في الثاني من سبتمبر/أيلول من هذا العام، وبعد أربعة أيام فقط من الغارات الجوية الإسرائيلية التي أودت بحياة أحمد الرهوي واثني عشر وزيرًا من حكومة الحوثيين في اليمن، التقت رئيسة بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC) بمسؤول وزارة الخارجية الحوثية إسماعيل المتوكل في صنعاء.
وبحسب ما نقلته وكالة “سبأ” التابعة للحوثيين، فقد قدّمت تعازيها في “الجريمة التي ارتكبها الكيان الصهيوني”، وأعربت عن تضامنها مع اليمن، وأكدت أن خطط اللجنة لتقديم المساعدات “لم تتغير”.
ورغم أن اللغة التي نسبتها الوكالة لرئيسة البعثة يُرجَّح أنها غير دقيقة، فإن المنظمة لم تستطع دحضها علنًا، إذ إن مخالفة الرواية الحوثية علنًا كان من شأنه أن يعرّض عملها للخطر، سواء بفقدان الوصول الميداني أو تهديد سلامة موظفيها، أو حتى بإغلاق عملياتها في شمال اليمن، حيث يعيش ثلثا السكان.
ونتيجة لذلك، بقي التصريح في الإعلام الحوثي وكأنه إقرار دولي بشرعية سلطتهم، يُستخدم لتعزيز صورتهم كـ“حكومة” ذات اعتبار داخلي وخارجي.
لسنواتٍ طويلة، ساد الاعتقاد بأن بقاء الحوثيين مرهون بانتصاراتهم العسكرية والدعم الإيراني الذي يتلقونه. وكلا العاملين أساسيان، غير أن هناك عاملًا ثالثًا بالغ الأهمية وغالبًا ما يُتجاهل، وهو تسليح العلاقات والانخراط الدولي لصالحهم.
ففي عام 2018، حين كانت القوات الحكومية تستعد لاستعادة مدينة الحديدة من أيدي الحوثيين، تدخّل المجتمع الدولي محذّرًا من “كارثة إنسانية” ومن احتمال “تدمير الميناء”. وقد أفضى ذلك إلى توقيع اتفاق ستوكهولم، الذي فرض وقفًا لإطلاق النار مكّن الحوثيين فعليًا من ترسيخ سيطرتهم.
لكن الميناء تعرّض لاحقًا للتدمير على يد الغارات الجوية الإسرائيلية، بعدما استخدمه الحوثيون لشن أكثر من 130 هجومًا على السفن في البحر الأحمر. وهكذا، حال المجتمع الدولي دون تحرير الميناء بحجة تجنّب تدميره، ليُدمّر لاحقًا وفق شروط الحوثيين أنفسهم.
وفي نمطٍ يتكرر مرارًا، يظهر أن الانخراط الدولي من دون محاسبة لا يُصلح الحوثيين، بل يقوّيهم، ويمنحهم مزيدًا من الثقة والشرعية في الداخل والخارج.
الشرعية عبر العمليات الإنسانية
في أكتوبر/تشرين الأول 2025، نشرت صحيفة الثورة التابعة للحوثيين مقالًا تناول زيارة مسؤولي اللجنة الدولية للصليب الأحمر لما وصفتها بأنها “عمليات نزع ألغام” حوثية، في تشويهٍ فاضحٍ للواقع.
إذ وثّقت منظمات عدة، منها هيومن رايتس ووتش، أن جماعة الحوثي هي الجهة الرئيسية المسؤولة عن أزمة الألغام الأرضية في اليمن، كما أكدت تقارير أخرى أن الحوثيين زرعوا ألغامًا وعبوات ناسفة على نطاق واسع في الساحل الغربي للبلاد.
في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين، تُنسّق الأمم المتحدة عملياتها الإنسانية من خلال مسؤولين مُعيّنين من قبل الجماعة ووفق شروطها. فـ منظمة الصحة العالمية (WHO) تتفاوض بشأن برامجها مع مسؤولي “وزارة الصحة الحوثية”، وبرنامج الأغذية العالمي (WFP) يوزّع المساعدات عبر شبكات الحوثيين المحلية.
وهكذا، تبدو كل وكالة إنسانية أمام خيارين مستحيلين ظاهريًا: إما التعامل بما يمنح الحوثيين شرعية الأمر الواقع، أو الانسحاب وترك الفئات الضعيفة تواجه مصيرها دون دعم.
لكن هذا الإطار الزائف صنعه الحوثيون عمدًا. فالنمط متكرر وواضح، إذ يقوم الحوثيون بتخريب إيصال المساعدات عبر السرقة والابتزاز واحتجاز الموظفين الإنسانيين، ما يؤدي إلى تعليق العمليات مؤقتًا، ثم يعاودون التفاوض بشأن استئنافها بشروط تكرّس سيطرتهم أكثر فأكثر.
فعلى سبيل المثال، عندما علّقت الأمم المتحدة عملياتها في محافظة صعدة بعد وفاة أحد موظفي برنامج الأغذية العالمي أثناء احتجازه، ثم نقلت مكتب منسقها المقيم إلى عدن إثر موجة من الاعتقالات الواسعة بحق موظفيها في مناطق الحوثيين، ردّت الجماعة بتصعيد أكبر.
وهكذا، يتحوّل كل تعليقٍ للعمليات الإنسانية إلى ورقة ضغط جديدة يستخدمها الحوثيون لتوسيع نفوذهم وترسيخ شرعيتهم السياسية أمام المجتمع الدولي.
والادعاء بأن سكان المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين لا يملكون بديلاً هو ادعاء زائف تمامًا، فالحكومة اليمنية تسيطر على مساحات واسعة من الأراضي يمكن من خلالها توصيل المساعدات دون تدخل أو عرقلة. ومع ذلك، تظل الموارد الدولية مركّزة في صنعاء الخاضعة لسيطرة الحوثيين، حتى مع نزوح السكان تدريجيًا نحو مناطق الحكومة.
كان بإمكان الأمم المتحدة توجيه المساعدات عبر المناطق الحكومية والمنظمات المحلية بدلاً من تعزيز احتكار الحوثيين للمساعدات الإنسانية، غير أن امتناعها عن ذلك يكشف ميلاً مؤسسيًا داخل المنظومة الدولية للتعامل مع “السلطة القائمة على الأرض”، حتى لو كانت تلك السلطة تسرق المساعدات وتهدد الموظفين وتستخدم المعاناة كسلاح سياسي.
والأدلة على ذلك متعددة وواضحة، وتشمل تحويل المساعدات إلى حزب الله في لبنان، وإعادة بيع المواد الغذائية الإغاثية، واختفاء كميات من الإمدادات الطبية. هذه الممارسات ليست سوء إدارة، بل نظام منظم للربح والاستغلال.
ويُفضّل الحوثيون استمرار معاناة المدنيين على قبول مساعدات لا يمكنهم السيطرة عليها أو جني الأرباح منها؛ فالمجاعة تخدم مصالحهم السياسية عندما يكون البديل هو وصول المساعدات بطريقة تتجاوز سلطتهم المباشرة.
والمفارقة أن الوكالات الدولية تدرك ذلك تمامًا، لكنها تواصل عملها كما لو أن مجرد “الوصول الإنساني” هدف بحد ذاته، دون أن تتساءل ما إذا كانت مساعداتها تخدم الشعب فعلاً أم تخدم الميليشيا التي تتحكم به.
من التحكم بالوصول إلى احتجاز الرهائن
منذ مايو/أيار 2024، احتجز الحوثيون أكثر من 60 عاملًا إنسانيًا، من بينهم 13 موظفًا في الأمم المتحدة وما لا يقل عن 50 موظفًا من منظمات المجتمع المدني اليمنية والدولية، وذلك بتهم تجسس ملفّقة.
وفي يناير/كانون الثاني 2025، اعتُقل ثمانية موظفين إضافيين تابعين للأمم المتحدة، تُوفي أحدهم أثناء احتجازه لدى الحوثيين، ما دفع الأمم المتحدة إلى تعليق عملياتها في محافظة صعدة.
غير أن هذه الأحداث لم تُسفر عن أي عواقب حقيقية للجماعة، بل كشفت عن قدرتها على التصعيد دون ثمن يُذكر.
وقد أدرك الحوثيون أن كل أزمة تمثل فرصة جديدة لترسيخ السيطرة. فبعد الغارات الإسرائيلية التي أودت بحياة عدد من وزرائهم في أواخر أغسطس/آب، استغلت الجماعة الموقف لتكثيف القمع الداخلي، إذ اقتحمت قوات الأمن الحوثية مقارّ وكالات تابعة للأمم المتحدة واعتقلت ما لا يقل عن 11 موظفًا إضافيًا بتهم “تجسس” لا أساس لها من الصحة.
ورغم زيف تلك الاتهامات، أعلن مسؤولون حوثيون أن المحتجزين سيُقدَّمون للمحاكمة.
ولم يقتصر التصعيد على العاملين الإنسانيين، بل توسّع ليشمل حملة اعتقالات جماعية في أنحاء شمال اليمن، ترافقت مع إنشاء خطوط ساخنة لتلقي بلاغات “التجسس” من المواطنين، بل وصل الأمر إلى اعتقال أمين المجلس السياسي الأعلى للجماعة نفسه بتهمة التجسس.
وهكذا، تحوّل الحوثيون من مجرد جهة تفرض القيود على العمل الإنساني إلى سلطة تستخدم الاحتجاز كأداة للابتزاز السياسي والسيطرة المطلقة.
والأخطر من ذلك أن قيادة الحوثيين باتت تُعبّر عن تهديدها بشكل علني ومباشر. ففي 16 أكتوبر/تشرين الأول 2025، أعلن زعيم الجماعة عبدالملك الحوثي عن مقتل رئيس أركان قواته محمد الغماري، واتهم موظفين من برنامج الأغذية العالمي ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) بأنهم يشكّلون خلايا تجسس “لعبت دورًا في استهداف” ميليشياته، على حد زعمه.
وقال الحوثي في خطابه:
“لا يوجد ما يحمي المنتسبين إلى المنظمات الإنسانية من المساءلة والملاحقة القضائية، فما قامت به تلك المنظمات يخرج عن إطار الدور الإنساني، بل هو دور عدواني إجرامي.”
وتؤكد هذه التصريحات أن الحوثيين باتوا يمارسون الاحتجاز والتهديد والابتزاز بحق المنظمات الدولية دون خوف من العواقب، مدركين أن تلك المنظمات ستنتهي في النهاية إلى الرضوخ لمطالبهم من أجل الحفاظ على قدرتها على الوصول إلى المحتاجين للمساعدة.
وبذلك، يكرّس الحوثيون واقعًا خطيرًا يُظهر أن النفوذ الإنساني الدولي أصبح رهينة بيد سلطة الأمر الواقع في صنعاء.
الانخراط دون محاسبة
تُظهر مساعي المملكة العربية السعودية للتقارب مع الحوثيين خلال عامي 2023–2024 بوضوح السبب الذي يجعل الانخراط غير المشروط والمفتقر للمساءلة يفشل حتمًا.
فعلى الرغم من المفاوضات والتنازلات الاقتصادية التي قُدمت، صعّد الحوثيون من أعمالهم العدائية، إذ شنّوا هجمات غير مسبوقة في البحر الأحمر، ووفقًا لمصدر مطلع، هددوا بتكثيف العمليات العسكرية ضد السعودية ما لم تمارس الأخيرة ضغوطًا على الحكومة اليمنية لرفع القيود الاقتصادية التي يفرضها البنك المركزي التابع لها.
وكل تنازلٍ قُدِّم لم يؤدِّ إلى تهدئة الحوثيين، بل زادهم جرأةً وتشدّدًا. فالنمط واحد ومتكرر:
يُفسّر الحوثيون الانخراط الدبلوماسي على أنه ضعف، ويستغلونه لتعزيز قبضتهم وانتزاع مزيد من التنازلات.
ويعتمد الحوثيون على ما يمكن تسميته بـ الجمود المؤسسي الدولي. ففي أواخر أكتوبر/تشرين الأول 2025، أعلن كبير مفاوضي الحوثيين محمد عبدالسلام –الخاضع للعقوبات الأمريكية– أن حل قضية احتجاز موظفي الأمم المتحدة مرتبط بـ“تحقيق تقدم في خارطة السلام التي ترعاها السعودية والأمم المتحدة”، في محاولة لربط قضيتين لا علاقة بينهما مطلقًا.
وكان هذا الربط مقصودًا ومخططًا له، إذ حوّل الحوثيون العمال الإنسانيين المحتجزين إلى أوراق ضغط تفاوضية في ملفات سياسية منفصلة.
وكما جرت العادة، اكتفت الأمم المتحدة بالانخراط في أحاديث تمهيدية دون خطوات حاسمة.
وبقبولها هذا الإطار كمقدمة للحوار، تكون المنظمة الدولية قد وجّهت رسالة خاطئة مفادها أن احتجاز العاملين الإنسانيين وفبركة تهم التجسس لا يؤديان إلى العزلة، بل إلى مقعد تفاوضي على الطاولة.
واليمنيون يدركون جيدًا ما الذي سيحدث تالياً.
فقد شاهدوا كيف أسهم الانخراط الدولي في إضفاء الشرعية على حزب الله في لبنان وحركة حماس في غزة؛ تطبيعٌ دبلوماسيٌ منح الميليشيات نفوذًا متزايدًا، فيما تُركت الشعوب تعيش تحت حكمها القسري.
والنمط ذاته يتكرر اليوم مع الحوثيين منذ سنوات، حيث تُسهم المقاربات الدولية في ترسيخ سلطتهم بدلًا من الحدّ منها.
وحين تتوقف الأحاديث وينصرف المجتمع الدولي إلى ملفات أخرى، سيبقى اليمنيون وحدهم يواجهون الواقع، يعيشون تحت سلطة ميليشيا ساعد العالم، عن قصدٍ أو غفلة، في ترسيخها.
لقراءة المادة من موقعها الأصلي: