تحليل: الشرعية الهجينة للحوثيين.. كيف يحولون انتصارات وهمية إلى نفوذ إقليمي؟
يمن فيوتشر - Foreign Policy - فاطمة أبو الأسرار- ترجمة خاصة السبت, 17 مايو, 2025 - 01:45 صباحاً
تحليل: الشرعية الهجينة للحوثيين.. كيف يحولون انتصارات وهمية إلى نفوذ إقليمي؟

[ AFP ]

في السادس من مايو/آيار، أدى وقفٌ مفاجئ لإطلاق النار بين الولايات المتحدة والحوثيين –استُثنيت منه إسرائيل– إلى تهدئة مؤقتة في الصراع القائم في البحر الأحمر. كما منح هذا التفاهم الميليشيا انتصارًا دبلوماسيًا نادرًا وغير مستحق. فبعد أشهر من استهداف السفن التجارية واستفزاز قوة عظمى نحو الحرب، خرج الحوثيون -المدعومون من إيران- بما هو أغلى عليهم من كسب الأراضي.
ولم يكن هذا الإنجاز ثمرة جهودهم وحدهم. إذ سبقت ذلك حملة موازية لـ"تبييض السردية"، شنتها وسائل الإعلام الروسية الرسمية، وأيديولوجيون مناهضون للغرب، ومؤثرون انتهازيون، ساهمت في تليين صورة الجماعة. ومهّدت هذه الحملة الطريق أمام واشنطن للتعامل معهم لا كجماعة إرهابية، بل كشركاء محتملين في التفاوض.
وفي مقال نُشر في مارس/آذار على موقع "روسيا اليوم" بعنوان: «لا تصنع لك حوثيًا»، جادل المعلق الروسي (سيرغي ستروكان) بأن الغارات الجوية الأمريكية في اليمن صنعت "صورة عدوٍ مصطنعة" للحوثيين. وقد قدّمهم لا كإرهابيين، بل كقوة سياسية، بحكم الأمر الواقع، تتفاعل مع ديناميكيات إقليمية، وكتب أن الغارات الأمريكية الأخيرة "تحمل كل سمات التدخل".
ورغم أن المقال قُدم كأنه نقد للسياسة الأمريكية، فإنه يعكس نمطًا أوسع: تطبيع الحوثيين عبر أصوات خارجية تنضوي تحت ما يُعرف بالسرديات "المناهِضة للإمبريالية". وما تغفله هذه السرديات هو السلوك الاستبدادي للجماعة في الداخل، ودورها الاستراتيجي بوصفها امتدادًا للنفوذ الإيراني في المنطقة.
وقد تجلت هذه السردية بشكل واضح عندما استضاف الحوثيون مؤتمرًا بارزًا في صنعاء حول القضية الفلسطينية في الشهر ذاته. المؤتمر -الذي عُقد بعد أسبوع من بدء الغارات الجوية اليومية الأمريكية في 15 مارس/آذار- استقطب وفودًا من العراق حتى إيرلندا. وكما هو الحال مع مقال ستروكان، أعاد الحدث تقديم ميليشيا طائفية في ثوب "حركة مقاومة"، تحت راية تحرير فلسطين، في خطاب موجّه لجمهور عالمي يتغاضى عن الجوهر الاستبدادي للجماعة.
وفي استعراض لنطاق الحوثيين الدولي المتنامي، ضمّ المؤتمر شخصيات بارزة من مختلف أنحاء العالم، من بينهم رئيس الوزراء العراقي الأسبق (عادل عبد المهدي)، والسياسي الجنوب أفريقي (زويليفيلي مانديلا - حفيد نيلسون مانديلا)، وعضوا البرلمان الأوروبي السابقان (كلير دالي) و(ميك والاس) من إيرلندا. كما حضر أيضًا (ما شياولين)، الأكاديمي الصيني المرتبط بجامعة الدراسات الدولية في تشجيانغ، والصحفي السابق المقرب من وسائل الإعلام الصينية الرسمية.
لكن الأكثر دلالة ربما كان في قائمة الأصوات المشاركة. فقد اعتلى (كريستوفر هلالي)، الأمين الدولي للحزب الشيوعي الأمريكي المُنشأ حديثًا، المنصة إلى جانب (ستيڤن سويني)، الصحفي البريطاني ومراسل شبكة "روسيا اليوم" الممولة من الكرملين، و(جاكسون هينكل)، المؤثر على وسائل التواصل الاجتماعي وأحد مؤسسي الحزب ذاته. (وعند عودته إلى الولايات المتحدة، تم احتجاز هلالي لمدة ثلاث ساعات من قبل إدارة الجمارك وحماية الحدود الأمريكية، مما عزز من مكانته داخل هذه الدوائر).
وقد كشفت مشاركة هذه الشخصيات في اليمن عن اتساع نفوذ الحوثيين، ليس فقط داخل ما يُعرف بـ"محور المقاومة" المدعوم من إيران، بل أيضًا ضمن ائتلاف أوسع من الأيديولوجيين المناهضين للغرب، الذين يتحركون بتنسيق واضح مع أنظمة سُلطوية. وقد مثّل المؤتمر لمحة عن كيفية قدرة الشبكات الهامشية -المدعومة من الإعلام الرسمي والأدوات الأيديولوجية- على منح الشرعية لحركاتٍ مسلحة على الساحة الدولية.
وليس من قبيل المصادفة أن تنشر "روسيا اليوم" مقالات تبرّئ الحوثيين. فقد تطورت علاقة الجماعة بروسيا مؤخرًا إلى شراكة متعددة الأوجه، يُسهم فيها الحوثيون بفعالية في جهود الحرب الروسية عبر تجنيد مدنيين يمنيين للقتال في أوكرانيا، غالبًا من خلال أساليب خادعة. وتشير تقارير حديثة إلى أن الجماعة لم تكتفِ بالتفاوض مع روسيا، بل فتحت قنوات تواصل أيضًا مع الصين، لتأمين مرور آمن لسفن البلدين عبر البحر الأحمر مقابل دعم سياسي. وفي المقابل، استفاد الحوثيون من مكونات أسلحة مصدرها الصين، ومن معلومات استخباراتية روسيّة عبر الأقمار الصناعية تُستخدم في استهداف الملاحة البحرية، فضلًا عن غطاء دبلوماسي في مجلس الأمن الدولي.
وفي هذا السياق، تكشف الاستراتيجية الإعلامية للحوثيين عن ثلاثة أهداف استراتيجية رئيسية:
1- تبرير هجماتهم على الشحن الدولي بأثر رجعي.
2- صناعة شرعية دولية رغم افتقارهم للاعتراف السيادي.
3- تفكيك المعارضة اليمنية داخليًا من خلال الإيحاء بأن القوى العالمية قد سلّمت فعليًا بالأمر الواقع لحكم الحوثيين.

ويمثل ذلك تكتيكًا كلاسيكيًا من أساليب الحرب الهجينة، يجمع بين العمليات العسكرية والحملات الدعائية لتحقيق أهداف استراتيجية لا يمكن للقوة العسكرية وحدها أن تضمنها. وقد ساهم المشاركون في مؤتمر صنعاء في تعزيز هذه الاستراتيجية المنسقة، من خلال دعم وهم وجود زخم أيديولوجي عالمي لصالح الجماعة.
وقد تضمنت كلمات المؤتمر المسجلة مسبقًا شخصيات رمزية ذات حمولة سياسية عالية، مثل النائب البريطاني السابق (جورج غالاوي)، والفيلسوف الروسي اليميني المتطرف (ألكسندر دوغين)، و(أليدا غيفارا)، ابنة الثائر الأممي (تشي غيفارا)، وقد تم اختيارهم لأهميتهم الرمزية لا لأدوار دبلوماسية مباشرة.
ويعكس هذا الحدث المنسق بعناية ما يميز الحوثيين عن جماعات متطرفة مثل تنظيم القاعدة أو "داعش". ففي حين تتبنى تلك الجماعات أيديولوجية عدائية صارمة تجاه الأجانب، يُقدّم الحوثيون أنفسهم بصورة مختلفة تمامًا، حيث يمكن التواصل معهم، بل وحتى الإعجاب بهم، لا سيما من قِبل الجمهور الغربي. وبوجود إيران في صفهم، لا يُعد الحوثيون مجرد متمردين مسلحين؛ بل هم قوة هجينة بالوكالة، تتمتع بحماية دبلوماسية، وتسليح عسكري، واستثمار استراتيجي طويل الأمد. فعلى عكس الحركات الجهادية التي تُقاد بنقاء عقائدي، يتّسم الحوثيون بالانتهازية السياسية؛ يقبلون الدعم من أي طرف مستعد لتقديمه. وقد أتاحت لهم هذه البراغماتية ليس فقط البقاء، بل التوسع والتمدد أيضًا.
فعلى مرّ السنوات، حظي الحوثيون بسمعة متساهلة على نحوٍ مفاجئ في أوساط بعض الدبلوماسيين الغربيين، ممن قدموا لهم الهدايا، وكتبوا مقالات رأي لتلطيف صورتهم، وتعاملوا معهم بقدر من الاحترام نادرًا ما يُمنح لحركات تمرد. وقد استُخدمت كلير دالي وميك والاس كرموز لتحدي الغرب، وقدما للحوثيين دعمًا سياسيًا مقلقًا خلال المؤتمر. وكانت كلمة والاس على وجه الخصوص مشبعة بخطاب مناهض للغرب، ألقاها بحماسة ثورية مدروسة، إذ اتهم إسرائيل بأنها "لا تفهم سوى لغة العنف"، وصوّر القوى الغربية باعتبارها المهندسة الحقيقية للإرهاب العالمي، وقدم اليمن كطليعة في الكفاح العالمي ضد الإمبريالية.
لكن اللحظة الأبلغ دلالة كانت عندما أعلن والاس أن "المستقبل اليوم بات للصين"، مشيدًا بما وصفه بضبط النفس لدى بكين، بادعائه أنها "لم تُلقِ قنبلة واحدة منذ خمسين عامًا". وهو تصريح لم يكتفِ بتلميع صورة السلطة الاستبدادية، بل تجاهل بشكل مريح الانتهاكات الموثقة لحقوق الإنسان في الصين: من الاعتقال الجماعي للإيغور في شينجيانغ، إلى قمع الحريات في هونغ كونغ، وتصاعد العدوان العسكري في بحر الصين الجنوبي.

وقد نجح الحوثيون مرارًا في استغلال السرديات الدولية لصالحهم، بدءًا من اتفاق ستوكهولم الذي جمد ديناميكيات المعارك بما يخدمهم، وصولًا إلى جهود الضغط لتقديمهم كحركة مقاومة محلية ضد السعودية، وليس كميليشيا سلطوية. ومن منظور استراتيجي، سعى مؤتمر صنعاء إلى سد الفراغ الذي خلّفته وكالات الأمم المتحدة بعد انسحابها من مناطق الحوثيين بسبب تصاعد العدوانية وانعدام القدرة على التنبؤ بتصرفات الجماعة.
وقد سبق لوكالات الأمم المتحدة أن التقت بقيادة الحوثيين وساهمت عن غير قصد في إضفاء شرعية على ادعائهم بالسيادة، سواء من خلال مبادرات دبلوماسية فاشلة عززت موقفهم، أو من خلال الظهور الإعلامي في أوقات تزامنت مع اعتداءات الحوثيين ونهب المساعدات الغذائية.
ولا شك أن معاناة الفلسطينيين في سياق حرب إسرائيل-حماس -وهي مركزية في خطاب الحوثيين التبريري- تُثير قلقًا حقيقيًا لدى الكثيرين في المنطقة وخارجها. إلا أن الحوثيين، في ضوء سجلهم القمعي داخليًا وعدوانهم الإقليمي، لا يملكون المصداقية الكافية ليتقمصوا دور المدافعين الشرعيين عن هذه القضية. وتبرز هذه المفارقة بشكلٍ صارخ عند النظر إلى الواقع على الأرض: ففي الوقت الذي يُشيد فيه والاس بما يصفه التزامهم بالقانون الدولي، يواصل الحوثيون اعتقال وتعذيب وإخفاء الأقليات، بمن فيهم البهائيون، والصحفيون، والمعارضون السياسيون. كما احتجزوا موظفين من الأمم المتحدة بتهم تجسس ملفقة، ما أجبر المنظمة الدولية على وقف عملياتها في مناطق سيطرتهم منذ فبراير/شباط الماضي.

وتركيز إدارة ترامب الضيق على إضعاف قدرات الحوثيين الهجومية في البحر الأحمر يعكس نهجًا تكتيكيًا لمعالجة مشكلة استراتيجية أعمق، لكنه لا يتصدى للبنية الأوسع التي تمكّن الحوثيين من إسقاط نفوذهم خارج حدودهم. فإذا تُركت دون معالجة، فإن حملة الحوثيين لنيل الشرعية تهدد بترسيخ موقعهم كذراع دائمة لقدرات إيران التوسعية في شبه الجزيرة العربية. وهذا التحول من شأنه أن يعيد رسم موازين القوى في المنطقة بشكل جذري، ويقوض الشراكات الأمنية الأمريكية في الخليج، ويوسع العمق الاستراتيجي لإيران، وهو ما يثير القلق بشكلٍ خاص في ظل استمرار طهران في تطوير طموحاتها النووية.
وربما الأخطر على المدى البعيد هو برنامج غرس العقيدة الذي تمضي به الجماعة في المناطق الواقعة تحت سيطرتها، عبر حملة تهدف إلى خلق قاعدة شعبية أيديولوجيًا من خلال استغلال القضايا الإسلامية الجامعة مثل قضية فلسطين.
ومن الصائب أن يركّز صانعو السياسات في واشنطن على العنف الخارجي للحوثيين، إلا أن عليهم أيضًا توسيع نطاق المواجهة الدعائية، وذلك عبر استهداف الشبكات التي تروّج لرسائل الحوثيين، بما في ذلك رصد وكشف السلوك المنسّق وغير الأصيل عبر مختلف المنصات. كما ينبغي أن تتضمن الجهود الدبلوماسية مع الحلفاء التقليديين في المنطقة إبراز التناقض بين الرسائل الدولية التي يبثها الحوثيون وسلوكهم القمعي داخليًا.
أما العقوبات، فيجب أن تشمل بشكل محدد الأفراد الذين يسهلون انفتاح الحوثيين الخارجي، لا أن تقتصر فقط على قياداتهم العسكرية. وأخيرًا، يتوجب على الولايات المتحدة الاستثمار في تمكين الأصوات اليمنية الحقيقية التي تستطيع تقديم روايات بديلة ذات مصداقية في مواجهة سرديات الحوثيين.
ورغم تصريح الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب)، عقب إعلان وقف إطلاق النار، بأن الحوثيين قد "رضخوا"، سارعت قيادات حوثية عليا إلى إعادة تأطير هذا التوقف بوصفه مؤشرًا على براغماتية القوة الأمريكية التي أدركت تكلفة التصعيد المستمر. إلا أن زعيم الجماعة (عبدالملك الحوثي)، سارع إلى نسف هذه الرواية الملطّفة، واصفًا الحدث بأنه "نصر حوثي"، قائلًا: "الموقف الأمريكي لم يكن، كما زعم المجرم الكافر ترامب، نتيجة مناشدة أو استسلام من اليمن."
ولا يزال الحوثيون طرفًا عدائيًا فاعلًا ضمن المواجهة متعددة المجالات التي تخوضها إيران ضد النفوذ الأمريكي، وهي مواجهة تُسخّر في آنٍ واحد طرق الملاحة، والسرديات الإعلامية، والفاعلين السياسيين في الغرب. وبينما تركز العمليات البحرية الأمريكية على أعراض تكتيكية، تستمر العدوى الاستراتيجية الأعمق في الانتشار دون رادع. أما النموذج الذي يتشكل هنا، فيتجاوز البحر الأحمر، إذ يُظهر لأي طرف يطمح إلى زعزعة النظام العالمي، مدى فاعلية استقطاب الأصوات الغربية لإضفاء شرعية على أفعال كان من الممكن أن تُدان عالميًا لولا هذا الغطاء الدعائي.

الرابط ادناه لقراءة المادة من موقعها الأصلي: 

 


التعليقات