مقدمة
كان الإعلان عن اندماج فَرعَي تنظيم القاعدة المسلّح في اليمن والسعودية عام 2009 بمثابة تغيير جوهري في هيكل التنظيم، إذ لم يعد محصورًا داخل حدود دول إقليمية. كان من المقرر أن يُطلق على التنظيم الجديد، الذي أُعلن عنه من محافظة شبوة في اليمن ويرأسه اليمني ناصر الوحيشي، المساعد الشخصي السابق لأسامة بن لادن، اسم تنظيم القاعدة في جزيرة العرب. احتفظ التنظيم بهذا الاسم حتى اليوم.
ومع تولي رجل الدين الأمريكي-اليمني أنور العولقي منصب كبير المنظرين فيه، أسس تنظيم القاعدة في جزيرة العرب عام 2011 فرعًا له باسم أنصار الشريعة. جاء تأسيس أنصار الشريعة ضمن استراتيجية جديدة بعد أن أدرك التنظيم ضرورة التكيف مع بيئته، جزئيًّا، عبر التغلغل في النظام القبلي المحلي والعمل من خلاله. كانت الفكرة “إعادة تغيير صورة” التنظيم وجعله مقبولًا أكثر عبر تصويره على أنه تنظيم محلي. كان هذا يتناقض مع معتقدات منظري تنظيم القاعدة الأكثر تطرفًا وغيرهم من المتشددين الإسلاميين الذين يجادلون بضرورة عدم تقديم أي تنازلات لأي نظام حكم لا يلتزم بتفسيرات التنظيم للشريعة الإسلامية.
شهدت هذه الاستراتيجية الجديدة أكبر نجاح لها بين عامي 2010 و2014 بالتغلغل في قبيلة قيفة بمحافظة البيضاء وسط اليمن. كان هذا أطول وجود للتنظيم في منطقة واحدة داخل اليمن والأكثر استقرارًا، إلا أنه لم يُترجم إلى امتداد واسع من الدعم داخل القبائل اليمنية الأخرى، لأسباب ستُشرح لاحقًا. يسلط وجود التنظيم في قيفة الضوء على قدرة التنظيم في الاستفادة من الانقسامات القبلية وانهيار الدولة لترسيخ وجوده داخل النظام القبلي اليمني.
كانت أسرة الذهب جزءًا محوريًّا في حدوث ذلك. ورثت الأسرة لقب المشيخة في قبيلة قيفة منذ النصف الثاني من القرن العشرين على الأقل. حين توفي الزعيم القبلي أحمد ناصر الذهب عام 1987، أدت الانقسامات بين أبنائه الثمانية عشر إلى حرمان جناح في الأسرة من الإرث. انجذب هؤلاء الإخوة، بقيادة طارق الذهب، في نهاية المطاف إلى التنظيم، ما سهّل وجوده داخل قيفة والإعلان الوجيز في يناير/كانون الثاني 2012، عن تأسيس إمارة إسلامية في مدينة رداع، أكبر مدن محافظة البيضاء. بدعم من التنظيم، استولى جناح أسرة الذهب المؤيد للتنظيم على زعامة قبيلة قيفة ليجبر جناح الأسرة المناهض للتنظيم على مغادرتها.
جند التنظيم في قيفة زعيم القبيلة، الذي يُعد السلطة العليا لها. في الواقع، كانت المنفعة مشتركة؛ وبهدف السيطرة على المنطقة، احتاج التنظيم إلى شخصيات مثل طارق الذهب وإخوته ومكانتهم في القبيلة، فيما احتاج طارق وإخوته إلى التنظيم لتعزيز مكانتهم واستعادة حقهم في الإرث وتحسين هيبتهم. أصبح الانتساب إلى التنظيم وتولي منصب أمراء أو زعماء محليين في التنظيم شرطًا أساسيًّا للظفر بمنصب زعيم القبيلة.
ستبحث هذه الورقة العلاقة بين التنظيم وقبيلة قيفة وقصة صعود جناح أسرة الذهب المؤيد للتنظيم داخل القبيلة وسقوطه في نهاية المطاف. تسلط القصة الضوء على الطريقة التي تعامل بها التنظيم مع القيود التي فرضها عليه النظام القبلي اليمني، وكيف استغل الانقسامات داخل أسرة الذهب وبعض التناقضات في النظام القبلي الذي يعمل داخل هيكل دولة حديثة. كما ستحلل الورقة كيف أثبت في نهاية المطاف أن محاولة إيجاد التوازن بين النظام القبلي وأهداف التنظيم أمر في غاية الصعوبة بالنسبة للتنظيم، ما أدى إلى انهيار مشروعه في قيفة.
منهجية
اعتمدت هذه الورقة على خمس مقابلات مع مصادر قبلية من قيفة ومنطقة رداع، بينهم أحد أفراد الجناح المعارض للتنظيم، ورئيس لجنة الوساطة التي أخرجت التنظيم من رداع عام 2012، إضافة إلى عدة مقابلات مع مصادر أخرى من الأسرة والقبيلة استدعى الأمر إخفاء أسمائهم وعدم تحديد طبيعة المعلومات التي تحدثوا حولها لأسباب أمنية. كما كان من المخطط إجراء مقابلات أخرى لم تتم لمخاوف أمنية شعر بها الذين ستتم مقابلتهم، والكاتب الذي تلقى تهديدات في السابق من تنظيم القاعدة في جزيرة العرب. استفاد الكاتب من خبرته في رداع لإنتاج هذه الورقة، إذ تلقى تعليمه في جامعة البيضاء-كلية التربية والعلوم في رداع بين عامي 2001 و2005 ثم عمل معيدًا في الكلية حتى عام 2013. لكن الجامعة فصلته من منصبه نتيجة ضغط من المتشددين عقب اتهامه بمناقشة قضايا مثيرة للجدل مع الطلاب. تزامن وجود الكاتب في رداع مع بداية وجود التنظيم هناك وفي قيفة المجاورة، وكان ذلك مفيدًا للغاية في إعداد هذه الورقة من ناحية فهم الحيثيات القبلية والسياق الاجتماعي وخلفيات العديد من الأحداث التي تتطرق إليها الورقة، وكان الباحث شاهدًا على الكثير منها.
قبيلة قيفة وأسرة الذهب
تتمركز قبيلة قيفة في مديريتي ولد ربيع والقريشية، شمال شرقي محافظة البيضاء. ولها ثلاثة فروع: آل غنيم، وآل ولد ربيع، وآل محن يزيد، وتهيمن أسرة الذهب على الفرعين الأخيرين. يرجع الفضل لشهرة أسرة الذهب، ومشيختها الموروثة، إلى الشيخ أحمد ناصر الذهب، الذي كان أبرز شيخ قبلي في المنطقة. كان للشيخ أحمد علاقة معقدة مع الدولة اليمنية، فهو عارض ثورة عام 1962 في شمال اليمن التي أفضت إلى إنشاء الجمهورية العربية اليمنية (اليمن الشمالي) وشهدت نهاية المملكة المتوكلية والإمامة الزيدية.
توفي الشيخ أحمد الذهب (الأب) عام 1987، فخلفه ابنه الأكبر، الشيخ علي، الذي أصبح عضوًا في البرلمان اليمني عن حزب البعث العربي الاشتراكي. لكن الشيخ علي لم يكن سوى واحد من أبناء الشيخ أحمد والبالغ عددهم 18، الذين اختلفوا في نهاية المطاف على الميراث والنفوذ داخل قيادة القبيلة.
انقسم الإخوة في أسرة الذهب إلى جناحين. كان الشيخ علي، إلى جانب حزام وخالد، أولاد الزوجة الأولى القوية والمتنفذة للشيخ أحمد، هم الأبرز في الجناح الأول، واستولوا على زعامة القبيلة وحرموا إخوانهم غير الأشقاء عمدًا من ميراثهم، بما في ذلك الأراضي الزراعية الشاسعة التي تركها والدهم. حُرم الجناح الثاني، الذي يتألف من الأخوة غير الأشقاء، ومنهم طارق ونبيل وعبدالرؤوف وعبدالإله وقائد وأحمد وسلطان، من إرث والدهم وأُجبِروا على البحث عن طريقة للمطالبة بما اعتبروه حقًا لهم. وبالتالي، احتضن الجناح الثاني تنظيم القاعدة في جزيرة العرب نهاية المطاف.
أُجبر الإخوان الأصغر سنًا من أسرة الذهب على مغادرة قيفة ليستقروا في صنعاء، منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ووفقًا لمصدر من جناح الأسرة المناهض لتنظيم القاعدة، تعرّف طارق في صنعاء على رجل الدين أنور العولقي المولود في الولايات المتحدة الذي غادرها عام 2002 بعد شكوك تورطه في هجمات 11 سبتمبر/أيلول الإرهابية. توطدت العلاقة بين طارق -الذي أصبح فيما بعد أهم أفراد الأسرة داخل التنظيم -والعولقي حين تزوج الأخير من أخت طارق. أنشأ هذا الزواج علاقة مباشرة بين التنظيم والإخوان الأصغر سنًا من أسرة الذهب، الذين زُوِّدوا بالمال والسلاح، وهو ما مكّنهم من العودة إلى قيفة.
صعود وسقوط مشروع تنظيم القاعدة في جزيرة العرب في قيفة
عاد طارق إلى قيفة قبل وقت قصير من وفاة أخيه الأكبر، الشيخ علي، أواخر عام 2010. ورغم انتقال قيادة القبيلة رسميًّا إلى ابن الشيخ علي، ماجد، رسخ طارق نفسه زعيمًا داخل القبيلة وكمرجعية لحل المشاكل والنزاعات المتعلقة بالثأر. سمحت له مكانته -التي أخذت في التنامي -داخل القبيلة بزيادة العلاقات بينها وبين التنظيم. وبدأ التنظيم المسلح يرى في قيفة ورداع مكانين مناسبين لتأسيس محاكمه الشرعية، وبالتالي إيجاد موطئ قدم له في المنطقة.
أدى تزايد نفوذ طارق والتنظيم داخل قيفة إلى زيادة هجمات التنظيم المسلح على معارضيه في رداع، واقتحام التنظيم المدينة نهاية المطاف في 13 يناير/كانون الثاني 2012 وأعلنها إمارة إسلامية. ومن مسجد العامرية التاريخي في مدينة رداع، انتهز طارق الفرصة ليعلن ولاءه لزعيم تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، ناصر الوحيشي، وكذلك لزعيم تنظيم القاعدة، أيمن الظواهري، ما عزز العلاقة بين طارق وتنظيم القاعدة في جزيرة العرب.
لكن سيطرة التنظيم على مدينة رداع كانت قصيرة الأمد، إذ سارعت القوات القبلية من المناطق المحيطة نحو المدينة، وبعد نحو أسبوعين من القتال، نجحت في طرد التنظيم وطارق من المدينة. ورغم السماح لطارق بالعودة إلى قرية المناسح، مسقط رأس أسرته، إلا أن أخويه حزام وخالد وكذلك ابن أخيه الشيخ ماجد تبرؤوا منه علنًا في 22 يناير/كانون الثاني 2012. وفي الشهر التالي، قُتل طارق وأخوه أحمد على يد حزام خلال مواجهة مسلحة. كان الغرض من قتل الأخوين على يد حزام إضعاف التنظيم، ومنع انتشار الثأر بين القبائل المختلفة نظرًا لأن طارق قُتل على يد أحد أفراد أسرته.
مع ذلك، لم تنته القصة هنا، إذ في نفس اليوم الذي قُتل فيه طارق، قُتل حزام على يد مسلحين من التنظيم بقيادة أخيه قائد، وأُجبر الشيخ ماجد على مغادرة قرية المناسح إلى صنعاء. كانت قوة التنظيم قد نمت في قيفة لدرجة أنه تمكن من تجاوز مقتل طارق واستغلاله كفرصة لترسيخ سيطرته على القبيلة. وهكذا أصبحت قيادة القبيلة أخيرًا بيد الأخوة الأصغر سنًا من أسرة الذهب الذين حُرموا من الميراث سابقًا، وقسّموا المسؤوليات القبلية والمسؤوليات المتعلقة بتنظيم القاعدة في شبه جزيرة العرب فيما بينهم.
وبالتالي، أصبح التنظيم، الذي حظي بدعم قبلي رسمي في قيفة إلى حد ما، في موقف يسمح له بالتنقل في أرجاء المنطقة وبدأ بفرض قوانينه الخاصة. ونتج عن ذلك عدد من الجرائم ارتُكبت في حق أشخاص اعتُبروا “مشعوذين”، وتهديدات طالت المدنيين، ومنهم مؤلف هذه الورقة، الذي تلقى تهديدات بالقتل في أبريل/نيسان 2012 بسبب آراء تحاور فيها مع طلابه في فترة عمله كمحاضر في كلية التربية والعلوم بمدينة رداع.
استمر وجود التنظيم في مدينة رداع والمنطقة المحيطة بها حتى يناير/كانون الثاني 2013، حين شنت القوات الحكومية عملية ضد المسلحين؛ عقب اختطاف التنظيم ثلاثة أجانب في ديسمبر/كانون الأول 2012. واستمر استهداف الولايات المتحدة والقوات الحكومية لأفراد أسرة الذهب الذين كانوا أعضاء في التنظيم، حيث قُتل قائد ونبيل بغارة شنتها طائرة أمريكية مسيّرة عامي 2013 و2014 على التوالي.
وبحلول سبتمبر/أيلول 2014، عند استيلاء جماعة الحوثيين على العاصمة صنعاء وتوسعها في باقي الأراضي اليمنية، وظفت جماعة الحوثيين المسلحة علاقة التنظيم بقبائل قيفة كمبرر لدخول البيضاء. قُوبل التوغل بمقاومة القبائل المحلية، وكذلك التنظيم، ولكن في نهاية المطاف، أقنع الحوثيون الشيخ ماجد، الذي كان يقيم في صنعاء، بالانضمام إلى صفوفهم. وسقطت قرية المناسح في يد الحوثيين أواخر أكتوبر/تشرين الأول 2014، وما تزال تحت سيطرتهم. انسحب التنظيم إلى المناطق النائية في قيفة، مثل يكلا والمشيرف، على الحدود مع مأرب. قاتل الحوثيون القوات الحكومية وغيرها من القوات المناهضة لهم، بما في ذلك القاعدة في جزيرة العرب هناك وفي أجزاء أخرى من البيضاء، حتى سبتمبر/أيلول 2021، عندما هزم الحوثيون القوات الحكومية ومقاتلي تنظيم القاعدة وسيطروا على المحافظة بشكل كامل.
تنظيم القاعدة في جزيرة العرب والنظام القبلي اليمني
تميزت العلاقة بين تنظيم القاعدة وقيفة بتطور في ارتباط التنظيم بالقبائل اليمنية. وبينما لم يستقر التنظيم في موقع محدد لفترة طويلة وتنقّل بين عدة مناطق، إلا أن وجوده في قيفة كان يعني ارتباطًا صريحًا بموقع محدد وقبيلة بعينها. وكان الاندماج المتزايد للتنظيم نتيجة معرفته بالأهمية القبلية لأسرة الذهب، ولترقي أفراد الأسرة داخل هيكل التنظيم. وتغلغل التنظيم في الهيكل الاجتماعي لقيفة وتكيّف معه.
لكن التنظيم و”القبيلة” متمايزان من حيث الهوية والهيكل، فالتنظيم كيان ديني وسياسي لا يرتبط بالضرورة بأي مكان. يتوحد أعضاؤه حول فكرة دينية ترى أن الخلافة هي المقاربة السياسية الوحيدة للحكم، ويستخدم العنف لتحقيق ذلك. أما القبيلة هي كيان اجتماعي مستقل يتوحد أفرادها على أساس عرق مشترك أو روابط جغرافية محددة، ويتبعون نظامًا من الأعراف ينظم العلاقات بين الأفراد داخل القبيلة الواحدة ومع القبائل الأخرى. كما أن تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، وهو فرع من شبكة تنظيم القاعدة الأوسع، مستقل إلى حد كبير، في حين أن استقلال القبيلة محدود لأنها جزء من تحالف قبلي أوسع وتخضع أيضًا للدولة.
وللكيانين أطر عمل مختلفة حين يتعلق الأمر بممارسة العنف. ففي حين تعتمد قوة القبيلة غالبًا على عدد أفرادها القادرين على القتال، غير أنها لا تُعتبر قوة عسكرية منظمة، ولا يُعد العنف جزءًا متأصلًا في هوية القبيلة، إذ ينص النظام القبلي على أن العنف الذي تمارسه قبيلة ما أو رجال قبيلة ما يجب أن يندرج في إطار القواعد القبلية. أما التنظيم يعتبر أن الحدود الوحيدة التي تقوّض العنف هي تلك التي يحددها تفسيره للشريعة الإسلامية.
ولكن هناك أوجه تشابه بين الكيانين، مثل ميلهما نحو التحفظ والتقاليد. لكن القبيلة لا تُعد حليفًا “طبيعيًّا” للتنظيم، ولا يُعد النظام القبلي بطبيعته بيئة خصبة لنمو التنظيم. لا يتشارك الكيانان الإيمان في أيديولوجية واحدة، وتُحدَّد العلاقات القبلية بالتنظيم في المقام الأول على أساس المصالح القبلية. في الواقع، كانت القبائل في أغلب الأحيان عائقًا أمام توسع التنظيم والجماعات المسلحة الأخرى.
وفي حين تقدّر القبائل اليمنية استقلالها، بما في ذلك قبيلة قيفة، لكنها تنظر غالبًا إلى الدولة باعتبارها السلطة المطلقة (الدولة التي خلفت الإمامة الزيدية والتي اعتبرتها قبيلة قيفة السلطة المطلقة ما قبل عام 1962 في شمال اليمن). توطدت العلاقة بين القبائل والدولة على مدى قرون، ولم تكن هناك أي رغبة لدى أفراد القبائل في تغييرها، أو في قبول تسلل قوة خارجية تسعى إلى تغيير العلاقة بصورة جذرية، كتنظيم القاعدة في جزيرة العرب. حقيقة أن التنظيم يرغب بزخم في إسقاط الدولة اليمنية تعني أن الاصطفاف مع التنظيم يعكس أن القبيلة تنحاز بنشاط ضد الدولة بحيث تمسي معارضة لها، وهو الموقف الذي لا ترغب إلا قلة قليلة من القبائل في اتخاذه. وهذا لا ينفي مشاركة بعض القبائل في محاولات لإسقاط سلطات الدولة، فبعضها على سبيل المثال تحالف مع جماعة الحوثيين في الفترة التي سبقت تقدم الجماعة نحو صنعاء. مع ذلك، لم يؤدِّ استيلاء الحوثيين على صنعاء إلى إزالة النظام السياسي اليمني بصورة كاملة، لا سيما وأن جماعة الحوثيين تحالفت مع الرئيس السابق علي عبدالله صالح وشبكات محسوبياته وتحالفاته القديمة. في المقابل، يؤدي دعم التنظيم إلى انهيار كامل للنظام السياسي اليمني ومؤسسات الدولة، ويشير إلى دعم طريقة مختلفة جذريًّا لإدارة البلاد. ومن غير المرجح أن يقبل نظام الحكم الشمولي للتنظيم هذا النوع من السلطة المستقلة التي تتمتع بها القبائل في ظل النظام السياسي اليمني.
لكل قبيلة في اليمن منطقة معينة، الأمر الذي لطالما سمحت به سلطات الدولة اليمنية. وترى القبيلة أن لها الحق في الاستفادة من موارد المنطقة، وتتحمل مسؤولية الحفاظ على أمنها وأمانها، وحمايتها من الغزاة والمسلحين أو الأفراد أو الجماعات التي قد تتسبب في إشعال الفتن. وتندرج المدن والقرى تحت هذا النظام، مع اختلاف وضعها أحيانًا. فبعضها، مثل صنعاء، تُعتبر “هجرة” أو منطقة آمنة ومحايدة، لا يُسمح الاقتتال بين القبائل فيها. والبعض الآخر، مثل ذمار، تخضع لسلطة قبيلة معينة، في حين تنقسم مدن أخرى، مثل رداع، بين عدة قبائل. مع ذلك، في جميع هذه الحالات، تعترف القبيلة بسيادة الدولة وتعتبرها المسؤولة الأولى والأخيرة عن حماية البلاد والحفاظ على مصالحها.
ويوضح رد فعل القبائل على محاولة التنظيم الاستيلاء على مدينة رداع في يناير/ كانون الثاني 2012 الدور الذي تلعبه القبائل في الدفاع عن المنطقة الواقعة تحت حمايتها. فبعد دخول القوات المسلحة للتنظيم بقيادة طارق الذهب إلى رداع، شرعت القبائل المحلية على الفور في حماية المؤسسات الحكومية والحفاظ على الأمن، بعد الاختفاء شبه الكامل لقوات الأمن الحكومية. وقسّمت القبائل المسؤوليات في رداع وفقًا للجغرافيا القبلية للمدينة. سيطرت قبيلة العرش على الجزء الجنوبي الغربي من رداع، في حين نشرت بعض عشائر قبيلة قيفة في رداع، السرحان والحطيمة والشواهرة، المسلحين في الجزء الشرقي. وأرسلت قبائل أخرى مسلحين، أو وسطاء للتفاوض، مدفوعين بمسؤوليتهم تجاه المدينة باعتبارها منطقة ذات اهتمام مشترك لجميع قبائل رداع.
وفي الواقع، هناك عنصر مفارقة في الإجراءات التي اتخذتها القبائل للدفاع عن رداع ضد التنظيم، لأن القبائل نفسها كانت قد انخرطت قبل عام 2012 في اشتباكات مع قوات الأمن الحكومية في المدينة. وكان مؤلف هذه الورقة يعيش في رداع في تلك الفترة، التي أصبح مركزها وقتئذ في حالة من الفوضى حيث لم يكن تحت سيطرة الدولة ولا تحت سيطرة القبائل، وأصبح ساحة لتسوية الثأر. كما رفض رجال القبائل الانصياع لجهود الحكومة لمنع حمل السلاح في شوارع المدينة، على أساس أن القيام بذلك سيجعلهم عرضة لهجمات رجال القبائل المنافسة.
رغم ذلك، انضمت القبائل إلى القوات الحكومية لطرد التنظيم من المدينة، واعتبرته جماعة متطرفة تحاول تدمير القدر الضئيل من حضور الدولة. كما كانت التدابير التي اتخذتها ضد وجود التنظيم مطابقةً تقريبًا للممارسات التي أرستها الأعراف القبلية لمواجهة أفراد أو جماعات تحرض على الفتنة. ففي الأعراف القبلية، ينبغي نبذ هؤلاء الأفراد أو الجماعات، لأنهم يشكلون تهديدًا لسلام وأمن القبيلة. كانت أعمال التنظيم في رداع كافية لاعتبار المسلحين مثيرين للفتنة، إذ شملت تنظيم عملية هروب من السجن في 16 يناير/كانون الثاني 2012، فر خلالها 70 شخصًا ممن سُجنوا بتهمة القتل، وشن هجمات على مناطق ينبغي أن تكون تحت الحماية القبلية.
التناقضات القبلية
في حين أجبرت قبائل رداع التنظيم على الخروج من المدينة، لم يكن هدفهم تحقيق انتصار ساحق أو القضاء عليه. بدلًا من ذلك، سعت القبائل إلى حل تجاوزات التنظيم بطريقة تلائم الأعراف القبلية، وتجنبت تصعيد الصراع الذي قد يؤدي إلى مزيد من إراقة الدماء واحتمال زيادة أعمال الانتقام.
ورغم النوايا السليمة وراء هذا السلوك، إلا أنه يكشف بعض التناقضات التي أوجدها نظام قبلي قوي يعمل داخل الدولة -تحديدًا دولة ضعيفة مثل اليمن. المواقف المتناقضة، التي تعاملت من خلالها قبائل رداع مع التنظيم باعتباره جماعة خطيرة يجب إيقافها، وجماعة شبه قبلية أيضًا يمكن التعامل معها بموجب الأعراف القبلية، فتحت الطريق أمام التنظيم لاستغلالها وكسب الشرعية، وهو تمامًا ما فعله التنظيم.
ومثال على ذلك ما حدث بعد حادثة هروب السجناء. زادت التوترات في رداع، حين قُتل اثنان من رجال القبائل ومقاتل في التنظيم باشتباكات اندلعت بينهما. مع ذلك، ونظرًا لانتماء العديد من مقاتلي التنظيم لبعض القبائل (الذي لم يتناقض بالضرورة مع عضويتهم في التنظيم)، حرصت القبائل على تجنب تطور ظاهرة الثأر، أو فتح حرب مع التنظيم.
بدلًا من ذلك، تماشت الإجراءات التي اتخذتها قبائل رداع مع العرف القبلي الذي يُعرف “بصد الحرابة” حيث تحشد القبيلة رجالها المسلحين لمنع أي انتهاك لأراضيها أو المناطق الخاضعة لحمايتها من قِبل أحد من خارج القبيلة.
كانت هناك وساطة في نفس الوقت، وبالتوافق مع الاستراتيجيات القبلية التقليدية. كان هذا معقدًا؛ لأن مقاتلي التنظيم في رداع ينحدرون من قبائل ومناطق وجنسيات متعددة، ما يعني أن احتمال ظهور ممارسات ثأر متعددة كان عاليًّا. كان وجود طارق الذهب، وخلفيته القبلية المهمة، فرصة لكلا الطرفين، وسمح لقبائل رداع بالتعامل مع المسألة باستراتيجيات قبلية مترسخة، وكأنها مسألة قبلية بحتة.
أساسًا، وبينما تدعم قبائل رداع الدولة بصفة عامة وتعارض التنظيم، إلا أنها لا تصنّف الأخير كإرهابي، أو بالأحرى، لم تتخذ موقفًا صريحًا منه، وبالتالي، فإن الموقف القبلي من التنظيم ليس ثابتًا، بل متغير حسب كيفية ارتباط النزاعات والصراعات بالركيزتين الأساسيتين للقبيلة: الدفاع عن أراضيها، وحماية أفرادها. وبينما تؤمّن قبيلة ما الحماية لأحد أفرادها المنتسبين للتنظيم، قد تؤمّن قبيلة أخرى الحماية لأفرادها المتضررين من أعمال التنظيم. وقد يحارب رجال القبائل إلى جانب عناصر التنظيم ضد القوات الحكومية دفاعًا عن أراضي القبيلة، ويحاربون لأجل ذلك إلى جانب القوات الحكومية (وحتى في غيابها في بعض الأحيان) ضد مقاتلي التنظيم.
وكانت الثغرات القبلية هذه ذات أهمية أكبر حين انتهى التوسط بين التنظيم (بقيادة طارق الذهب) وقبائل رداع، وبموجب الاتفاق الذي نتج عن الوساطة، نجحت القبائل في طرد طارق ومسلحي التنظيم، وأجبرتهم على العودة إلى قرية المناسح. لكن زعماء القبائل لم يقلقوا بصورة خاصة بشأن ما حدث بعد ذلك، معتقدين أن واجبهم، وفقًا للعرف القبلي، بالدفاع عن رداع قد تحقق، وأن التعامل مع التنظيم منذ ذلك الحين هو مسؤولية الدولة. كما اعتقد زعماء القبائل بأنهم تخلصوا من تهديد العنف وأصبح مقصورًا على قرية المناسح، وأن أي نزاع مستقبلي محتمل سيكون شأنًا خاصًا داخل أسرة الذهب.
تم التعامل مع طارق وممارسته من قِبل أسرة الذهب. في هذه الأثناء، كان التنظيم ما يزال قادرًا على الاستفادة من اتفاق رداع حيث استخدمه لإضفاء الشرعية على وجوده وتوسيع نفوذه. منح هذا الاتفاق التنظيم ادعاءً بأنه جهة محلية بجذور قبلية في المنطقة، ما وفر غطاء لوجوده فيها والتنقل دون تدخل من القبائل المحلية، وأدى هذا إلى اندماج التنظيم في قبيلة قيفة، كما سمح للتنظيم بكسب المزيد من الأتباع ومهاجمة معارضيه داخل رداع والمنطقة المحيطة.
من المهم الإدراك أن التناقضات في النظام القبلي التي سمحت للتنظيم بترسيخ نفسه في قيفة ما كانت لتصبح بهذا الوضوح لو كانت الدولة اليمنية أقوى. حقيقة أن التنظيم كان قادرًا على مغادرة رداع بعد أيام من اقتحامه المدينة بالقوة ليستقر في مكان آخر، كان بسبب اضطرار القبائل لأن تأخذ على عاتقها التعامل مع التنظيم والتوصل إلى اتفاق باستخدام الأساليب التي تعرفها. لو كانت الدولة قادرة على الدفاع عن نفسها، لكانت أخذت زمام المبادرة في القتال ولم يكن الدور القبلي ضروريًّا. اعتبرت القبائل الدولة غير كفؤة وعاجزة عن أداء دورها بصفتها الحامية للبلاد، وبالتالي لم يُتوقّع من القبائل الوفاء بالجزء الخاص بها من الصفقة بينها والدولة لتكون تابعة لها. ونتيجة ذلك، كان من المرجح أكثر أن يتحملوا وجود التنظيم.
رجال القبائل المحرومون من الإرث
في حين أتاحت تعقيدات النظام القبلي اليمني وموقفه من العنف والفتنة وعلاقته بالدولة اليمنية فرصًا استغلها تنظيم القاعدة، إلا أن التنظيم لم يكن لينجح في إدماج نفسه داخل قيفة لولا الظروف الخاصة بالقبيلة. لم يستغل التنظيم الانقسامات داخل القبيلة فقط، بل داخل أسرة الذهب الحاكمة للقبيلة. كما كان التنظيم على استعداد للتكيف مع الشراكة والأهداف التي أرادها طارق الذهب، ما سمح بوجوده في قيفة منذ عام 2010 فصاعدًا. سعى التنظيم إلى تعزيز مكانة طارق، بما أنه كان رجلهم. مثّل طارق فرصة نادرة للتنظيم كونه رجلًا بمكانة قبلية يدّعي زعامة القبيلة ومؤمنًا بأيديولوجية التنظيم لكنه في الوقت ذاته بحاجة إلى مساعدة.
أصبح طارق معروفًا في حل النزاعات بين رجال القبائل، بيد أن جزءًا كبيرًا من ذلك كان بفضل الأموال التي أغدقها عليه التنظيم لدفع الدية وتسوية النزاعات القبلية في قبيلة معروفة بهذه النزاعات على الصعيد الوطني. زادت هيبته نتيجة ذلك، واستغل مكانته الرفيعة لفتح أبواب القبيلة تدريجيًّا لتدفق أفراد وأسلحة وتمويل التنظيم. ازدادت قوة طارق الذي استفاد من افتقار ابن أخيه، الشيخ ماجد، للجاذبية، ومن نزعة أخيه الأكبر، حزام، للحلول السلمية.
وعقب اتفاق رداع، ومع عودة طارق والتنظيم إلى قرية المناسح، انتقل الصراع ببساطة من رداع إلى القرية. وفي فبراير/شباط 2012، وبعد نحو شهر من انسحاب طارق والتنظيم من رداع، طرد حزام أفرادًا في التنظيم من مسجد في قرية المناسح كانوا قد تمركزوا فيه. استفزت هذه الخطوة طارق وأدت إلى مواجهة مسلحة بين الفصيلين من العائلة وقُتل فيها طارق وأخوه أحمد.
مع ذلك، لم تمثل تلك الحادثة نهاية التنظيم في قيفة. بل سمحت بنمو بذرة جديدة من الشقاق، وهو ما استغله التنظيم على الفور. ولجأ الإخوة الخمسة الباقون في الجناح المؤيد للتنظيم، عبدالرؤوف وعبدالإله وسلطان ونبيل وقائد، فورًا إلى التنظيم للحصول على الدعم. كانت أسلحة التنظيم ورجاله الذين اندمجوا داخل القبيلة تحت تصرف الإخوة “المحرومين من الإرث”، على عكس الوضع سابقًاً قبل عودة طارق إلى قيفة عام 2010. وبالتالي ردوا سريعًا إما بقتل منافسيهم من داخل الأسرة أو نفيهم.
لم يقتصر استغلال التنظيم للأطراف التي تشعر بأنها ضحية أسرة الذهب فحسب، بل استغل هذا الشعور الذي أحسه آخرون لتجنيد قبليين أو للتحالف مع قبليين غاضبين من رد الدولة على تصرفات التنظيم في محافظة البيضاء. تذمّر العديد من رجال القبيلة من قصف القوات الحكومية خلال الحملة العسكرية التي شنتها الحكومة ضد التنظيم في يناير/كانون الثاني 2013. وعلاوة على استياء الكثير من أفراد القبائل من إهمال الحكومة في تقديم الخدمات المناسبة للمنطقة زادت الحملة العسكرية لدعم التنظيم.
استغلال الانقسام الديني والقبلي
لكي يستغل علاقاته المتنامية مع قبيلة قيفة، أدرك تنظيم القاعدة ضرورة التوصل إلى حل وسط وتجنب اتباع مقاربة متطرفة في فرض سيطرته على القوانين والأعراف القبلية. وفعل التنظيم ذلك عبر قبول استمرار سريان النظام القانوني القبلي التقليدي.
التعليم الديني الذي تلقاه طارق عبر القنوات الدينية للتنظيم ساعده على اكتساب درجة معينة من احترام رجال القبيلة لدى عودته إلى قيفة عام 2010. لكن براعته في البت في المشاكل القبلية وحل النزاعات بالأساليب القبلية التقليدية (والتي لا تشبه بالضرورة أساليب التنظيم بحسب تفسيره للشريعة الإسلامية) كانت أساس ترسيخ مكانته الجديدة. وفهم التنظيم أنه باستخدام الأعراف القبلية لتبدو كأنها تخدم مصالح الناس وتحل مشاكلهم، سينجذب رجال القبيلة إلى طارق.
ورغم اهتمام التنظيم الفوري بإنشاء محكمة شرعية في قيفة، تبعًا لممارسة التنظيم في أجزاء أخرى من اليمن تقع تحت سيطرته، أصبح من الواضح أنه ليس القرار الأكثر حكمة إذا أراد كسب قبول رجال القبائل المحليين به، وبدلًا من تقديم مفتي التنظيم على أنه الآمر الناهي أو السلطة المطلقة، تُرِك هذا الدور لشيخ القبيلة ما دام متحالفًا مع التنظيم.
سمح الاستمرار الواضح في إدارة شؤون القبيلة بالطريقة القبلية تحت وصاية التنظيم، الذي بدأت بصورة فعلية مع مقتل طارق الذهب ورحيل الشيخ ماجد، بالإنكار المنطقي لاتهام أي فرد من أسرة الذهب بانتمائهم للتنظيم. وقسّم بقية الإخوة من أسرة الذهب المؤيدين للتنظيم، الذين أحكموا قبضتهم على قيفة، أدوارهم في التنظيم وفي القبيلة فيما بينهم. فقد تعلم إخوة طارق الدرس من مغامرته في إعلان “إمارة رداع” وما تلاها من أحداث أوشكت على إثارة غضب القبائل المحلية.
وبالإضافة إلى طارق، كان نبيل الذهب يحظى بأقوى سمعة داخل التنظيم من بين أسرة الذهب؛ إذ حاول الذهاب للقتال في صفوف تنظيم القاعدة في العراق وسُجن في سوريا واليمن. ورغم أنه كان الأخ الأكبر ممن تبقى من أفراد أسرة الذهب المؤيدين للتنظيم، قرر الإخوة أن ماضيه لا يؤهله لتقلد أي منصب قبلي. اكتسب قائد ولاء أفراد القبيلة بعد مقتل طارق، ولكنه لم يُعيّن في منصب قبلي بسبب ولائه المعروف للتنظيم. بدلًا من ذلك، أصبح عبدالرؤوف مسؤولًا عن شؤون القبيلة، بسبب سماته الشخصية الأقرب إلى زعيم القبيلة التقليدي، فيما كرّس قائد نفسه لخدمة أجندة التنظيم وحارب في صفوفه، وبُترت إحدى ذراعيه أثناء قتاله في مدينة زنجبار بمحافظة أبين.
وهكذا أصبح عبدالرؤوف شيخ قبيلة قيفة، وحلّ قضايا القبيلة وفقًا للقوانين القبلية، مستندًا إلى الأعراف القبلية السائدة، وساعده في ذلك عبدالإله وسلطان اللذان كانا على دراية بالأعراف القبلية. لجأ أفراد القبيلة لهم للتحكيم بصفتهم شيوخ للقبيلة، وليس رجال دين، كما لم تستند أحكامهم بالضرورة على الشريعة الإسلامية. برّر عبدالرؤوف ذلك دينيًّا بالقول إن الأحكام تقوم على التراضي بين الأطراف المتنازعة التي تحتكم إليه، وطمأن أفراد القبيلة بشأن احترام قوانينها وأعرافها، مثل الوساطة وحل الصراعات.
وكان عبدالرؤوف شيخ القبيلة، لكنه لم يكن المفتي. فمن بين جميع الإخوة من أسرة الذهب المؤيدين للتنظيم، اُختير ليكون شيخ القبيلة وكان أهلًا للمنصب، من حيث شخصيته وحضوره وفعاليته. لكنه شكّل غطاء قبليًّا في نهاية المطاف لوجود التنظيم داخل قيفة. وعندما بدأت الأمور تتخذ منحى جديًّا، حيث شنت الحكومة في يناير/كانون الثاني 2013 حملة عسكرية ضد التنظيم في البيضاء، قاتل عبدالرؤوف وعبدالإله وسلطان في صفوف التنظيم ضد القوات الحكومية.
خدم الغطاء القبلي الذي وفره عبدالرؤوف للتنظيم غرضًا آخر في الوساطة القبلية التي أنهت الاقتتال في أعقاب الحملة العسكرية للحكومة. نجحت الوساطة في اتفاق بين السلطة المحلية والإخوة من أسرة الذهب المؤيدين للتنظيم، وأصر الوسطاء، بقيادة الشيخ أحمد القردعي، شيخ قبيلة مراد في محافظة مأرب المجاورة، على امتناعهم عن الدخول في حوار مع المرتبطين بالتنظيم، ولكن عبدالرؤوف وعبدالإله وسلطان تمكنوا من تقديم وجه قبلي مقبول لأسرة الذهب، وجه تستطيع الحكومة التعامل معه -خلافًا لنبيل وقائد نظرًا لانتمائهما العلني للتنظيم. قال الوسطاء إن عبدالرؤوف وجناحه “القبلي” أرادوا الانضمام إلى الدولة وتجنيب المنطقة مزيدًا من القتال، مؤكدين على أن أفراد هذا الجناح “يريدون أن يعيشون مثل مشائخ اليمن ويصلحون مناطقهم”.
حقق هذا الاعتراف بالإخوة من أسرة الذهب المؤيدين للتنظيم، مع أنهم كانوا غير مندمجين رسميًّا معه، هدف التنظيم. اعترفت الدولة بعبدالرؤوف شيخًا لقبيلة قيفة، تُوِّج الاتفاق المذكور بإقامة مهرجان سياسي في قرية المناسح في 22 فبراير/شباط 2013 بمناسبة الذكرى الأولى لانتخاب عبدربه منصور هادي رئيسًا لليمن. ظهر عبدالإله إلى جانب الظاهري الشدادي، محافظ محافظة البيضاء، وألقى خطابًا تطرق فيه إلى مظالم القبيلة، بما في ذلك قصف الحكومة. حظي التنظيم إذًا باعتراف جناح أسرة الذهب الذي دعمه كزعماء لقبيلة قيفة، الأمر الذي جعل التنظيم يشعر بمزيد من الأمان في وجوده بالمنطقة.
وكان التنظيم قد اتخذ خطوات لتجنب إغضاب القبائل المحلية بوجوده في محافظة البيضاء، رغم تقاطع الحدود بينه والقبائل، وتجنب إلى حد كبير ممارسة أي نشاط خارج مناطق أسرة الذهب، وحرص على عدم دخول أراضي القبائل الأخرى لتجنب استفزازها. أنشأ التنظيم معسكرات للتدريب في المناطق الجبلية مثل منطقة يكلا، على طول الحدود مع محافظة مأرب، وبقي بمناطق نائية في محاولة للابتعاد عن قيادة قيفة القبلية. أتاح ابتعاد التنظيم عن الساحة استخدام المناطق النائية كملاذ آمن عقب شنه هجمات في صنعاء وحضرموت وعدن، وفي حين استمر في شن هجمات في المدن، أحجم التنظيم عن تنفيذ أنشطة إرهابية في المناطق القبلية قدر الإمكان.
خاتمة: تجاوز الحدود المقبولة
رغم الأرض الخصبة التي وفرتها أسرة الذهب لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، وشبه “الاعتراف” القبلي الذي حصل عليه التنظيم، إلا أن تجربة اندماج التنظيم وقبيلة قيفة انتهى بالفشل. لطالما وجد التنظيم صعوبة في تحقيق التوازن بين اعتبارات القبيلة وأهدافه الخاصة، وبالغ في تعريض نفسه للانكشاف.
في الواقع، كانت المشاكل التي واجهت التنظيم في إظهار احترامه للطريقة القبلية في إدارة الأمور واضحة. فمنذ اليوم الأول لدخول التنظيم إلى رداع، اتخذت القبائل خطوات لتجنب المواجهة. وأُرسل شيوخ القبائل الموجودين في المنطقة إلى قيفة فيما يسمى في العرف القبلي “بالداعي” للاحتجاج على تصرفات أحد أبناء قيفة، وهو طارق. كانت القبائل تلمح إلى قيفة بضرورة تحمل مسؤوليتها في التعامل مع طارق، وإن فشلت في ذلك، يُسمح للقبائل بالتدخل للتعامل مع المشكلة بالطريقة التي تراها مناسبة. أخذ حزام، شقيق طارق، الأمر على عاتقه وطلب من أخيه مغادرة رداع في 19 يناير/كانون الثاني 2012، وأخبره بأنه سيواجه خطر القتل ويصبح عارًا على قيفة إذا رفض المغادرة.
وبالتالي أضحى طارق تهديدًا واضحًا للقبيلة، وبدت لامبالاته جلية بحساباتها وخوفها من اندلاع أعمال عنف طويلة الأمد. في الأيام التالية، اندلعت اشتباكات بين رجال القبائل ومسلحي التنظيم قُتل خلالها خمسة أفراد. تبرأ حزام وخالد وماجد الذهب من طارق، الأمر الذي أدى إلى انقسام علني بين جناحي أبناء أسرة الذهب. كان طارق يخالف باستمرار الأعراف والقوانين القبلية، وكان من الواضح أنه يعطي أهداف التنظيم الأولوية على حساب أهداف القبيلة، وكان قد انتهك صفة الهجرة لمركز مدينة رداع، وأصر على تطبيق تفسيرات التنظيم للشريعة الإسلامية بدل القانون القبلي. كما تعارضت دعوته لإنشاء مجلس أهل الحل والعقد، وهو هيئة تتألف من أصحاب النفوذ لتعيين وإنهاء حكم الزعيم، مع الأعراف القبلية.
كان القانون القبلي هو الذي تُبني للتعامل مع طارق في نهاية المطاف وأنهى حياته. وفي حين غيّر التنظيم أساليبه بعد مقتل طارق وأصبح أكثر تكيفًاً مع الأعراف القبلية، إلا أن وجوده الصريح في قيفة لم يتفق مع طريقة عمله التقليدية الأكثر سرية. لعبُ دور قبلي يعني بطبيعة الحال لعب دور أكثر علنية، حتى لو كان ذلك من خلال الجناح القبلي من أسرة الذهب المؤيد للتنظيم. في نهاية المطاف، جعل هذا الوجود الأكثر وضوحًا أبناء أسرة الذهب أهدافًا سهلة للطائرات الأمريكية المسيّرة. لم يتمكن نبيل وقائد من الاختفاء عن عيون المجتمع القبلي، رغم تخليهما عن أدوارهما القبلية، واستُهدفا وقُتلا في محافظة البيضاء (نبيل في مدينة رداع وقائد في قرية المناسح). كما ضُيق الخناق على إخوتهم من الجناح “القبلي” المؤيد للتنظيم. وقُتل عبدالرؤوف وسلطان بغارة أمريكية في يناير/كانون الثاني 2017، ما يجعل عبدالإله الأخ الأخير المتبقي.
لعل سوء التقدير الأكبر الذي ارتكبه التنظيم في محاولته للاندماج في النظام القبلي اليمني هو تطور لم يأخذه في الحسبان: استيلاء جماعة الحوثيين على مؤسسات الدولة في صنعاء، وانتشار الجماعة لاحقًا في محافظة البيضاء. في الواقع، استغل الحوثيون وجود التنظيم في المنطقة للتوسع في المحافظة، في إطار بحثهم عن مبررات لاستمرار توسعهم، رغم القيود التي فُرضت عليهم بموجب اتفاق السلام والشراكة الوطنية عام 2014. كان من المفترض أن يمنع هذا الاتفاق الحوثيين من الإقدام على المزيد من التوسع العسكري، ولكن الحوثيين حرصوا على إدراج استثناء لتلك القيود يجبر السلطات اليمنية على دعم قوات الحوثيين ضد التنظيم في محافظة البيضاء. استغل الحوثيون التنظيم كوسيلة لإضفاء الشرعية على حربهم وتوسعهم، والتي صوروها على أنها معركة ضد التكفيريين وتنظيم الدولة الإسلامية.
حاول التنظيم حشد الدعم في قيفة على أساس مذهبي، تنظيم القاعدة “السني” من جهة، وجماعة الحوثيين “الشيعية” من جهة أخرى، وفي حين نجحت المحاولة إلى حد معين، بالغ التنظيم في تقدير الطبيعة السنية لقيفة. والواقع أن التقاليد الشافعية السنية والزيدية الشيعية تتداخلان في القبيلة، فعلى النقيض من القبائل المجاورة في محافظتي البيضاء ومأرب، لم تشترك قبيلة قيفة في الحروب المذهبية ضد الإمامة الزيدية، بل استمرت قيفة بالتعهد بالولاء للإمامة الملكية أثناء الحرب الأهلية في شمال اليمن. كما قاتل الشيخ أحمد ناصر الذهب، والد الإخوة الذهب، في صفوف القوات الملكية ضد الجمهوريين وحلفائهم المصريين، ولم ينكس الراية الملكية حتى عام 1970.
وهذا لا يعني أن قبيلة قيفة رحّبت بقوات الحوثيين، ففي البداية، قاتلت الحوثيين واعتبرتهم قبائل غازية آتية من صعدة. رجال القبيلة قاتلوا الحوثيين بناء على مبادئهم القبلية، ولكن التنظيم قاتل الحوثيين بناء على الدين. سهّل هذا الأمر على الحوثيين تبني أسلوب كان التنظيم قد استخدمه لترسيخ نفسه في قيفة، وهو مناصرة جناح أبناء أسرة الذهب المحرومين من الإرث، ووجد الشيخ ماجد -الذي كان مستقرًا في صنعاء التي يسيطر عليها الحوثيون حاليًّا والذي ما زال يؤمن بحقه في زعامة قبيلة قيفة- في الحوثيين جماعة قوية بما يكفي لتسهيل عودته.
في الواقع، وافق الشيخ ماجد على الانضمام إلى الحوثيين في أكتوبر/تشرين الأول 2014، وكانت مكانته القبلية كافية لإقناع غالبية رجال قبيلة قيفة بالتوقف عن القتال والسماح بعودته. وكانت الشروط المتفق عليها هي السماح لماجد وحلفائه من القبيلة فقط بدخول أراضي قبيلة قيفة، وكما دخل التنظيم المنطقة من قبل، استخدم الحوثيون ماجد كغطاء قبلي ودخلوا الأراضي.
انسحب التنظيم إلى المناطق النائية منذ ذلك الحين، وتضاءل نفوذه بين القبائل. حققت تجربته في الاندماج في النظام القبلي اليمني بعض النجاحات، ولكن في نهاية المطاف كانت النتيجة هي نفسها التي وصل إليها في أجزاء أخرى من اليمن: الفشل.
للاطلاع على نص الورقة الاصلية
https://sanaacenter.org/ar/publications-all/analysis-ar/16023