تحقيق: رفض الحوثيين للقاحات... "المؤامرة" التي تسلل منها شلل الأطفال
يمن فيوتشر - خاص: الأحد, 28 سبتمبر, 2025 - 08:32 مساءً
تحقيق: رفض الحوثيين للقاحات...

في ساحة المستشفى الباردة، وقفت والدة شهد عبدالسلام ترتجف خوفًا أمام غرفة الإنعاش، كأنها سقطت في حفرة عميقة تبحث فيها عن خيط أمل تتشبث به لتخرج وتجد طفلتها ذات الثلاثة أعوام تنتظرها بابتسامتها المعتادة.

غير أن القدر كان له اختيار آخر؛ دقائق قليلة بددت كل شيء، حين خرج الطبيب قائلًا: "الأعمار بيد الله.. لقد قمنا بكل شيء"، ثم رحل بصمت، سقطت الأم من هول الفقد، فيما حمل شقيقها الطفلة الصغيرة بين ذراعيه؛ جثة هامدة وملامح الحزن تملأ وجهه في حدث أشبه بمشهد فيلم سينمائي، لكنه واقع مرير ضحيته طفلة لا تعرف من الحياة إلا ألعابها المتبعثرة في المنزل.

بدأت معاناة شهد بأعراض تشبه نزلة برد عابرة - حمى وصعوبة في البلع- زارت عائلتها المراكز الصحية عدة مرات، لكن كل ما تلقتْه كان خافض حرارة ومضادًا حيويًا حسب ما نقلته عمتها لـ"يمن فيوتشر".

مع مرور الأيام، تضاعفت حالة شهد وظهر تورم في رقبتها وصار بلع الطعام شبه مستحيل وازدادت الحمى لكن تشخيص المرض ظل بعيدًا عن السبب الحقيقي حيث اقترح عليهم أحد أطباء الأذن والأنف والحنجرة بإجراء عملية جراحية، مستعجلة لمعرفة سبب التورم، وبعد إجراء العملية ظلت رقبة الصغيرة مفتوحة لأكثر من أسبوعين وبقي المرض متخفيًا خلف ستار الجهل والإهمال الطبي المنشر حديثًا في اليمن، واللا مبالاة من المستشفى. لم يشخص أحد المرض الفعلي، ولم يدرك ذلك الطبيب أن حياة الصغيرة كانت تنطفئ ببطء.

بعد رحيل شهد اكتشف والدها الحقيقة الموجعة عن طريق الصدفة عندما كان يبحث عن سبب مقنع لوفاتها خارج عتبات المراكز الصحية والمستشفيات بأن شهد لم تكن تعاني التهابًا عابرًا ولم تكن بحاجة لعملية جراحية من الأساس، بل تعاني من "الخناق" أو ما تسمى بالدفتيريا- Diphtheria، وهو مرض بكتيري خطير يمكن الوقاية منه باللقاح، وقد يفتك بثلاثة أشخاص من كل عشرة مصابين  دون علاج.

 

  •   انخفاض تغطية تطعيم الحصبة (Measles) إلى نحو 41% فقط، وكذلك لقاحات أخرى مثل شلل الأطفال ولقاح DTP ضمن حدود خطيرة فيما يتعلق بالمناعة المجتمعية بحسب ما نشرته منظمتا اليونيسف والصحة العالمية، حيث ساهم النزاع في تفاقم مشكلة الوصول إلى العديد من المناطق

 

تمنع سلطة الحوثيين في صنعاء استخدام اللقاحات لأسباب تتعلق "بالمؤامرة" وفق تصريحات قيادات ومسؤولين، الأمر شكل صدمة واسعة، مع تسلل بعض الأمراض التي قد كانت قد تلاشت منذ زمن بعيد مثل شلل الأطفال، وأمراض أخرى تشهد انتشارًا واسعًا مثل "الدفتيريا" والحصبة وغيرها؛ إذ تؤكد منظمة اليونيسف أن 27% من الأطفال اليمنيين دون سن العام لم يتلقوا جرعة واحدة من لقاح الحصبة نتيجة انهيار النظام الصحي وضعف برامج التحصين الروتيني، كما ترصد منظمة الصحة العالمية عشرات الحالات المصابة بالأمراض الستة القاتلة نتيجة منع اللقاحات.

تقول تحرير يسلم، طبيبة أطفال، لـ"يمن فيوتشر": إن الدفتيريا مرض بكتيري يهاجم الجهاز التنفسي العلوي، وأحيانًا الجلد، فخطورته تكمن في السموم التي يفرزها، إذ تدمر القلب والأعصاب وقد تودي بحياة المصاب في غضون أيام إن لم يتلق العلاج المناسب. المأساة الكبرى أن هذا المرض يمكن الوقاية منه باللقاح واللقاح فقط عبر ثلاث جرعات أساسية خلال مرحلة الطفولة، يليها جرعات معززة للحفاظ على المناعة.

 

فجوة واسعة لعودة الأمراض

الإحصاءات تشير إلى أن المرض قد يودي بحياة 30% من المصابين غير الملقحين في حال عدم تلقيهم العلاج، مع ارتفاع نسبة الوفيات بين الأطفال. ورغم الجهود العالمية، ما يزال التلقيح غير مكتمل. ففي عام 2023، حصل 84% فقط من الأطفال حول العالم على الجرعات الأساسية، بينما بقيت نسبة 16% بلا تغطية أو بتغطية منقوصة، ما يترك فجوة واسعة تسمح للمرض بالعودة.

في هذا الخصوص، يحذر رأفت ياسين (اسم مستعار)، وهو طبيب أطفال يعمل في مناطق شمالي اليمن، في حديث لـ"يمن فيوتشر"، من عودة الكثير من الأمراض إلى الظهور بين الأطفال دون سن الخامسة، مؤكدًا أنها ستشكل تهديدًا صحيًا كبيرًا رغم توفر لقاح آمن وفعال إلا أن التقاعس تجاهها وعدم إدراك وتشكيل وعي حقيقي يجعل بعض الأطباء لا يلتفتون إليها خاصة مع عدم الاهتمام الملحوظ من قِبل ورازة الصحة في - حكومة صنعاء - جماعة أنصار الله .

يوضح هذا الطبيب، أن الأمراض البكتيرية والفيروسية معدية جدًا وتنتقل عادة عبر التلوث الغذائي أو الماء أو الأيدي الملوثة، مشيرًا إلى أن الأطفال في سن مبكرة هم الأكثر عرضة للإصابة.

يضيف: "أن هذه الأمراض يمكن الوقاية منها بالكامل إذا تم الالتزام بالبرنامج الوطني للتحصين، الذي يبدأ منذ الولادة ويستمر بجرعات دورية حتى عمر خمس سنوات كالتطعيم الثلاثي ضد السعال الديكي والدفتيريا والكبد الوبائي والتي كانت تعطى في المراكز الصحية بشكل مستمر، إلا أن الأوضاع السياسية والاقتصادية في البلاد، إضافة إلى الخرافات التي انتشرت عن اللقاحات حالت دون الاستفادة منها والالتزام بها".

رحلت شهد، وبقيت قصتها شاهدًا على ألم لا يُحتمل، ورسالة دامية بأن الإهمال الطبي قد يحوّل أعراضًا بسيطة إلى مأساة لا تُنسى.

 
   

غياب التطعيم.. إلى متى؟

لا تقتصر طفرة الوباء الكارثية على الثلاثي القاتل (الدفتيريا، السعال الديكي والكبد الوبائي)، بل شملت أيضًا أمراضًا أخرى معدية وقاتلة مثل مرضي الحصبة والحصبة الألمانية نتيجة لتراجع كبير في معدلات التطعيم خصوصًا في مناطق سيطرة الحوثيين.

وتعتبر الحصبة – Measles، من الأمراض الفيروسية شديدة العدوى وتظهر بداية أعراضها حمى وسعال، وسيلان أنف بالإضافة إلى الطفح الجلدي.

أما الحصبة الألمانية – Rubella، فهي أخف أعراضًا لكنها خطيرة على النساء الحوامل؛ لأنها قد تسبب تشوهات خلقية للجنين وتؤدي بحياته للخطر، ويمكن الوقاية منها عبر لقاح MMR.

 
   

يتحدث أحمد الحزمي، لديه ثلاثة أطفال، لـ"يمن فيوتشر"، أنه منذ ما يقارب 5 سنوات لم تعد تتوفر اللقاحات كالسابق في مركز مديرية العدين بمحافظة إب، وسط اليمن، مشيرًا إلى أن غالبية من في القرية لم يهتموا بأخذ التطعيم لأطفالهم بسبب وعورة الطريق وانعدام الكثير من اللقاحات بسبب خلل في المبردات أو تغيب الطبيب المناوب في المركز، حيث يبذل القليل من أهل القرية جهدًا كبيرًا للحفاظ على أطفالهم خوفًا من انتشار الأمراض، إلا أن اليأس يغلبهم كل مرة فيعودون أدراجهم دون أخذ التطعيمات؛ لأن الممرض الذي لم يتقاضَ راتبه منذ أشهر لا يعمل في المركز لأيام طويلة.

تشير بيانات منظمة الصحة العالمية للعام 2022، إلى أن اليمن سجل أكثر من 22,000 حالة مشتبه بها بالحصبة، بزيادة ملحوظة مقارنة بالعام 2021، في حين ارتفع العدد عام 2023، إلى 34,300 إصابة أغلبها بين الأطفال دون سن الخامسة.

ومع بداية 2024 وحتى منتصفه، رصدت "الصحة العالمية"، أكثر من 18,000 حالة جديدة، نصفها تقريبًا في صنعاء والمحافظات الشمالية.

الأرقام كانت مفزعة على كافة المستويات، حيث تم رصد أكثر من 53,000 حالة مشتبه بها من الحصبة، و2,347 حالة مؤكَّدة في اليمن عام 2023، مما أسفر عن أكثر من 560 حالة وفاة مرتبطة بها، وهي زيادة حادة مقارنة بـ 27,000 حالة اشتباه و220 حالة وفاة سجلت طوال عام 2022، وفقًا لمنظمة الصحة العالمية.

في هذا الخصوص، تبرز تحديات كبيرة في التغطية بسبب توقف برامج "الزيارات الميدانية المتكاملة" في محافظات شمالي اليمن التي يعيش فيها أكثر من 65% من السكان، إذ لا توجد تقارير وإحصائيات حديثة للعام الحالي 2025، تعمل على حصر الحالات المستجدة.

وهذا يشير إلى انخفاض تغطية تطعيم الحصبة (Measles) إلى نحو 41% فقط، وكذلك لقاحات أخرى مثل شلل الأطفال ولقاح DTP ضمن حدود خطيرة فيما يتعلق بالمناعة المجتمعية بحسب ما نشرته منظمتا اليونيسف والصحة العالمية، حيث ساهم النزاع في تفاقم مشكلة الوصول إلى العديد من المناطق، إضافة إلى وعورة الطريق وصعوبة الوصول إلى المناطق النائية في ظل وضع اقتصادي سيئ.

 

شبح شلل الأطفال يعود من جديد

في وقت كان من المفترض أن تُطوى فيه صفحة شلل الأطفال من تاريخ اليمن، عادت البلاد لتواجه موجة وبائية خطيرة أعادت إلى الأذهان معاناة أجيال سابقة أنهكها الفيروس لسنوات طويلة.

 وعلى الرغم من إعلان اليمن خالية من شلل الأطفال منذ عام 2006، مع عدم تسجيل أي إصابة جديدة منذ ذلك الحين، واصلت حملات التطعيم عملها كإجراء وقائي ضد مخاطر انتقال العدوى من دول أخرى، غير أن سنوات النزاع التي أدت إلى الانهيار الصحي فتحت الباب أمام عودة الفيروس مجددًا، معلنًا تهديده الصريح لحاضر أطفال اليمن ومستقبلهم.

 

  • حسب بيان مشترك بين WHO وUNICEF في أكتوبر 2024، فإن اليمن يواجه تفشي نوع جديد من شلل الأطفال، مع تسجيل 273 حالة خلال ثلاث سنوات، وسط نظام صحي متهاوٍ وتراجع تغطية التحصين، حيث نجحت حملة التحصين في فبراير– مارس 2024، الوصول إلى أكثر من 1.29 مليون طفل دون الخامسة عبر 12 محافظة

 

يُعرف شلل الأطفال -Poliomyelitis - بأنه مرض فيروسي يُصيب الجهاز العصبي وقد يؤدي في بعض الحالات إلى شلل كامل خلال ساعات قليلة. وينتقل الفيروس بشكل رئيسي عبر البراز، وفي حالات أقل عن طريق الطعام أو المياه الملوثة. بعد دخول الجسم يتكاثر الفيروس في الأمعاء ثم تبدأ الأعراض بالظهور والتي تشمل الحمى، الإعياء، الصداع، التقيؤ، تصلب الرقبة، وآلام في الأطراف.

ويُصيب شلل الأطفال غالبًا الأطفال دون سن الخامسة، حيث تشير الإحصاءات إلى أن حالة واحدة تقريبًا من كل 200 إلى 250 حالة تُصاب بشلل دائم في الساقين، بينما يقدر معدل الوفيات بنحو 10% من المصابين نتيجة توقف عضلات التنفس عن أداء وظائفها.

 

 
 

ولتجنب الإصابة بالمرض، يجب التطعيم ضد شلل الأطفال فهو الوسيلة الأكثر أمانًا وفاعلية، كما ينصح أطباء بالحفاظ على النظافة الشخصية وتعقيم اليدين والماء والطعام؛ لتقليل فرص انتقال الفيروس، في حين يعتبر التدخل المبكر عند ظهور الأعراض أمرًا مهمًا للحد من المضاعفات وتحسين فرص التعافي.

وتشبه أعراض شلل الأطفال في المرحلة الأولى أعراض الإنفلونزا العادية؛ مما قد يجعل تشخيص المرض في البداية صعبًا.

ومع ذلك فإن عددًا قليلًا من المرضى فقط يتعرضون لمضاعفات عصبية شديدة الخطورة منذ البداية. وتشمل هذه المضاعفات حالات الشلل التي قد تصيب الأطراف الأربعة أو النصف العلوي من الجسم أو الأطراف السفلية فقط، وفي بعض الحالات النادرة قد يؤثر المرض على الجهاز التنفسي للطفل مما يشكل تهديدًا مباشرًا لحياته وفق حديث الدكتور محمد محسن (اسم مستعار)، وهو اختصاصي طب الأطفال.

يضيف محسن لـ"يمن فيوتشر"، أن الكثير من المرضى يستعيدون جزءًا من وظائفهم الحركية أثناء تلقي العلاج الطبيعي والتأهيل المبكر ويعتمد ذلك بشكل كبير على سرعة التدخل الطبي ومتابعة الأعراض في وقت مبكر. وأوضح أن شدة التغيرات الحركية تختلف من مريض لآخر؛ فبعض الأطفال المصابين بالشلل تظهر عليهم تغيرات طفيفة جدًا قد لا يمكن ملاحظتها أثناء المشي أو أداء الأنشطة اليومية، بينما قد يعاني آخرون من شلل واضح في إحدى القدمين أو كلاهما، أو في أحد الذراعين، مما يؤثر على حركتهم واستقلاليتهم بشكل ملموس.

كما يشير إلى أن التدخل المبكر والمتابعة المستمرة مع العلاج الطبيعي إلى جانب المتابعة الطبية الدقيقة والتغذية السليمة تلعب دورًا مهمًا في تحسين الحالة وتقليل المضاعفات طويلة المدى، خاصة إذا تم التدخل خلال الأسابيع والشهور الأولى بعد ظهور الأعراض.

العلاج الطبيعي وشلل الأطفال

يُعد العلاج الطبيعي أحد الركائز الأساسية في رعاية مرضى شلل الأطفال، ويعتبر خطوة مهمة لتحسين الحركة وجودة الحياة باختلاف نوعية الحالة ودرجة شدتها.

تقول المعالجة الفيزيائية آية محمد لـ"يمن فيوتشر"، إن العلاج الطبيعي يهدف إلى تأهيل المهارات الحركية لدى الأطفال المصابين بشلل الأطفال أو الشلل الدماغي، إذ تساعد هذه الجلسات على تقوية العضلات زيادة مرونة المفاصل وتحسين التوازن بما يحد من المضاعفات الناتجة عن الحركة المحدودة.

 

 
 


تؤكد محمد، أن الشلل قد يؤثر على القدرة الحركية بشكل رئيسي بينما تأثيره على القدرات العقلية يختلف بحسب نوع الإصابة.. فشلل الأطفال غالبًا لا يسبب مشاكل في الذكاء بينما بعض حالات الشلل الدماغي قد تترافق مع صعوبات تعلم أو تأخر في بعض المهارات الذهنية.

كما أن العلاج الطبيعي عند ممارسته بانتظام يساهم في منع تفاقم المضاعفات الجسدية ويعمل على تحسين الحالة البدنية للمريض، مما يساعد على الاستفادة المثلى من الأدوية والعقاقير الطبية حيث يكون الجسم أكثر قدرة على التكيف معها.

وتشدد محمد على ضرورة الاستمرارية في جلسات العلاج الطبيعي وعدم التوقف عنها، مؤكدة أن الدمج بين العلاج الفيزيائي والمتابعة الطبية الدقيقة لدى أطباء الأطفال أو أعصاب الأطفال إلى جانب التغذية السليمة يمثل عاملًا مشتركًا يسهم بشكل كبير في تحسن الحالة.

 

  • على الرغم من أن وزارة الصحة تنفذ حملات تطعيم بالتعاون مع منظمتي اليونيسف والصحة العالمية، إلا أن الطرح الرسمي المثير للريبة أسهم في زيادة التردد المجتمعي تجاه اللقاحات، وهو ما انعكس مباشرة على حياة أطفال مثل حسين وتهاني، اللذين كانا من الممكن أن تكون حمايتهما ممكنة لو لم يتأثر ذووهما بتلك الشكوك

 

وتوضح المعالجة الفيزيائية، أن السنوات الخمس الأولى من عمر الطفل تعتبر مرحلة حرجة للطفل المصاب بالشلل؛ إذ تكون قدرة الجسم على التأهيل واستجابة العضلات أكبر، ما يجعل التدخل المبكر والمستمر ذا أثر واضح في تحسين الحركة وتعزيز نمو العضلات والمفاصل.

وتختم حديثها بالتأكيد على أن العلاج الطبيعي جزء أساسي من المنظومة العلاجية، ولا يُعتمد عليه فقط كخيار داعم بل كعنصر رئيسي يسهم في تحسين الحركة وتعزيز استقلالية الطفل وتحقيق أفضل مستوى ممكن من جودة الحياة.

 

جهل أم نكاية سياسية

لم يقوَ حسين، ذو الأعوام الستة، على المشي على قدميه، ولعب كرة القدم مثل رفاقه في المدرسة، بعدما أصيب بمرض شلل الأطفال الذي أفقده القدرة على التحكم بأطرافه السفلية.

يقول والده لــ"يمن فيوتشر": "لم تظهر أعراض المرض على حسين في البداية بل كنا نلاحظ أن أطرافه رخوة ولا يستطيع الوقوف عليها منذ أن كان في الثانية من عمره"، حيث لم يتوقع والد حسين أنه مصاب بشلل الأطفال، كما أنه لم يحرص على استكمال جرعات اللقاحات بسبب انشغاله بالعمل في محافظة الحديدة، شمال غربي اليمن، إضافة إلى ضغوط الوضع الاقتصادي التي جعلته يغفل عن متابعة تحصينه.

في قصة أخرى مشابهة رفض والد الطفلة تهاني، ابنة الأربع سنوات، القادم من محافظة صعدة، أقصى شمالي البلاد، والمقيم في العاصمة صنعاء، تطعيم أطفاله؛ متأثرًا بخطابات وتصريحات قيادات جماعة الحوثي الرافضة للقاحات، وقد بات مقتنعًا بما يُروَّج عن أن اللقاحات "مؤامرة" أو "سموم" قد تضر بصحة الأطفال وتسبب العقم مستقبلًا، وهي مخاوف تعززت لديه بعد تصريحات وزير الصحة السابق في حكومة صنعاء (غير المعترف بها)، طه المتوكل، الذي أبدى تشكيكًا في ندوات صحية (بينها ما بُث عبر قناة المسيرة) بشأن بعض أنواع اللقاحات، معتبرًا أنها قد تكون وسيلة لنقل الأمراض إذا لم تُخضع للرقابة المشددة.

رافقت مثل هذه التصريحات برامج التحصين الموسمية في مناطق سيطرة الحوثيين بجدل واسع، فعلى الرغم من أن وزارة الصحة تنفذ حملات تطعيم بالتعاون مع منظمتي اليونيسف والصحة العالمية، إلا أن الطرح الرسمي المثير للريبة أسهم في زيادة التردد المجتمعي تجاه اللقاحات، وهو ما انعكس مباشرة على حياة أطفال مثل حسين وتهاني، اللذين كانا من الممكن أن تكون حمايتهما ممكنة لو لم يتأثر ذووهما بتلك الشكوك.

وفي السياق ذاته تكشف مصادر طبية ومسؤولون سابقون في وزارة الصحة، منهم كذلك من كان يعمل مشرفًا على فرق التحصين بالعاصمة صنعاء، لـ"يمن فيوتشر"، أن جماعة الحوثيين قامت منذ 2017 بمنع الفرق الصحية الرسمية من الاستمرار في تنفيذ مهامها، واستبدلتها بفرق أخرى تابعة لها. كما أجبرت الجماعة الفرق الطبية على تشغيل أشخاص جدد من طرفها "دون تدريب أو تأهيل حقيقي" وهو ما انعكس سلبًا على جودة حملات التطعيم.

ويقول المشرف الصحي لـ"يمن فيوتشر": "كانت بعض الفرق تحمل اللقاحات بأيديهم أثناء تنقلهم من منزل إلى آخر، دون استخدام البراد الخاص لحفظها من أشعة الشمس المباشرة، مما ظن البعض أنها فقدت صلاحيتها."

يشير إلى أن هذا السلوك أثار غضب العديد من الأسر التي رفضت لاحقًا تلقي اللقاحات، حتى بوجود عاقل الحي الذي عادة ما يسهم في إقناع الأهالي الرافضين لتطعيم أطفالهم.

ويذكر أن الكثير من الأسر كانت قد بررت أن اللقاحات تالفة، وبالتالي لم تعد هناك ثقة في عملية التحصين برمتها"، مؤكدًا أن تلك التجاوزات تسببت في انخفاض التعاون المجتمعي مع حملات التحصين في تلك الفترة، مضيفًا، "نحن كمشرفين صحيين فقدنا السيطرة، ولم نعد نملك أي سلطة حقيقية لإدارة عمل الفرق أو ضمان جودة التحصين، بعد أن تم تغييب الكوادر الرسمية المؤهلة"، وهي وجهة نظر أحد العاملين الميدانيين.

والتجربة تتقاطع فعلًا مع تقارير دولية وتحذيرات من تفاقم الأزمة الصحية في اليمن على الرغم من جهود التحصين الكبيرة التي تقودها اليونيسف ومنظمة الصحة العالمية.

وهنا كانت النتيجة؛ حسب بيان مشترك بين WHO وUNICEF في أكتوبر 2024، من أن اليمن يواجه تفشي نوع جديد من شلل الأطفال، مع تسجيل 273 حالة خلال ثلاث سنوات، وسط نظام صحي متهاوٍ وتراجع تغطية التحصين، حيث نجحت حملة التحصين، فبراير– مارس 2024، في الوصول إلى أكثر من 1.29 مليون طفل دون الخامسة عبر 12 محافظة، بمشاركة وزارة الصحة التابعة للحكومة المعترف بها دوليًا، وساهمت منظمة اليونيسف فيها ببرادات خاصة لضمان حفظ اللقاحات.

كما أن الجولة الثانية التي أُقيمت من الحملة في يوليو 2024 غطت أكثر من 1.3 مليون طفل، واستُخدمت فيها وسائل نقل سليمة وفرق مدربة لضمان سلامة عملية التحصين.

ومع ذلك تبقى هذه الحملات مركزة في المناطق التي تسهّل السلطات الحكومية الوصول إليها، ولم تشمل المناطق ذات الكثافة السكانية الخاضعة لسيطرة الحوثيين بشكل مشترك؛ مما عكس فجوة حقيقية في التغطية الوطنية.

 

 


التعليقات