رغم مرور أكثر من عقد على إدماج مفهوم العدالة الانتقالية في الخطاب اليمني، سواء من خلال مخرجات مؤتمر الحوار الوطني أو ضمن المبادرات الأممية، لا تزال فئة المهمشين – أو من يُعرفون تاريخيًا بـ"الأخدام" – غائبة عن أي مسار حقيقي للإنصاف وجبر الضرر.
هذه الجماعة، التي عانت من تمييز طبقي واجتماعي متجذر منذ قرون، تجد نفسها اليوم أمام مأساة مضاعفة؛ فالحرب زادت من هشاشتها، والمجتمع والدولة استمرّا في التعامل معها بلا اكتراث، وكأنها ليست جزءًا من النسيج اليمني.
وفي حين يفترض أن تكون العدالة الانتقالية بوابة لتصحيح مظالم الماضي، فإن تطبيقها على الأرض حتى اللحظة يبدو حكرًا على القوى المتصارعة، لا على الفئات التي دفعت ثمن الصراع والتهميش طويلًا دون أن تملك سلطة أو صوتًا.
•إرث التمييز العابر للعصور
التمييز ضد المهمشين في اليمن ليس طارئًا، بل هو نتيجة تراكم تاريخي يبدأ من ما بعد سقوط الدولة النجاحية (التي دامت 146 عامًا في القرن الثاني عشر بين عامي 1012 و1158 ميلادية)، حين ساد نظام طبقي متصلب في ظل تحالف الفُرس وذي يزن، ثم تعزز في فترات لاحقة، خاصة مع صعود علي بن المهدي. تم تصنيف فئات اجتماعية بأكملها كـ"خدم بالفطرة"، محرومة من التملك والتمثيل السياسي والاجتماعي، واستمر هذا التصنيف يتغلغل في بنية المجتمع والدين والإدارة حتى يومنا هذا.
بالنسبة للناشطة الحقوقية سمية عبد الله، فإن المشكلة تتجاوز الفقر إلى ما هو أعمق، "نحن لا نُعامل كبشر متساوين، التعليم والعمل والمساعدات وحتى الزواج، كلها مساحات مغلقة أمامنا."
ويرى فوزي الحبشي، وهو ناشط من داخل الفئة نفسها، أن التهميش ليس شعورًا، إنما سياسة مكتوبة في سلوك الدولة والمجتمع، تجعل منهم مواطنين بلا مرتبة، أو كما يقول: "كأننا لا نحمل هوية، ولا نستحق مساحة من هذا الوطن."
أما علي عبده، شاب من محافظة إب، فيروي كيف شكّل هذا الواقع وجدانه، "كبرت وأنا أُنادى بـ‘خادم’، في المدرسة والشارع. ومع الوقت، بدأت أُصدق أننا فعلًا لا نستحق شيئًا. واليوم، أقاوم كل يوم لأثبت أنني إنسان مثل غيري."
•عندما يصبح القاع أعمق
لم تكتفِ الحرب بتوسيع دائرة التهميش، بل دفعت المهمشين إلى هوامش أشد قسوة. منذ 2015، وجد كثيرون منهم أنفسهم مهددين بالتهجير أو مجبرين على أداء أدوار لوجستية في خطوط المواجهة، دون حماية قانونية أو حتى اعتراف بأوضاعهم. وظلوا، على صعيد آخر، خارج منظومة المساعدات الإنسانية، إما بسبب غياب تمثيلهم المحلي، أو نتيجة النظرة العنصرية التي لا تزال تحكم التعامل معهم.
يحكي عبدالسلام ناصر عن تجربة شخصية مريرة حين تقدم لوظيفة بسيطة في مؤسسة خيرية، فقوبل برد صادم، "نحن لا نقبل من الأخدام."
بالنسبة له، كانت تلك اللحظة أكثر من مجرد رفض؛ كانت إعلانًا عن أن الحرب لم تُسقط فقط نظامًا سياسيًا، بل جرّدتهم مما تبقى من كرامتهم.
أما أم خالد، وهي نازحة تسكن خيمة في أطراف عدن، فتصف واقعًا أكثر قسوة، "ثلاث سنوات من النزوح بلا تعليم ولا مساعدات، ووعد يتكرر ولا يتحقق."
تقول بمرارة: "يعدوننا كل مرة، ثم نُنسى. كأننا غير مرئيين، كأننا لسنا يمنيين."
•عدالة مقيدة.. لا تشمل الجميع
رغم أن مؤتمر الحوار الوطني في 2013 أشار إلى أهمية العدالة الانتقالية، إلا أن استمرار الحرب وغياب الإرادة السياسية عطّلا تنفيذ تلك الرؤية. والأسوأ من ذلك، أن المسودة المقترحة للدستور لم تتضمن أي نصوص واضحة تعالج التمييز ضد المهمشين، ما عزز مخاوف الفئة من تكرار الإقصاء ضمن عملية بناء السلام.
دراسة صادرة عن مركز صنعاء للدراسات (مارس/آذار 2024) أظهرت أن الفئات الأكثر تضررًا من النزاع، وفي مقدمتها المهمشون، لم تتح لها الفرصة لتوثيق معاناتها، ولا للمشاركة في صياغة السياسات المتعلقة بجبر الضرر، أو في لجان الحقيقة والمصالحة. ومن دون هذه المشاركة، يبدو السلام المأمول مفرغًا من جوهره، قائمًا على تفاهمات بين أطراف النزاع، لا على اعتراف صادق بضحايا الظلم التاريخي.
يعبّر الناشط جميل الحوشبي عن هذا الإقصاء المتكرر، أن كل حديث عن تسوية سياسية يبدو كأنه لا يشملهم، وأن صوت المهمشين لا يُسمع إلا كضجيج عابر في الهامش.
•التمثيل المغيَّب.. والتاريخ يعيد نفسه
التمثيل السياسي والمدني للمهمشين لا يزال شبه معدوم. لم يشارك أبناء هذه الفئة في أي من لجان الحقيقة أو برامج إعادة الإعمار، كما أن حضورهم في منظمات المجتمع المدني لا يكاد يذكر.
تقرير لمنظمة "مواطنة لحقوق الإنسان" (2021) أشار بوضوح إلى أن المهمشين يُستبعدون بشكل شبه ممنهج من مشاورات العدالة الانتقالية، ما يجعل استبعادهم من المستقبل مجرد امتداد لما تعرضوا له في الماضي.
الناشط الحقوقي سامي غلاب يرى في ذلك إقصاءً متعمدًا، مؤكدًا أن المهمشين لا يطالبون بالشفقة، بل بحقهم الكامل في أن يكونوا ممثلين على طاولات الحوار، وفي آليات صنع القرار.
وتؤكد عائشة صالح أن غيابهم عن لجان العدالة يعني ببساطة أن من همّشهم بالأمس هم أنفسهم من يرسمون ملامح مستقبل لا يملكون فيه شيئًا.
•من الاعتراف تبدأ الطريق
وبينما تدير بعض المبادرات الحقوقية حديثًا خجولًا عن ضرورة شمول العدالة الانتقالية لجميع الفئات، فإن أبناء الفئة المهمشة بدأوا بأنفسهم في بلورة رؤية أكثر وضوحًا، تستند أولًا إلى الاعتراف الدستوري بكونهم ضحايا تمييز تاريخي، ثم تمر عبر إشراكهم الفعلي في لجان الحقيقة وجبر الضرر، وصولًا إلى إصلاحات قانونية وبنيوية تعالج أسباب التمييز وتضع حدًا لاستمراره.
يرى فوزي الحبشي أن العدالة لا يمكن أن تتحقق دون توثيق الانتهاكات التي تعرضت لها الفئة خلال الحرب، عبر هيئات مستقلة، وتخصيص برامج تنموية واقتصادية فعلية في مناطقهم. كما يؤكد على ضرورة تعديل القوانين، خاصة تلك التي تقصيهم في مجالات التعليم والعمل.
وتقول الناشطة رنا محمد إنهم لا يريدون مقاعد رمزية أو ظهورًا إعلاميًا عابرًا، بل شراكة حقيقية، كمواطنين كاملي المواطنة، في بناء وطن جديد لا يقوم على التوريث الطبقي ولا على التمييز المغلَّف بالتراتبية الاجتماعية.
...
ستظل العدالة الانتقالية في اليمن ناقصة، بل فاقدة لمشروعيتها الأخلاقية، إن لم تشمل الفئات التي طال تهميشها لعقود، وتضاعفت معاناتها بفعل الحرب.
ولا يطلب المهمشون صدقات أو إشادة رمزية، إنما اعترافًا جادًا، فرصًا متكافئة، ومكانًا حقيقيًا في الحاضر والمستقبل.
ومعيار العدالة ليس ما يُقدَّم للأقوياء، لكن ما يُنتزع للمنسيين.. وإن كان للعدالة الانتقالية في اليمن أن تُثمر، فلابد لها أن تبدأ من القاع.