مع بدء سريان وقفٍ هشٍّ لإطلاق النار في غزة بين إسرائيل وحركة حماس، يبدو أن فاعلاً عسكرياً آخر في المنطقة قد أوقف بدوره الأعمال العدائية: جماعة الحوثيين في اليمن.
فقد أفادت التقارير بأن زعيم الجماعة عبد الملك الحوثي أصدر أوامر لمقاتليه بوقف الهجمات ضد إسرائيل والسفن المرتبطة بها، وهي الهجمات التي كانت الجماعة تنفذها بشكلٍ متقطع على مدى العامين الماضيين.
وبحسب مصدر نقلت عنه وسائل إعلام سعودية، فإن هذا التوقف سيستمر ما دامت إسرائيل تلتزم بوقف إطلاق النار في غزة.
ويُبرز هذا الشرط موقفَ قوةٍ تتبناه الجماعة، إذ إن الحوثيين نفذوا هجماتهم تضامناً مع الفلسطينيين دون الحاجة إلى التفاوض مع إسرائيل – لا مباشرةً ولا بشكل غير مباشر – بشأن أي هدنة.
وعلى مدى عامين من حروب إسرائيل في المنطقة والمجازر في غزة، ظهرت عدة جماعات رفعت السلاح رداً على تلك الأحداث، من بينها حركة حماس وسائر الفصائل المسلحة في غزة، وحزب الله في لبنان، وجماعة الحوثيين في اليمن، وإيران.
وقد عانت جميع هذه الأطراف – بما في ذلك إسرائيل نفسها – معاناةً بالغة، إذ خلّف الصراع خسائر فادحة على المستويين العسكري والاقتصادي، فضلًا عن الأضرار المدمرة التي لحقت بالمدنيين.
وفي حين أثارت الحرب تساؤلاتٍ وجودية حول الدور المستقبلي لبعض هذه الجماعات، مثل حماس وحزب الله، فإن السلطة الفعلية في اليمن قد ازدادت أهمية وتأثيراً على الساحة الإقليمية.
فقد أوضح محللون لموقع ميدل إيست آي أن ثبات الحوثيين في تنفيذ هجماتهم ضد إسرائيل وضد الملاحة الدولية جعل العالم يلتفت إليهم باهتمام أكبر، ومنح الجماعة انتصاراً معنوياً في الداخل وعلى الصعيد الخارجي.
• الصمود العسكري
قال أندرياس كريغ، الأستاذ المساعد في قسم دراسات الدفاع بكلية كينغز كوليدج لندن، في حديثه لموقع ميدل إيست آي:
“من الناحية العسكرية، قدّم الحوثيون أداءً قوياً على مدى عامين بالنسبة لفاعلٍ غير دولتي.”
وأشار كريغ إلى حملة الحوثيين التي استمرت نحو عامٍ ونصف في مهاجمة السفن الدولية في البحر الأحمر، ما أجبر العديد من السفن التجارية الكبرى المتجهة من أوروبا إلى آسيا على سلوك طريقٍ أطول وأكثر كلفة عبر رأس الرجاء الصالح في أقصى جنوب إفريقيا.
وبحسب التقرير، فإن الهجمات التي نُفذت تضامناً مع الفلسطينيين في مواجهة الإبادة الإسرائيلية أدت إلى انخفاض حركة الملاحة عبر خليج عدن بنسبة 70% خلال عامين.
ويقول كريغ أيضاً إن الحوثيين واصلوا تنفيذ ضربات بعيدة المدى على إسرائيل بين الحين والآخر، وتمكنوا من تجاوز الردود الإسرائيلية دون أن تتأثر وتيرة عملياتهم إلا بشكلٍ طفيف.
وقد أدت إحدى تلك الضربات إلى شلّ حركة الطيران مؤقتاً في مطار رامون بجنوب إسرائيل، بينما نجح هجوم أحدث في اختراق منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلية واستهداف فندق في مدينة إيلات السياحية.
لكن التحدي لم يأتِ من إسرائيل وحدها؛ فخلال تلك الفترة واجه الحوثيون حملة عسكرية متواصلة من الولايات المتحدة.
ويقول علي رزق، المحلل السياسي والأمني اللبناني، لموقع ميدل إيست آي:
“حين شارك الأمريكيون في قصف اليمن، رد الحوثيون بالمثل، وفي نهاية المطاف تراجع ترامب عن المواجهة.”
ويرى رزق أن الحوثيين تمكنوا من إجبار الولايات المتحدة على فكّ الارتباط العملياتي مع إسرائيل فيما يتعلق بالجبهة اليمنية، وهو ما يعتبره إنجازاً سياسياً وعسكرياً لافتاً.
ووفقاً لتقارير متخصصة، أنفقت واشنطن أكثر من مليار دولار على حملتها العسكرية في اليمن دون أن تتمكن من تحقيق تفوّق جوي على الحوثيين، وهو ما اعتُبر انتكاسة غير مسبوقة لقوةٍ عظمى.
وقد أسفرت الهجمات الأمريكية والإسرائيلية عن سقوط عشرات القتلى، بينهم عدد كبير من المدنيين، كما استُهدفت البنى التحتية العسكرية وقُتل عدد من القيادات الميدانية.
ومع ذلك، لم يظهر أن الحوثيين قد تراجعوا أو تأثروا بتلك الضربات.
وقال أندرياس كريغ موضحاً:
“محرك صمودهم يكمن في بنيتهم نفسها؛ فهي أشبه بشبكةٍ من الشبكات، تتداخل فيها الروابط القبلية والدينية والأمنية والتجارية، بما يضمن التكرار والمرونة. يمكنك القضاء على قائد أو تدمير مخزن، حينها قد يتعثر النظام وحسب، لكن نادراً ما يتوقف.”
وقد ساعدت عدة عوامل الحوثيين على الصمود بشكلٍ أفضل من غيرهم من الجماعات المسلحة التي انخرطت في المواجهة مع إسرائيل.
وأحد العوامل المهمة هو أن الحوثيين حديثو الظهور نسبياً في ساحة الصراع الدولي.
وقال علي رزق إن إسرائيل لا تملك معلومات استخباراتية كافية لتمكينها من إلحاق ضرر كبير بالحوثيين.
وأشار إلى أن إسرائيل كانت تمتلك معلومات دقيقة عن حزب الله، مما سمح لها باستهداف أمينه العام حسن نصر الله وعدد من كبار قادته، بالإضافة إلى الهجمات عبر أجهزة النداء (البيجر) التي أسفرت عن مقتل وإصابة آلاف الأشخاص.
وفي إيران أيضاً، ساعدت المعلومات الاستخباراتية الإسرائيلية في صراعٍ دام 12 يوماً خلال يونيو/ حزيران الماضي.
أما بالنسبة إلى الحوثيين، فقد تمكنت إسرائيل من اغتيال بعض كبار القادة السياسيين للجماعة، بما في ذلك رئيس وزرائها، لكنها لم تنجح بنفس القدر في استهداف القادة العسكريين البارزين.
ومن العوامل الأخرى التي تمنح الحوثيين أفضلية مقارنةً بحزب الله وحماس هو البعد الجغرافي لليمن عن إسرائيل.
ويوضح رزق قائلاً:
“إسرائيل تستطيع شن حرب شاملة على لبنان بسهولة، لكن اليمن أبعد جغرافياً، وهذا يمنح الحوثيين القدرة على شن هجمات ضد إسرائيل دون أن يتحملوا الثمن الباهظ الذي قد يتحمله حزب الله أو لبنان.”
• الانتصار السردي
قدّم الصراع أيضاً انتصاراً سردياً للحوثيين، سواء على المستوى الداخلي أو الدولي.
وقالت أروى مقداد، المحللة المتخصصة في شؤون اليمن والجغرافيا السياسية، لموقع ميدل إيست آي:
“أسهم التدخل الحوثي في البحر الأحمر في تعزيز شرعيتهم داخلياً، كما أكسبهم شهرة واعترافاً دولياً.”
وأضافت مقداد أن الهجمات على السفن التجارية عززت الصورة بأن الحوثيين يقاتلون ضد الظلم والقهر، وفي الوقت نفسه جعلت التدخل الإقليمي صعباً خوفاً من تهمة ’مهاجمة مجموعة تساعد غزة‘.
ولهذا السبب، ترددت العديد من الدول في المنطقة في الإعلان عن مشاركتها رسمياً ضمن قوة بحرية بقيادة الولايات المتحدة لمواجهة هجمات الحوثيين في البحر الأحمر.
وقالت أروى مقداد:
“في ظل تقاعس العرب، ارتقى الحوثيون كقوة مؤثرة في المخيال والخطاب العربي.”
ورغم أن الحوثيين كانوا يُوصفون منذ زمنٍ طويل بأنهم جماعة متمردة مدعومة من إيران، إلا أن هذا التصنيف قد يشهد تغيراً الآن.
وقال أندرياس كريغ:
“لقد انتقلوا من كيان تمرد يمني إلى لاعب رئيسي ضمن ما يُعرف بمحور المقاومة، ليصبحوا الفاعل العربي الوحيد الذي ينفذ ضربات روتينية داخل إسرائيل، ما منحهم وزناً سردياً يتجاوز حجمهم الفعلي.”
وأضاف علي رزق أن تحولاً إقليمياً قد حدث خلال السنوات الأخيرة، أصبحت فيه إسرائيل تُرى كعدوٍّ رئيسي أكثر من إيران.
وقال:
“لطالما شدد عبد الملك الحوثي على أن الأمريكيين والإسرائيليين وجهان لعملة واحدة.”
وأضاف:
“ما حدث في قطر يؤكد صحة الموقف الحوثي”، في إشارةٍ إلى الهجوم الإسرائيلي الذي استهدف مسؤولين من حركة حماس في الدوحة الشهر الماضي.
وقد وقع ذلك الهجوم على الرغم من أن قطر تُعد حليفاً رئيسياً للولايات المتحدة وتستضيف أكثر من ثمانية آلاف جندي أمريكي.
وقال: “هذا يعزز الرسالة الحوثية والسردية الأيديولوجية التي ترى في الصهيونية التهديد الرئيسي.”
وعلى الصعيد الداخلي، التفّ اليمنيون حول قضية مشتركة.
وقالت إليونورا أرديماجني، الباحثة المتخصصة في شؤون الجماعات المسلحة اليمنية، لموقع ميدل إيست آي:
“منحت الحرب الحوثيين فرصة لتعظيم مكاسبهم الداخلية من حيث التأييد الشعبي والتجنيد العسكري.”
وبحسب خبراء الأمم المتحدة، ارتفع عدد مقاتلي الحوثيين من 220 ألفاً عام 2022 إلى نحو 350 ألفاً عام 2024.
وقال أندرياس كريغ:
“على الصعيد المحلي، ساهمت سردية ’المقاومة من أجل غزة‘ في خلق تأثير تعبوي وطني تجاوز بعض خطوط الانقسام الداخلي، رغم استمرار ضعف الحوكمة وتصاعد القمع.”
وأضاف:
“لكن الخطر يكمن في المبالغة في التمدد؛ فإذا استمر تدهور الرواتب والخدمات في ظل تشديد القبضة الأمنية، فإن الزخم الشعبي سيتحول تدريجياً إلى غضبٍ صامت.”
• تراجع أهمية الحكومة المتمركزة في عدن
في الوقت الذي يسيطر فيه الحوثيون على مساحات واسعة من اليمن، بما في ذلك العاصمة صنعاء، لا تزال هناك حكومة منافسة تتخذ من عدن مقراً لها، لكنها تفقد أهميتها تدريجياً.
وتقود هذه الإدارة المجلس الرئاسي القيادي (PLC)، الذي يضم تشكيلة متباينة من القوى المناهضة للحوثيين.
ومن الناحية الشكلية، يُعد المجلس الهيئة التنفيذية للحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، وهي الحكومة التي أُجبرت على مغادرة صنعاء بعد سيطرة الحوثيين عليها عام 2014.
وقال الباحث أندرياس كريغ:
“يسيطر الحوثيون على الشمال الكثيف بالسكان، ويتعاملون اليوم بشكل مباشر مع الوسطاء الرئيسيين والقوى الكبرى في ملفات الأمن والوصول الإنساني، بينما يكافح المجلس الرئاسي في الجنوب الانقسامات الداخلية وتدهور الخدمات الأساسية.”
وقال كريغ إن وصف الحكومة بأنها “معترف بها دولياً” لم يعد يتجاوز حدود الورق.
فالحكومة المتمركزة في عدن تواجه تحديات اقتصادية هائلة، تفاقمت جزئياً بسبب سلسلة من الهجمات الحوثية عام 2022 استهدفت موانئ في المناطق الجنوبية المنافسة.
وقالت الباحثة إليونورا أرديماجني:
“إن وقف تصدير النفط أدى إلى انخفاض حاد في إيرادات الحكومة، ما انعكس بشكل خطير على الخدمات العامة ودفع رواتب الموظفين، وأسهم في تفاقم الانقسامات السياسية.”
وتشمل تلك الانقسامات الاقتتال الداخلي بين المجلس الانتقالي الجنوبي — وهو جماعة انفصالية مدعومة من الإمارات تسعى لاستقلال جنوب اليمن — وبين فصائل أخرى ضمن المجلس الرئاسي القيادي.
وقالت مقداد:
“مع تصاعد الانقسامات وتنامي الدعوات الانفصالية في الجنوب، بات التحالف المناهض للحوثيين منشغلاً بصراعاته الداخلية أكثر من تركيزه على التحدي الخارجي.”
وفي الوقت نفسه، ومع تشتت الحكومة المعترف بها دولياً في عدن وتراجعها إلى الهامش، يتولى الحوثيون اليوم التعامل مباشرة مع المملكة العربية السعودية، التي كانت قد خاضت ضدهم حرباً ضروساً استمرت ثمانية أعوام وانتهت في عام 2023.
وقالت الباحثة إليونورا أرديماجني:
“مع وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس، يُطرح سؤال جوهري حول ما إذا كان الحوثيون سيعيدون النظر في استراتيجيتهم.”
وأضافت:
“كما يُطرح تساؤل آخر حول الكيفية التي سيسعون بها إلى ترسيخ موقعهم الإقليمي في ظل تراجع حدة التوترات في الشرق الأوسط.”
لقراءة المادة من موقعها الأصلي عبر الرابط التالي:
https://www.middleeasteye.net/news/how-houthis-came-out-top-after-israels-multi-front-war