في السابع والعشرين من أبريل/ نيسان، تحل ذكرى وفاة (رؤوفة حسن)، التي توفيت في القاهرة عام 2011 عن عمر ناهز الثالثة والخمسين. كانت رؤوفة حسن محبوبة ومبجلة من قِبل أجيال من اليمنيين، إذ كانت رائدة في مجال حقوق المرأة اليمنية، وصحفية مرموقة، وأكاديمية وكاتبة ومثقفة بارزة. إلا أن مكانتها لدى محبيها تجاوزت هذه الألقاب؛ إذ اعتُبرت شخصية تحمل "الحقيقة الثقافية لليمن"، وكانت، في جوهرها، عالمة اجتماع، "ليس فقط في قضايا المرأة، بل في شؤون المجتمع اليمني بأسره."
في عام 2007، حظيت بفرصة لقاء رؤوفة حسن في فندق خليج الفيل الواقع على شاطئ عدن. وكان هذا المنتجع لسنوات طويلة وجهة مفضلة لليمنيين والأجانب على حد سواء، بفضل التكوين الصخري الفريد للخلجان المشابهة لخرطوم الفيل، وإمكانية الجلوس بجانب خليجه الخلاب مع أنغام الغربان السوداء العدنية في الخلفية. كان اللقاء عابراً، جلسة حوارية مع مجموعة من النساء اليمنيات والأجنبيات، معظمهن يعملن في مجال حقوق المرأة، وكان معظمهن، مثلها، في زيارة قصيرة إلى عدن قادماتٍ من صنعاء.
كانت سمعة رؤوفة تسبقها أينما حلت. فقد كانت، حتى في الأوساط الدولية، أيقونة بارزة. و كان حجابها المميز -الذي كانت تلفه من الأعلى على هيئة مشدة ذكورية، ويتدلى من الأسفل مثل اللثام- رمزًا لشخصيتها المتفردة ولروحها التي تجدف عكس التيار. وقد ارتبط اسمها بقصة كثيرًا ما كانت تُروى في دوائر النساء ومحافلهن، قصة وقعت قبل سنوات لكنها بقيت مثالًا تحذيريًا للعاملين في قضايا التنمية والنوع الاجتماعي في اليمن.
ففي عام 1999، كانت رؤوفة في قلب واحدة من أعنف حملات التحريض التي شُنّت ضد امرأة في البلاد؛ إذ جرى خلالها تعبئة 129 مسجدًا في أنحاء اليمن كافة ضدها، متهمين إياها زورًا بأنها تروج لمفاهيم مثيرة للجدل ومخالفة للدين فيما يخص قضايا الجندر. وبجسدها النحيل المعروف، واجهت رؤوفة بثبات وطأة المؤسسة المحافظة في اليمن، ما اضطرها إلى مغادرة البلاد لفترة مؤقتة. لقد كانت قصة تجسد شجاعة استثنائية، لكنها في نهاية المطاف لم تكن سوى جزء صغير من إرث أكبر نسجته خلال حياة قصيرة للغاية.
• بدايات الإرث
وُلدت ونشأت (أمة الرؤوف حسين الشرقي) (وهو اسمها الحقيقي) في مدينة صنعاء القديمة، وتحديدًا في حي الطبري، وتنحدر من أسرة معروفة من القُضاة الشرعيين. في مطلع السبعينيات، حين لم تكن أجهزة التلفاز قد دخلت البيوت اليمنية بعد، وكانت الإذاعة الوسيلة الإعلامية الأساسية، بدأت رؤوفة، وهي لا تزال في الثانية عشرة من عمرها، العمل في أحد برامج الأطفال.
وبفضل إرادتها القوية وطموحها الكبير، تطلعت رافعة بعد إنهاء دراستها المدرسية إلى دور أكبر في الإذاعة؛ حيث كانت ترغب في أن تصبح مذيعة. إلا أن الضغوط الاجتماعية على النساء كانت عائقًا صعب التجاوز. فقد ذكرت في مقابلة صحفية أن عمل المرأة في الإذاعة كان يُنظر إليه، من منظور العائلات المحافظة، على أنه مشين ويوازي "الرقص أو أسوأ من ذلك".
و جاء الحل عبر وزير الإعلام آنذاك (عبد الله حمران)، الذي اقترح عليها استخدام اسم مستعار هو "رؤوفة حسن"، حتى لا يتعرف الجمهور على اسم عائلتها، مما يجنبها العار الاجتماعي المحتمل. ومنذ ذلك الحين، التصق بها هذا الاسم.
و في سنواتها التكوينية، أصبحت رؤوفة حسن اسمًا مألوفًا في أوساط المجتمع اليمني، حيث عملت في الإذاعة والتلفزيون وأنتجت برامج مثل "أنا، هو وأنت" و"صور من بلادي". وعلى الرغم من انشغالها لاحقًا بقضايا أخرى، فإن شغفها بالظهور الإعلامي ظل يرافقها على نحوٍ متقطع.
أما مسيرتها التعليمية، فقد قادتها للتنقل بين اليمن والخارج، حيث درست الصحافة في كل من مصر والولايات المتحدة، قبل أن تكمل دراساتها العليا في فرنسا، وتحصل على درجة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة السوربون المرموقة في باريس. و كانت رؤوفة تتقن اللغات العربية والإنجليزية والفرنسية.
ومع ذلك، فقد كان عبر الصحافة أن رؤوفة حسن بدأت تترك بصمتها العميقة في المجتمع اليمني. ففي ثمانينيات القرن الماضي، وعقب عودتها من دراستها في مصر، أصبحت أول امرأة تُوظف في واحدة من أكبر الصحف اليمنية، صحيفة الثورة، حيث تولّت رئاسة قسم التحقيقات الصحفية.
وحتى اليوم، يُدين العديد من أجيال الصحفيين اليمنيين بمسيرتهم المهنية لرؤوفة حسن. وفي عام 1991، أسست أول قسم للإعلام في جامعة صنعاء، واضعة بذلك الأساس الذي مهد لاحقًا لإنشاء كلية الإعلام عام 2006. وقد تركت بين طلابها أثرًا عميقًا لدرجة أنه ولسنوات طويلة، كان كل من ينتمي إلى قسم الإعلام يُلقب بمودة بـ"أبناء رؤوفة".
ومع ذلك، فإن إرثها الصحفي لا يقتصر على العمل الأكاديمي، بل يتجسد أيضًا في كتاباتها الغزيرة التي واظبت عليها طوال حياتها، حيث أظهرت عناوين أعمالها روحها المرحة وسخريتها المميزة، مثل كتابها "يحبني ولا يحبني"، إلى جانب لمستها الصحفية البارزة. وقد كان آخر مقال كتبته بعنوان "تأسى وحزن"، نُشر في صحيفة الوطن في 28 أبريل/ نيسان 2011، إبان احتجاجات الربيع العربي في اليمن، وذلك قبل اثني عشر يومًا فقط من وفاتها.
• قوة داعمة لحقوق المرأة والتغيير الاجتماعي
رغم تعدد إنجازاتها، ستُذكر رؤوفة حسن دائمًا في جوهر إرثها كناشطة كرّست حياتها للدفاع عن حقوق المرأة والسعي نحو إحداث تغييرٍ اجتماعي. فقد أثمرت جهودها عن تحقيق مكاسب للمرأة تُعد من بين الأبرز في تاريخ اليمن، لا سيما في الشمال، حيث لم تحظ النساء بالسياسات التقدمية التي كانت قد طُبقت في الجنوب إبّان عهد جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
كما أوضحت إحدى طالباتها السابقات في جامعة صنعاء، التي كانت أيضًا من المقربين إليها، قائلة: "لقد عانت النساء في الشمال كثيرًا من أجل المشاركة في الحياة العامة، واضطررن لدفع أثمان باهظة على المستوى الشخصي لتحقيق هذا التقدم. أما في الجنوب، فكانت النساء أكثر تحررًا، إذ كن جزءًا من النقابات، بينما كانت معاناة النساء في الشمال أشد وأقسى."
طوال حياتها، كانت رؤوفة عضوة ومؤسسة للعديد من الجمعيات النسائية، حيث عملت على نطاق واسع من أجل تعزيز مشاركة المرأة اليمنية في الحياة السياسية. ولم تتردد في التصريح بانتقاد ضعف تمثيل النساء في البرلمان، فترشحت كمستقلة في الانتخابات البرلمانية للجمهورية العربية اليمنية عام 1988، وأطلقت مبادرات لتسجيل النساء في سجلات الاقتراع.
و بوصفها إحدى الوجوه البارزة للمرأة اليمنية، مثلت رافعة النساء في العديد من المؤتمرات الإقليمية والدولية التاريخية المتعلقة بحقوق المرأة، من ليبيا والقاهرة والمغرب إلى بكين، ما أكسبها فهمًا عميقًا للمشهد الدولي في هذا المجال، إلى جانب تقدير واحترام واسع داخل اليمن وخارجه.
لقد كانت تتمتع بشبكة علاقات واسعة، وفهمٍ دقيق لطبيعة المجتمع، وحس دبلوماسي بارع مكّنها من تحقيق أهدافها. كما أن نقدها الحاد لاضطهاد النساء لم يقتصر على نقد الأُطر الأبوية داخل مجتمعها فحسب، بل امتد أيضًا إلى نقد الدساتير العربية وإلى المؤسسات الدولية التي اتهمتها بالتقاعس، بما في ذلك الأمم المتحدة، حيث وصفت إرثها التنموي ذات مرة بأنه "تنمية بساق واحدة"، في إشارة إلى فشل تلك الجهود في إدماج المرأة بشكل حقيقي.
دائمًا ما كانت رؤوفة حسن تسعى لكسر الحواجز وفتح آفاق جديدة. ففي عام 1993، أسست أول قسم لدراسات المرأة في جامعة صنعاء، والذي تطور لاحقًا، بعد ثلاث سنوات، إلى مركز البحوث التطبيقية ودراسات المرأة. وقد قدم المركز مقررات مبتكرة تناولت نظرية النوع الاجتماعي ومنهجيات البحث في قضايا الجندر، وهي مفاهيم كانت جديدة آنذاك على الجامعة وأساسية لتطور هذا المجال الأكاديمي.
غير أن جهودها في هذا المجال جاءت بثمن باهظ.
ففي عام 1999، وأثناء قيادتها للمركز، أصبحت رؤوفة هدفًا لحملة تحريضية شرسة تُعد من بين الأعنف التي استهدفت امرأة يمنية، وذلك في فترة سبقت ظهور وسائل التواصل الاجتماعي وانتشار ظاهرة التنمر الإلكتروني التي تطال النساء القياديات اليوم.
و قبل أسبوع واحد فقط من الانتخابات الرئاسية لذلك العام، نظّمت رؤوفة مؤتمرًا دوليًا بعنوان "تحديات دراسات المرأة في القرن الحادي والعشرين"، بمشاركة أكثر من 56 دولة وحضور نخبة من أبرز المفكرين العالميين في قضايا حقوق المرأة.
وقد سعى التيار المحافظ، بقيادة حزب الإصلاح الإسلامي، إلى استخدام المؤتمر كوسيلة لصرف الانتباه عن الديناميات السياسية الداخلية التي كانت تلقي بظلالها على الانتخابات. فقاموا بتأويل مضامين المؤتمر بشكلٍ مغرض، مما أدى إلى إطلاق حملة تشويه منسقة ضدها.
ونتيجة لذلك، قام 129 مسجدًا بشن هجوم عليها خلال خُطب الجمعة، حيث تم تشويه سمعتها علنًا من على المنابر في مختلف أنحاء البلاد.
و كانت الأشرطة الصوتية التي تدين رؤوفة تُباع على نطاق واسع في تقاطعات الطرق والمساجد والجامعات، وكانت تحمل عناوين تشهيرية مثل:
"الجندر يغزو اليمن"، "القردة المقلدة"، و"مؤامرات ومؤتمرات".
وقد دفعت هذه الأحداث الدرامية رؤوفة إلى مغادرة البلاد بشكلٍ مفاجئ. وتشير المقابلات والمقالات التي تناولت مسيرتها إلى أن تلك الحملة كانت واحدة من أحلك الفترات في حياتها.
و أمضت رؤوفة أربع سنوات تدرّس في كلٍّ من هولندا والدنمارك وتونس، قبل أن تعود إلى اليمن عام 2005، حيث أسست "مؤسسة برامج التنمية والثقافة"، التي قادت العديد من المبادرات، من تعزيز مشاركة المرأة السياسية، إلى توثيق الأزياء الوطنية للقادة السياسيين اليمنيين عبر العصور.
و تصادف الذكرى الرابعة عشرة لوفاة رؤوفة حسن ظرفًا بالغ الصعوبة بالنسبة للنساء حول العالم، لا سيما النساء في اليمن، حيث وثقت العديد من المنظمات، بما في ذلك مركز صنعاء، الانتهاكات الجسيمة التي تتعرض لها حقوقهن.
و استذكار رؤوفة حسن اليوم يحمل في طياته إلهامًا ضروريًا للرؤية والشجاعة، في وقتٍ تتمحور فيه النقاشات حول المرأة بين سرديتين رئيسيتين: الانتهاكات الفادحة والمأساوية التي لا تزال تتعرض لها النساء، وإقصاؤهن المستمر عن مواقع التأثير وصنع القرار.
و حتى اليوم، تظل رؤوفة نموذجًا يُحتذى به، ليس فقط للنساء في اليمن، بل أيضًا للنساء حول العالم، ممن تركت بصمة في حياتهن دون أن تعرفهن شخصيًا. ولهذا، يمكن القول دون مبالغة إن إرث رؤوفة حسن يتمثل في كونها أيقونة النسوية الأبرز في تاريخ اليمن.
ومع ذلك، فإن حصر إرث رؤوفة حسن ضمن قوالب النسوية الغربية وسرديات التحدي التقليدية من شأنه أن يُغفل الجانب الأهم من تأثيرها، وهو الأثر العميق الذي تركته في اليمن، المتجذر في رؤية تقدمية نحو بناء مجتمع عادل ومنصف، والسعي لإقامة وطن "لا يشبه سوى ذاته".
كانت آراؤها حول قضايا الجندر متقدمة على عصرها، لكنها في الوقت نفسه كانت متجذرة بعمق في التجربة الحياتية الفريدة لامرأة تكسر الحواجز في سياقٍ ثقافي خاص، يتميز بنسيج اجتماعي معقد تفرض فيه توقعات دقيقة ومطالب قاسية على النساء.
وقد أكدت رؤوفة مرارًا أن النضال من أجل المساواة في اليمن يجب أن يشمل الرجال والنساء معًا، وهي رؤية لا تزال، حتى اليوم، تتحدى الكثير من المقاربات البالية التي تحصر النقاش حول قضايا الجندر في النساء فقط، مما يؤدي إلى تهميشهن بشكلٍ مضاعف.
وفي معرض حديثها عن مقاومتها لمحاولات المانحين الدوليين فرض تصوراتهم حول كيفية دراسة قضايا الجندر في اليمن، قالت ذات مرة:
"اختلفنا مع المفهوم الغربي للنسوية. النسوية، في الغالب، كانت تعني بالنسبة لهم حصر النساء في إطارٍ ضيق. لكن هذا لم يكن تصورنا. نحن أردنا للرجال والنساء معًا أن يدرسوا مجتمعنا، وأن يشككوا في النظريات القائمة، حتى نتمكن من صياغة نظرية جديدة. و لا يمكن للنساء وحدهن أن يحققن ذلك، ولا يستطيع الرجال وحدهم كذلك؛ علينا أن نقوم بذلك معًا. فالقضية ليست قضية الجندر الأنثوي وحده؛ نحن نتحدث عن قصة الجندرين معًا، وعن مشكلاتنا المشتركة، لأننا نواجه التحديات معًا."