّ قدراته، يبدو أن الضربات الإسرائيلية قد حرّكت مشاعر الانتماء الوطني العميقة لدى الإيرانيين.
فبالرغم من أن الكثير من الإيرانيين يشعرون بخيبة أمل عميقة تجاه النظام — كما يظهر من موجات الاحتجاج المتكررة — إلا أن التطلّع الواسع نحو مستقبل أفضل وقيادة أكثر مسؤولية يتعايش مع شعور متجذر بالقومية، ونزعة رفض للخصوم الأجانب.
ويُضاف إلى ذلك غياب أي حركة سياسية منظّمة أو شخصية كاريزمية قادرة على توحيد المعارضة المبعثرة، ما يجعل من الجمهورية الإسلامية — على عِللها — الخيار الوحيد القائم في المشهد السياسي الإيراني حتى الآن.
وقد يبدو ضعف إيران، بالنسبة لخصومها التاريخيين، فرصة مغرية لا تُعوّض.
فبالنسبة لإسرائيل، يُعدّ ما تحقق إنجازًا بارزًا ضد ألدّ وأخطر أعدائها.
أما رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، فإن تقويض النفوذ الإيراني، الذي تعزّز عقب هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، يُعدّ انتصارًا يؤكد صواب هوسه المزمن بـ”التهديد الإيراني”.
ومع النجاحات التي حققها في تقليص نفوذ حزب الله وحركة حماس، تمكّن نتنياهو من استعادة مكانته السياسية داخليًا بشكل دراماتيكي.
وقد شكّل انخراط الولايات المتحدة في الحملة ضد إيران، بعد سنوات من التردد والجدل داخل واشنطن بشأن استخدام القوة في الشرق الأوسط، إشارة طمأنة قوية للإسرائيليين بأن حليفهم الأكبر لا يزال مستعدًا لتحمّل المخاطر من أجل تحقيق أهداف استراتيجية مشتركة.
ومع ذلك، فإن مرحلة ما بعد الضربات تفتح الباب أمام تحديات جديدة لإسرائيل.
فعلى عكس الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لا يعيش القادة الإسرائيليون في وهم القضاء الكامل على البرنامج النووي الإيراني؛ فهم يدركون أن طهران ستسعى، عاجلًا أم آجلًا، إلى إعادة بناء قدراتها، ويُبدون استعدادًا واضحًا لمواصلة الحملة لمنعها من تحقيق ذلك.
وقد يدفع النجاح السريع نسبيًا في عمليات يونيو/حزيران إسرائيل إلى انتهاج استراتيجية شبه دائمة تُعرف بـ”جزّ العشب”، أي تنفيذ ضربات مستمرة تهدف إلى إنهاك قدرات الخصم، وهي سياسة اتبعتها إسرائيل على مدار سنوات في لبنان وسوريا.
ولا تزال هذه الحملات قائمة حتى اليوم، وتُعتبر، في نظر صنّاع القرار في تل أبيب، سببًا رئيسيًا في إضعاف حزب الله والمساهمة في انهيار نظام بشار الأسد.
لكن تحويل هذه السياسة إلى حملة طويلة الأمد ضد البرنامج النووي الإيراني سيصطدم بعوائق كبيرة، لا سيما فيما يخصّ مشاركة الولايات المتحدة.
فترامب بنى جزءًا كبيرًا من رصيده السياسي على معارضته للتدخلات العسكرية المطوّلة في الشرق الأوسط.
وقد أفادت شبكة NBC News بأنه رفض خطة قدّمها له كبار قادته العسكريين، كانت تهدف إلى توجيه ضربة أكثر استدامة للقدرات النووية الإيرانية.
كما يُدرك الإسرائيليون أن قدرتهم على مواصلة العمليات العسكرية تواجه قيودًا ملموسة، أبرزها ارتفاع تكلفة صواريخ الاعتراض ونقص مخزونها، وهي مكونات أساسية لحماية الجبهة الداخلية من أي ردٍّ إيراني.
وقد ساهم هذا النقص بشكل مباشر في قرار واشنطن فرض وقف لإطلاق النار بعد 12 يومًا فقط من بدء العمليات.
ولا تقتصر إشكالية الذخائر والموارد على إسرائيل وحدها؛ فالطلب المتزايد على صواريخ الاعتراض، بالإضافة إلى إعادة نشر أصول عسكرية أميركية رئيسية في المنطقة لدعم إسرائيل، يشكّل ضغطًا على الموارد الحيوية التي تحتاجها واشنطن في ساحات أخرى، خصوصًا في آسيا.
إذ إنّ إطالة أمد النزاع مع إيران سيكون على حساب تركيز إدارة ترامب على مواجهة التهديد المتصاعد من الجيش الصيني، وحماية المصالح الأميركية في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ.
في المقابل، ينظر جيران طهران إلى العمليات العسكرية المستمرة ضد إيران على أنها تنطوي على مخاطر لا تُحتمل من حيث زعزعة الاستقرار واحتمالات التصعيد.
وفي الوقت الذي تسعى فيه دول الخليج — وعلى رأسها السعودية — إلى مواصلة خططها الطموحة لتحويل اقتصاداتها ومجتمعاتها إلى مراكز عالمية للتكنولوجيا والسياحة والتجارة، اختارت هذه الدول، خلال السنوات الأخيرة، انتهاج سياسة الاستيعاب بدلًا من المواجهة مع طهران، انطلاقًا من قناعة مفادها أن إقصاء إيران عن النظام الإقليمي قد يدفعها إلى مزيد من السلوك التخريبي.
وقد عززت الضربات الإسرائيلية والأميركية الأخيرة ضد البرنامج النووي الإيراني هذا التوجّه الخليجي.
إذ لا تجد دول الخليج أي طمأنينة في وجود “عملاق جريح” على حدودها.
فقيادات المنطقة لم تنسَ الفوضى التي أثارتها الجمهورية الإسلامية في بداياتها، حين سعت إلى تثبيت مشروعها الثوري من خلال أعمال الإرهاب.
كما لم تغب عن الذاكرة الإقليمية الندوب التي خلّفها صدام حسين، رغم هزيمته، بعد أن ظلّ تحديه قائمًا لعقود طويلة.
أما الضربة الختامية التي وجّهتها طهران خلال الحرب الأخيرة، والمتمثلة في وابل من الصواريخ الباليستية استهدف القاعدة الجوية الأميركية في قطر، فقد كانت أقرب إلى استعراض رمزي منها إلى تصعيد فعلي.
فالإيرانيون أبلغوا كلاً من القطريين والأميركيين مسبقًا، ولم تُلحق الضربة ضررًا يُذكر بالقاعدة التي تم إخلاؤها على عجل.
ومع ذلك، فقد جسّدت هذه الحادثة مدى الخطر الذي قد تمثله إيران المعزولة والمحبطَة على جيرانها.
وقد عبّر المستشار الدبلوماسي لرئيس دولة الإمارات، أنور قرقاش، عن هذا القلق في مقابلة نشرها مركز الفكر الفرنسي GEG، قائلًا:
“شهدنا في مرات عديدة أن الشعور بالهجوم يُلهب النزعة القومية. ولا يمكننا استبعاد هذا السيناريو”.
وأضاف:
“لا يمكن إعادة تشكيل المنطقة عبر القوة العدائية. قد تُحل بعض المشكلات، لكنك ستخلق مشكلات أخرى. علينا أن ننظر إلى تاريخ الشرق الأوسط ودروس العقدين الماضيين؛ لذا فإن استخدام القوة العسكرية ليس حلًا فوريًا”.
ورغم التعاون الأمني الوثيق بين إسرائيل ودول الخليج، فإن احتمال قيام نظام إقليمي تهيمن عليه إسرائيل لا يتماشى مع طموحات هذه الدول.
فالنهج الإسرائيلي القائم على الضربات الاستباقية العدوانية في مختلف أنحاء المنطقة ينذر بمزيد من الاضطرابات التي قد تُعرقل خطط التنمية الاقتصادية الطموحة لدى قادة الخليج.
أما استمرار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الحرب على غزة، رغم غياب أهداف عسكرية واضحة، فقد مثّل عائقًا كبيرًا أمام توسيع اتفاقات أبراهام، الاتفاقيات التي رعتها واشنطن وأسفرت عن تطبيع بعض الدول العربية علاقاتها مع إسرائيل.
وبدأ بعض المسؤولين الأميركيين يُعبّرون عن شعور مماثل بالقلق إزاء استراتيجية إسرائيل.
وقد تصاعدت هذه المخاوف بعد الضربة الإسرائيلية على سوريا في يوليو/تموز، والتي استهدفت مبنى تابعًا لوزارة الدفاع وموقعًا بالقرب من القصر الرئاسي.
فبعد انهيار نظام الأسد أواخر عام 2024، سارعت واشنطن وحلفاؤها الإقليميون إلى احتضان الحكومة السورية الجديدة، على الرغم من أن قادتها سبق أن تحالفوا مع تنظيم القاعدة.
وترى دول الخليج، إلى جانب إدارة ترامب، في دمشق مرتكزًا محتملاً لنظام أمني إقليمي يقوم على السيادة العربية.
أما تركيا، فقد استثمرت بقوة — سياسيًا واقتصاديًا — في دعم الحكومة الجديدة في دمشق، وتعتبر أن التحركات الإسرائيلية في سوريا تستهدف زعزعة الاستقرار بشكل متعمد.
وقد يؤدي تصاعد العنف الطائفي في سوريا، بالتوازي مع المساعي الإسرائيلية لإضعاف الحكومة الجديدة، إلى إشعال صراع جديد وأكثر خطورة بين إسرائيل وتركيا، ويوفّر لإيران فرصة لإعادة إحياء نفوذها داخل سوريا، وكذلك شبكة ميليشياتها العابرة للحدود في المنطقة.
⸻
• فرصة تستحق المحاولة
يشكّل تآكل النفوذ الإيراني حلًّا لتحدٍّ مزمن طال أمده، لكنه في الوقت ذاته يفتح الباب أمام مجموعة جديدة من المخاطر التي تهدد استقرار المنطقة.
ومع ذلك، هناك أمر واحد يبدو مؤكدًا: واشنطن، على الأرجح، لن تتولى مسؤولية إدارة هذا التوازن الهش في موازين القوى بالشرق الأوسط بشكل كامل.
لطالما انتقد ترامب تورط أسلافه في نزاعات باهظة الكلفة في الشرق الأوسط، وهو اليوم قادر على تقديم تدخله السريع وخروجه الفوري من الصراع مع إيران كإنجاز يُطهّر أخطاء الإدارات السابقة.
وقد صرّح أحد مسؤولي إدارة ترامب لموقع Axios بعد الضربات الأميركية في يونيو/حزيران قائلًا: “هو ليس جيمي كارتر”، في إشارة تهكمية إلى الرئيس الأميركي الأسبق.
وفي تصريحاته من البيت الأبيض، استحضر ترامب عملية الإنقاذ الفاشلة للرهائن التي أُطلقت عام 1980 في عهد كارتر، مستمتعًا بالمقارنة ومُشيدًا بنجاح الضربات الجوية الأميركية.
وقال: “الصين، وروسيا، وكل العالم كانوا يراقبون. نحن نمتلك أفضل المعدات في العالم، وأفضل الرجال، وأقوى جيش في العالم”.
لكن، وبالرغم من كل هذه العبارات الحماسية، فإن البرنامج النووي الإيراني لم يتم القضاء عليه بالكامل.
ولتحقيق هذا الهدف بشكل نهائي، فإن الأمر يتطلّب إما حلاً دبلوماسيًا أو تغييرًا في النظام، والحل الأول فقط هو المتاح حاليًا.
فلطالما زعم ترامب أنه قادر على التفاوض على اتفاق أفضل من خطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015، ويبدو من تصريحاته العلنية أنه منفتح على احتمال إقامة علاقات دبلوماسية واقتصادية أكثر طبيعية مع طهران.
وحتى في حال رفض الإيرانيين هذا العرض، فإن مجرد تقديمه قد يُشكّل فرصة فعالة لتسليط الضوء على الهوة العميقة بين تطلعات القيادة الإيرانية الحالية وتطلعات الشعب الإيراني.
وصياغة إطار دبلوماسي جديد لإدارة أزمة البرنامج النووي الإيراني ليست بالمهمة السهلة.
فوزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، ترك الباب مواربًا أمام إمكانية العودة إلى طاولة المفاوضات، لكنه شدد في الوقت نفسه على أن الضربات الأخيرة جعلت طريق التوصل إلى أي اتفاق أكثر تعقيدًا.
ويشعر المسؤولون الإيرانيون بالامتعاض من أن إحدى جولات التفاوض التي كانت مجدولة مسبقًا استُخدمت — بحسب قولهم — كغطاء لطمأنتهم قبل تنفيذ الهجوم الإسرائيلي المباغت، وقد أشار بعضهم إلى أن اتخاذ خطوات لبناء الثقة سيكون ضروريًا لإقناع طهران بالعودة إلى الحوار.
وخلال إدارة بايدن، صعّدت الدول الأوروبية من دورها، وفي ظل تردد واشنطن، دعت إلى توجيه لوم رسمي لإيران من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية بسبب عدم تعاونها مع المفتشين ورفضها الرد على تساؤلات تتعلق ببرنامجها النووي.
ويمكن لتلك الدول الأوروبية أن تقوم بدور فعّال في المرحلة الحالية أيضًا، من خلال تفعيل ما يُعرف بـ “آلية العودة السريعة للعقوبات” (snapback clause)، وهي بند ضمن خطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015، لا تزال الدول الأوروبية وإيران أطرافًا فاعلة فيه من الناحية الفنية.
تُعدّ هذه الآلية إحدى الضمانات المضمّنة في الاتفاق النووي، والتي تتيح لأي طرف في الاتفاق إعادة فرض مجموعة من العقوبات الاقتصادية الأممية على إيران في حال إخلالها بالتزاماتها.
إلا أن عمق عدم ثقة إيران بالدول الغربية، إلى جانب قدرة النظام الإيراني على الصمود في وجه الظروف القاسية، يُضعف فاعلية هذه الأداة في كبح قيادة إيرانية متصلّبة وعنيدة.
ورغم الخطاب المتفائل والمبالغ فيه، لم يُقضَ على البرنامج النووي الإيراني بعد.
فالدبلوماسية ليست حلًا بحد ذاتها، لكنها قد تتيح فرصة ثمينة عبر بذل جهد منسق لاستدراج طهران إلى حوار جاد بشأن مستقبل برنامجها النووي. ومثل هذا الحوار من شأنه أن يشتري الوقت، ويُعمّق الانقسامات الحتمية داخل النظام الإيراني، ويعزز الشفافية حول المنشآت والأنظمة التي قد تُسهّل أي اندفاعة إيرانية نحو إنتاج سلاح نووي.
وقد بدأ نظام إقليمي جديد بالتشكّل، ولم تعد إيران وميليشياتها في صدارة المشهد.
ورغم أن الحرب التي اندلعت في يونيو/ حزيران نُفّذت ببراعة، فإن الحيلولة دون امتلاك إيران قنبلة نووية تتطلب ما هو أكثر من مجرد بنك أهداف عسكرية متين؛ فالنظام الثوري لا يمكن إخضاعه بشكل دائم بالقوة وحدها.
ولا يملك القادة الإيرانيون أسبابًا كثيرة للثقة في العروض الأميركية لإجراء حوار، إلا أن الرئيس ترامب قد يكون قادرًا على تغيير السردية السائدة من خلال استغلال رفضه للمقاربات السياسية التقليدية.
وقد منحه استعداده للتدخل دعمًا للعملية العسكرية الإسرائيلية داخل إيران مصداقية خاصة وهامشًا أوسع للمناورة.
وقبيل اندلاع الحرب في يونيو/ حزيران، كان المفاوضون الأميركيون والإيرانيون يناقشون أفكارًا مبتكرة لكسر الجمود حول قضية تخصيب اليورانيوم، التي كانت وما زالت نقطة الخلاف المركزية في النزاع الممتد لعقود حول أنشطة إيران النووية.
وتشير التقارير إلى أن بعض المقترحات، مثل إنشاء كونسورتيوم إقليمي للتخصيب خارج الأراضي الإيرانية، أو ضخ استثمارات أجنبية في منشآت الطاقة النووية المدنية، قد تشكّل مخرجًا عمليًا من هذه الأزمة، لا سيما إذا اقترنت بتخفيف للعقوبات.
على أن أي اتفاق محتمل لا بد أن يتضمّن قيودًا على تطوير إيران لمنظوماتها الصاروخية، فضلًا عن منح المفتشين الدوليين حرية وصول غير مشروطة للتحقق من امتثال طهران الكامل.
ومن المرجّح أن تُقابل مثل هذه البنود برفض شديد من قِبل المسؤولين الإيرانيين، رغم الأعباء الثقيلة التي خلّفتها الحرب.
ولتعزيز مصداقية أي مقترحات تُطرح، ينبغي على ترامب الاستمرار في إبراز رغبته برؤية مستقبل أكثر إشراقًا لإيران، وعلاقة مختلفة تمامًا بين البلدين. وحتى إن لم تُكلَّل هذه المساعي بالنجاح، فإن مجرد توجيه الولايات المتحدة دعوة لإقامة علاقة دبلوماسية واقتصادية جديدة مع طهران قد يزرع بذور انقسام استراتيجي داخل النظام الإيراني، في لحظة حرجة من أزمته الراهنة.
ومع تراجع القوة والنفوذ الإيراني، وتزايد التحديات التي تفرضها صعود الصين وتعنت روسيا – وهما ملفان أصبحا يحتلان أولوية قصوى في أجندة الأمن القومي الأميركي – قد يبدو خيار اللامبالاة هو الأكثر جاذبية بالنسبة لواشنطن.
لكن ذلك سيكون خطأً استراتيجيًا فادحًا.
فالعالم يقف على حافة مرحلة خطيرة من الانتشار النووي، تُهدد بتوسيع نطاق المخاطر الكارثية على مستوى الجغرافيا الدولية.
لذا، من الضروري صياغة مسار دبلوماسي يُعيد فرض الشفافية على البرنامج النووي الإيراني، ويوفّر مخرجًا من دوّامة التصعيد التي تترصّد حالة الهدوء الهشّة لما بعد الحرب.
لقراءة المادة من موقعها الاصلي:
https://www.foreignaffairs.com/iran/irans-dangerous-desperation