تحليل: “إسرائيل الكبرى” والتحوّلات الجيوسياسية المرتقبة
يمن فيوتشر - درج - هاني عضاضة الجمعة, 22 أغسطس, 2025 - 11:23 صباحاً
تحليل: “إسرائيل الكبرى” والتحوّلات الجيوسياسية المرتقبة

في أعقاب تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو حول تبنّيه مفهوم “إسرائيل الكبرى”، ومواصلته التلميح في أكثر من مناسبة بتوسيع حدود إسرائيل، تواجه المنطقة تحوّلات جيوسياسية لافتة. فطموحات إسرائيل تعكس مخاطر تصعيد كبير يلوح في الأفق، في وقت تتباين فيه المواقف الدولية بين دعم إسرائيل، وبين الحفاظ على إطار تفاوضي لإعادة تفعيل مسار حلّ الدولتين، وبين تصعيد دبلوماسي متزايد بهدف كبح جماح أقصى اليمين الصهيوني ووضع حدّ للإبادة الجماعية الجارية في غزّة.

ليس واضحاً بشكل حاسم بعد ما إذا كانت إسرائيل، بقيادة نتانياهو وقوى اليمين المتطرّف، تعمل على إعادة ترسيم مؤقّت لحدود السيطرة الأمنية والعسكرية مقابل انتزاع تنازلات سياسية وأمنية واقتصادية كبيرة من دول المنطقة، خاصّة في ما يتعلّق بالتخلّي الكامل والنهائي عن القضيّة الفلسطينية، ومنع وجود دولة فلسطينية مستقلّة، حتى لو تأسّست على جزء بسيط من حدود فلسطين التاريخية. الأكيد أن التصريحات حول “إسرائيل الكبرى” جادّة بشكل يستدعي أقصى درجات الاستنفار والتأهب للتعامل مع أخطار أمنية محدقة، خاصّة في الدول التي تخرق إسرائيل معها بنود اتّفاقيات السلام بشكل مستمرّ، وبالتحديد مصر والأردن.

جاء إحياء نتانياهو لهذا المخطط على مستوى الخطاب السياسي، تزامناً مع توغّل قوّاته العسكرية في الأراضي السورية، واستغلال مجازر السويداء، وصعود الإسلام السنّي المتطرّف في سوريا من جهة، وتمسّك إيران بميليشياتها التي تهدّد بإشعال حروب أهلية من جهة أخرى. بالتالي، فإن الوضعية القائمة اليوم في دول المنطقة تعمل كمحفّز لتسريع هذا المخطّط وتحويله إلى أمر واقع، حتى لو تطلّب تنفيذه بشكل ملموس عشرات السنوات من الحرب المستمرّة، وفرض التغيير الديموغرافي عبر التهجير والاستيطان.

 

“إسرائيل الكبرى” في عيون أقصى اليمين التوراتي

ليس لما يسمى “إسرائيل الكبرى” تعريف واحد وثابت في السياسة الإسرائيلية، بل هي مجموعة تصوّرات سياسية وأيديولوجية هجينة، لكن موضع التوافق الأساسي بين تلك التصوّرات هو ضمّ جميع أراضي فلسطين التاريخية إلى دولة إسرائيل. غير أن معسكر أقصى اليمين يتبنّى المفهوم التوراتي الذي يستند إلى “أرض الميعاد”، أو “أرض كنعان”، كخيار “ديني مقدّس”، وهي الأرض التي وعد الإله فيها إبراهيم بعودة اليهود إليها واستعادة أمجادهم بقيادة المسيا المنتظر والمخلّص (المشيح). 

لا تحظى فكرة “إسرائيل الكبرى” بقبول واسع النطاق عالمياً، وما زالت الفكرة غير متبناة بشكلٍ رسمي إسرائيلياً، لكنّ طموحات نتانياهو تصاعدت كثيراً، خاصّة بعد تأييد الرئيس الأميركي دونالد ترامب توسيع مساحة إسرائيل في الصيف الماضي.

وفقاً للعهد القديم (سفر العدد: الإصحاح 34) فإن حدود “إسرائيل الكبرى” تمتدّ جنوباً من البادية الأردنية المتداخلة مع صحراء شبه الجزيرة العربية حتى خليج العقبة (3: جانب مملكة إدوم Edom) وتمرّ بالجبال والوديان التي تفصل غور البحر الميت عن جنوب فلسطين التاريخية (4: عقبة عقربيم، أو مدينة أقربتّين Akrabattene وقادش برنيع وحصر أدار وعصمون) ومروراً بوادي العريش في سيناء وصولاً إلى البحر (5: مِنْ عصمون إِلى وادي مصر) – رغم أن بعض التفسيرات غير الدقيقة تشير إلى أن المقصود بوادي مصر هو نهر النيل، تشير مراجع الكنيسة القبطية الأرثوذكسية إلى أن المقصود هو وادي العريش، وهو الحدّ الجنوبي الغربي لأرض كنعان، وفيه مجرى للمياه يجفّ في الصيف.

وتمتدّ غرباً في اتّجاه البحر الأبيض المتوسط (6: وأما تخم الغرب فيكون البحر لكم تخماً) وصولاً إلى مدينة صيدا (حتى صور وصيدا وفقاً لمراجع دير القديس أنبا مقار الكبير).

ثم تمتدّ شمالاً من البحر الأبيض المتوسط إلى جبل هور هاهور (7: البحر الكبير إلى جبل هور) – وهو ليس جبل هارون حيث دُفن هارون في البتراء في الأردن، بل أحد جبال سلسلة جبال لبنان الغربية المطلّة على البحر الأبيض المتوسط، ومن ثم من جبل هور هاهور مروراً بالأراضي السورية وصولاً إلى مدخل حماة وبلدة صدد السريانية التاريخية في محافظة حمص (8: وتكون مخارج التخم إلى صدد) مروراً ببلدة الزعفرانة الشرقية في ريف حمص الشمالي بجانب منطقة الرستن (9: ثم يخرج التخم إلى زفرون) وصولاً إلى بلدة القريتين في وسط سوريا جنوب شرق حمص من جهة البادية السورية (9: وتكون مخارجه عند حصر عينان، أو بما معناه قرية الينابيع، والقريتين تقع على واحة في البادية السورية).

أما شرقاً، فتمتدّ من وسط سوريا إلى بلدة رأس العاصي في قضاء الهرمل على ضفاف نهر العاصي (10: من حصَر عينان إلى شَفامَ) وصولاً إلى بلدة ربلة في محافظة حمص (11: من شَفامَ إلى رَبْلة شرقي عينٍ) ثم إلى بحيرة طبريا (11: بحر الجليل) وصولاً إلى البحر الميت (12: بحر الملح).

لكن بحسب القديس إيرونيموس نحو عام 400 ميلادي، فإن “إسرائيل الكبرى” تمتدّ شمالاً حتى جنوب تركيا، وصولاً إلى سلسلة جبال طوروس ومدينة مرسين (زفيريوم الكيليكية Zephyrium) بما معناه وفقاً لهذا التفسير أنها تشمل جميع الأراضي اللبنانية والأراضي الساحلية السورية دون استثناء.

 

“إسرائيل الكبرى” كواقعٍ متطوّر منذ العام 1967

وفقاً لمعهد “عكفوت” لأبحاث الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، في 18 تشرين الأوّل/ أكتوبر 1967، قدّم ييغآل آلون، حين كان وزيراً للعمل، وقبل أن يتبوّأ منصب نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي بثمانية أشهر، اقتراحاً للجنة الوزارية لشؤون الأمن، يقضي بحذف الخطّ الأخضر من الخرائط الإسرائيلية الرسمية، وبإلغاء اتّفاقيات الهدنة لعام 1949، وبإعادة ترسيم الحدود، لتشمل الخريطة الجديدة آنذاك الضفّة الغربية وقطاع غزّة وهضبة الجولان السورية وشبه جزيرة سيناء.

تبنّت اللجنة الاقتراح وصادقت على القرار بعد ثلاثة أسابيع، وحمل القرار الرمز ب/21.  وفي 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 1967، اقترح الوزير نفسه، في إطار اجتماع مجلس الوزراء الإسرائيلي، فرض رقابة مشدّدة على نشر قرار طباعة الخرائط دون خطوط الهدنة، ووافق عليه الوزراء بأغلبية كبيرة، فصدر عن مجلس الوزراء القرار الرمز ب/9. وصُنِّف حينذاك القرار بشأن حذف الخطّ الأخضر من الخريطة “سرّياً للغاية” ولم يُنشر لسنوات طويلة.

هذا المخطّط الذي كان يهدف إلى توسيع الحدود الرسمية لإسرائيل بعد حرب 1967، بدأ بالتراجع بعد حرب تشرين الأوّل/ أكتوبر 1973، وتركّز تطبيقه في مناطق فلسطين التاريخية، حيث نشأت حركات استيطانية متشدّدة مثل “غوش إيمونيم” وقامت إسرائيل بمضاعفة عمليّات الاستيطان وتوسيع المستوطنات. تراجُع المخطّط مقابل فرض عمليّات هدنة وسلام وتطبيع كان الخطوة التي تناسب الجانب الإسرائيلي على الصعيد المرحلي، أي منذ توقيع سوريا لاتّفاقية “فضّ الاشتباك” في الجولان في العام 1974، ثم تمكّن مصر من استرداد سيادتها الكاملة على شبه جزيرة سيناء في العام 1982. وذلك رغم الاجتياح الإسرائيلي للبنان في حزيران/ يونيو 1982، وما نتج عنه من احتلال عسكري مباشر دام 18 عاماً حتى 25 أيّار/ مايو 2000. إلا أن ذلك الاحتلال لم يتحوّل إلى وضعية استيطانية فعلية كما حدث في حالة مرتفعات الجولان.

غير أن هذا المخطّط استعاد راهنيته بالنسبة إلى معسكر أقصى اليمين الصهيوني الذي يحاول نتانياهو استمالته، بعد النجاحات العسكرية التي حقّقها منذ تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023. فمن الواضح أن نتانياهو أصبح يعتبر نفسه قائداً عظيماً للحركة الصهيونية بمنزلة ثيودور هرتزل، وأنه بدأ يؤسّس بالفعل لمرحلة نشوء “إسرائيل الكبرى”، حيث صرّح لقناة “i24NEWS” منذ أيّام، بأنه يحمل “رسالة تاريخية وروحانية”، وبأنه يتّفق مع رؤية “أرض الميعاد”، في مقطعٍسارعت القناة الإسرائيلية إلى حذفه من المقابلة على جميع منصّاتها. تسبّبت تصريحات نتانياهو بموجة استنكار من الدول العربية المعنيّة مباشرة، تبعها بيان إدانة مشتركأصدرته 31 وزارة خارجية عربية وإسلامية.

يمكن في هذا السياق تفسير التوغّل الإسرائيلي التدريجي في الأراضي السورية، منذ عمليّة “سهم باشان” في كانون الأوّل/ ديسمبر 2024، بحجّة إنشاء “منطقة عازلة”، رغم توفّر منطقة عازلة محتلّة أساساً، على أنه تنفيذ عملي، بطيء ولكن ثابت، لمخطّط “إسرائيل الكبرى”، التي لا تشترط حدوث توسّع استيطاني بشري، لكنّها بالتأكيد تفرض التحكّم المباشر بالموارد والثروات الطبيعية، وعلى وجه التحديد الموارد المائية. فلو كان الاستيطان هدفاً مباشراً خلال هذه المرحلة، لما قام الجيش الإسرائيلي باعتقال مستوطنين من مجموعة “رواد باشان” المتطرّفة، بعد أن قاموا باختراق الأراضي السورية، ووضعوا “الحجر الأساس” لأوّل مستوطنة إسرائيلية أطلقوا عليها تسمية “نيفيه هاباشان”.

استغلّت إسرائيل فترة غياب الدولة السورية بعد سقوط نظام الأسد لتبرير توغّلاتها دولياً، ومن المحتمل أن تعاود فعل الشيء نفسه في لبنان، على نطاق أوسع، في لحظة نشوب نزاع داخلي تفقد فيه الدولة اللبنانية توازنها الهشّ أساساً. ومحاولات فرض إسرائيل منع التمديد لقوّات “اليونيفيل”، وتحديد مهلة زمنية معيّنة لإنهاء مهامّها، وهي القوّات الوحيدة التي يمكن أن يمثّل وجودها على الأرض اللبنانية إشكاليّة سياسية، وبالتالي عائقاً أمام أي مخطّط لاجتياح إسرائيلي واسع النطاق لا يحظى بموافقة دولية، هي جانب من هذا السياق.

ليس هناك ما يتعارض مع بقاء قوّات “اليونيفيل” تزامناً مع اكتمال انتشار الجيش اللبناني في مناطق جنوب لبنان. أما السردية الأميركية التي تدعو إلى خفض تكاليف قوّات “اليونيفيل” لأن مهامّها “لم تعد مجدية”، أو بسبب شبهات فساد، فهي باطلة، ولا تنظر بعين الجدّية إلى حجم الاختلال في توازن القوى. بقاء قوّات “اليونيفيل” بالغ الأهمية، لحين تمركز قوّات الجيش اللبناني في جميع أنحاء المناطق الجنوبية، وحصول الجيش على القدر الكافي من السلاح الدفاعي لتشكيل قوّة ردع قادرة على التسبّب بأضرار حقيقية لأي طرف مهاجم، حتى لو لم تكن كافية لمنع الهجمات من تحقيق أهدافها النهائية، حتى تصير معادلة الغزو أكثر تعقيداً وتتزايد كلفتها البشرية والمادّية.


التعليقات