تحليل: نهج ترامب المفاجئ تجاه إسرائيل
يمن فيوتشر - VOX- ترجمة خاصة الجمعة, 16 مايو, 2025 - 02:28 صباحاً
تحليل: نهج ترامب المفاجئ تجاه إسرائيل

ما النقيض من "العناق السياسي الدافئ"؟
كان هذا هو الوصف الشائع لنهج الرئيس (جو بايدن) تجاه إسرائيل منذ هجمات 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، دعمٌ علني وحماسي لإسرائيل، لا سيما في ما يتعلّق بصراعها الإقليمي الأوسع مع إيران ووكلائها، مقابل محاولات هادئة لكبح جماح العمليات الإسرائيلية في غزة.
أما الآن، قام الرئيس (دونالد ترامب) بجولة هذا الأسبوع في الشرق الأوسط تشمل عدة دول وصفقات كبرى، لكنها -وبشكل لافت- لا تتضمن محطة في إسرائيل. (وقد نفى ترامب تجاهله لإسرائيل، قائلاً إن رحلته "جيدة جداً لإسرائيل").
و تمثل هذه الزيارة مثالاً جديداً على الكيفية التي يبدو فيها نهج ترامب تجاه إسرائيل بمثابة صورة معكوسة لنهج سلفه: فهو لا يُبدي اهتماماً يُذكر بكبح أو الضغط على إسرائيل فيما يتعلق بحربها في غزة، لكنه يُظهر اهتماماً أقل حتى بدعم إسرائيل في قضايا المنطقة الأوسع، أو بتنسيق المواقف الإقليمية بين البلدين.
و لا تزال هذه الإدارة تُعلن بحماسة موقفًا "مؤيدًا لإسرائيل" من حيث الخطاب واستعدادها لمعاقبة منتقدي إسرائيل داخل الولايات المتحدة.
لكن عمليًا، وفيما يخص سياسته الخارجية، يبدو أن ترامب غير مكترث على نحو لافت بما تقوله إسرائيل حيال ذلك.
وقال (نِمرود نوفيك)، المستشار السابق للسياسة الخارجية لرئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل (شمعون بيريز) :
"الرسالة الوحيدة الثابتة من ترامب هي: لديّ خطط للمنطقة، وأنتم مُرحّب بكم كشركاء، لكن إن فضلتم أن يتم تجاهلكم، فالأمر عائد إليكم."


هذا ليس ترامب الذي كانت إسرائيل تتوقّعه
عندما أُعيد انتخاب دونالد ترامب في نوڤمبر/ تشرين الثاني الماضي، جاءت ردود الفعل من الحكومة الإسرائيلية أقرب إلى الابتهاج. فقد أشاد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي اتسمت علاقته بإدارة بايدن بالتوتر في كثير من الأحيان، بـ"أعظم عودة في التاريخ"، وتوقّع أن يُشكّل فوز ترامب "تجديدًا قويًا للتحالف الكبير بين إسرائيل وأميركا".
ولا يصعب فهم سبب تفاؤل نتنياهو؛ فخلال ولايته الأولى، اتخذ ترامب، الذي كثيرًا ما وصف نفسه بأنه "أكثر الرؤساء دعمًا لإسرائيل في التاريخ"، خطوات غير مسبوقة لتأكيد ذلك الدعم، من أبرزها نقل السفارة الأميركية إلى القدس -التي لا يعترف معظم المجتمع الدولي بها عاصمةً لإسرائيل- والاعتراف بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان المتنازع عليها.
كما شهدت ولايته الأولى توقيع "اتفاقيات أبراهام" -وهي سلسلة من اتفاقيات التطبيع بين إسرائيل وعدد من الدول العربية بوساطة أميركية- إضافةً إلى انسحابه من الاتفاق النووي مع إيران الذي أبرمه الرئيس السابق باراك أوباما، والذي طالما رفضته حكومة نتنياهو.
و حتى بمعايير العلاقات الأميركية-الإسرائيلية، تميّز نهج ترامب بدعمٍ غير مشروط لإسرائيل.
وكانت المؤشرات المبكرة تدلّ على أن ولايته الثانية ستسير على نفس النهج. فقد اختار ترامب مايك هاكابي، المؤيد المتشدد لإسرائيل من التيار المسيحي الصهيوني، سفيرًا له لدى تل أبيب، وهو شخصية تُعدّ يمينيةً متطرفة حتى في السياق السياسي الإسرائيلي.
ومن أبرز مبادراته الداخلية حتى الآن حملة قمع واسعة استهدفت الجامعات والنشطاء على خلفية احتجاجات مناوئة لإسرائيل العام الماضي.
أما إدارته، فقد تجنبت الخوض في أي مراجعات داخلية كما فعلت إدارة بايدن بشأن مقتل المدنيين الفلسطينيين في غزة؛ إذ سارع ترامب إلى رفع القيود المحدودة على صادرات الأسلحة إلى إسرائيل، والعقوبات على المستوطنين العنيفين في الضفة الغربية التي كانت قد فرضتها إدارة بايدن.
وقد استقبل اليمين الإسرائيلي المتطرف بحماس بالغ اقتراح ترامب بأن يتم "تطهير غزة" من سكانها الفلسطينيين لإفساح المجال أمام مشروع منتجع سياحي.

لكن عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط ككل، فالصورة مختلفة تمامًا.
و يبدو أن ترامب غير مهتم إطلاقًا بإظهار أي توافق في الرؤية مع إسرائيل بشأن مقاربته للمنطقة، وقد تفاوض مرارًا وبشكل مباشر مع خصوم إسرائيل الرئيسيين، مستبعدًا إسرائيل بالكامل من هذه المحادثات.
ففي مطلع مارس/ آذار، أفاد موقع Axios أن مبعوث ترامب لشؤون الرهائن، آدم بويلر، أجرى مفاوضات مع حركة حماس بشأن إطلاق سراح رهائن أميركيين، دون تنسيق مع إسرائيل، وكاسرًا بذلك تقليدًا أميركيًا طويلًا يقضي بتجنّب أي محادثات مباشرة مع الجماعة المصنفة إرهابية.
و أثار هذا الخبر عاصفة من الجدل، وتمت إزاحة بويلر من مهمة التفاوض، لكن هذا الأسبوع فقط، وافقت حماس على إطلاق سراح آخر رهينة أميركي على قيد الحياة، وهو إيدان ألكسندر. وتشير التقارير إلى أن هذه المفاوضات، التي قادها مبعوث ترامب المتعدد المهام للشؤون الخارجية، ستيڤ ويتكوف، جاءت بعد تواصل حماس عبر مجموعة تُدعى "العرب الأميركيون من أجل ترامب".

وقد علمت إسرائيل بأمر هذه المحادثات ليس من البيت الأبيض، بل من خلال أجهزتها الاستخبارية.
ولم تكن تلك المفاجأة الوحيدة التي تلقاها نتنياهو مؤخرًا. ففي اجتماع بالبيت الأبيض الشهر الماضي، فاجأه ترامب بإعلان مفاجئ عن إرسال ويتكوف ومجموعة من المفاوضين لبدء محادثات مباشرة مع إيران بشأن برنامجها النووي.
و نتنياهو، الذي لم يعلم بهذه الخطوة إلا بعد وصوله إلى واشنطن، كان قد ضغط على الإدارة الأميركية للإصرار على تفكيك كامل للبرنامج النووي الإيراني.
لكنّ مسؤولين أميركيين، من بينهم وزير الخارجية ونائب الرئيس، ألمحوا إلى أنهم منفتحون على السماح لإيران بالاحتفاظ ببرنامج نووي مدني محدود، وهو ما قد يُشكّل عودة إلى الإطار نفسه الذي سبق أن مزّقه ترامب عام 2018.

ورغم أن إسرائيل رحّبت بقرار ترامب في مارس/ آذار لتصعيد الحملة الجوية الأميركية ضد الحوثيين -الجماعة المسلحة اليمنية التي أطلقت صواريخ وطائرات مُسيّرة على إسرائيل وعلى السفن المارة عبر البحر الأحمر منذ بداية حرب غزة- إلا أن ترامب أعلن فجأة إنهاء القصف في وقتٍ سابق من هذا الشهر.
وقال إنه تلقّى ضمانات من الحوثيين بعدم استهداف السفن الأميركية. (ويُرجَّح أن معدل استنزاف الحملة للموارد المالية والذخائر الأميركية لعب دورًا في القرار أيضًا).
و لم يتضمن إعلان ترامب أي إشارة إلى إسرائيل، على الرغم من أن الحوثيين كانوا قد استهدفوا مطار تل أبيب قبل أيام فقط.
و كانت الرسالة واضحة: على إسرائيل أن تتعامل مع الحوثيين بنفسها.
وبوجه عام، خاضت إدارة ترامب محادثات مباشرة مع ثلاثة من أبرز خصوم إسرائيل -حماس، إيران، والحوثيين- لعقد صفقات بمعزل تام عن إسرائيل، في سابقة نادرة حسبما يقول المراقبون المخضرمون للعلاقات بين البلدين.
وقال آرون ديڤيد ميلر، المفاوض الأميركي السابق في ملفات السلام بالشرق الأوسط والذي خدم في عدة إدارات أميركية:
"لا أعتقد أن هناك إدارة، ديمقراطية أو جمهورية، اقتربت حتى من مستوى التواصل المستقل الذي نفذته إدارة ترامب خلال الأشهر الثلاثة الماضية."

 

ما الذي يفسّر الفتور الجديد في العلاقة الأميركية-الإسرائيلية؟
أحد التفسيرات المحتملة هو أن ترامب بدأ يشعر بالضيق المتزايد من نتنياهو.
فإذا كان هناك خط ثابت في رؤية ترامب للعالم، فهو الشك في الحلفاء الذين، من وجهة نظره، يأخذون من أميركا أكثر مما يقدمون لها.
وخلال لقائه الأخير بنتنياهو في المكتب البيضاوي، تجاهل ترامب مقترحًا برفع الرسوم الجمركية عن إسرائيل، وقال:
"نحن نعطي إسرائيل 4 مليارات دولار سنويًا. هذا مبلغ كبير."
وقد بدأ بعض منتقدي ترامب في الولايات المتحدة يمتدحونه على نهجه تجاه العلاقة مع إسرائيل.
فقد أشاد الكاتب في نيويورك تايمز توماس فريدمان بالرئيس، معتبرًا أنه أدرك أن "نتنياهو ليس صديقًا لنا"،
فيما قال مات دوس، المستشار السابق للسياسة الخارجية للسيناتور بيرني ساندرز، إن ترامب "أدار العلاقة مع نتنياهو بفعالية أكبر من خبير السياسة الخارجية المفترض جو بايدن."
ومع ذلك، لا يبدو أن نتنياهو هو العامل الوحيد في هذا التحول.
فقد شهدت الولاية الثانية لترامب تصاعد نفوذ ما يُعرف بجناح "المقيّدين" في السياسة الخارجية داخل الحزب الجمهوري — وهو تيار يسعى إلى تقليص الوجود العسكري الأميركي في الخارج، لا سيما في الشرق الأوسط، على حساب تيار "الصقور" التقليدي الداعي للتوسع والتدخل.
و رغم أن تيار "المقيّدين" لا يتبنى موقفًا معاديًا لإسرائيل بشكل شامل -وإن كان بعض حلفاء ترامب من خارج الدائرة الرسمية، مثل تاكر كارلسون، قد يُصنّفون كذلك- إلا أن هذا التيار أقل اقتناعًا بتطابق المصالح الأميركية والإسرائيلية.
فعلى سبيل المثال، صرّح نائب الرئيس جي دي ڤانس بأنه، رغم إقراره بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، لا يعتقد أن على الولايات المتحدة الانجرار إلى حرب مع إيران.
و خطاب ترامب الذي ألقاه في السعودية يوم الثلاثاء، والذي تضمّن انتقاداتٍ لاذعة لما سماهم بـ"المحافظين الجدد" و"مهندسي بناء الدول"، قد يكون مؤشرًا واضحًا على أي جناح داخل الإدارة بدأ يفرض رؤيته.
ووفقًا لتقارير واشنطن بوست، فقد أُقيل مايك والتز، مستشار الأمن القومي السابق وأحد أكثر مستشاري ترامب تشددًا، في مطلع مايو/ آيار، جزئيًا بسبب غضب ترامب من تواصله مع الحكومة الإسرائيلية حول خيار استخدام القوة العسكرية ضد إيران.
لكن أيضًا، الشرق الأوسط لم يعد كما كان في ولاية ترامب الأولى. فإسرائيل ليست الحليف الأميركي الوحيد الذي تم تجاهله في هذه الجولة؛
ففي السابق، كان من المتوقع أن تشمل أي زيارة رئاسية للمنطقة محطات في مصر أو الأردن، لكن ترامب اختار التوجه مباشرة إلى الخليج ، حيث تنتظره صفقات سلاح بمليارات الدولارات، 

واتفاقيات في مجال رقائق الحواسيب المتقدمة، ناهيك عن منتجعات الغولف وحتى طائرات فاخرة من طراز 747 كـ"هدايا".
و في ولايته الأولى، كانت السعودية والإمارات متناغمتين إلى حد كبير مع الولايات المتحدة وإسرائيل في ما يخص قضايا الأمن الإقليمي، خصوصًا في مواجهة الخطر الإيراني المزعوم.
وقد شكّل هذا المناخ الإقليمي آنذاك الأرضية التي أُنجزت عليها اتفاقات أبراهام، والتي تضمنت اعتراف الإمارات الرسمي بإسرائيل.

و هذه المرة، عندما يجتمع ترامب مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وولي عهد الإمارات محمد بن زايد آل نهيان، من المرجّح أن يسمع رواية مختلفة تمامًا.
فالسعوديون والإيرانيون قد توصّلوا إلى تفاهم لخفض التوتر، وكل من الرياض وأبوظبي تسعيان للابتعاد عن النزاع الطويل والدموي مع الحوثيين في اليمن.
و كلا البلدين يدعمان الآن صفقة مع إيران من شأنها تجنّب الحرب، ويدعمان أيضًا إنهاء الحملة العسكرية الأميركية ضد الحوثيين.
إلى جانب ذلك، تزداد حالة الإحباط في الخليج من الحرب الإسرائيلية في غزة، والغضب الشعبي العارم الذي أثارته في أنحاء المنطقة، بما في ذلك داخل مجتمعاتهم المحلية.
فالمشاهد القادمة من غزة جعلت من الظهور بمظهر المتحالف مع إسرائيل كلفةً سياسية متصاعدة.
حيث قال نمرود نوفيك، الزميل في منتدى السياسات الإسرائيلية، متحدثًا عن قادة السعودية والإمارات:
"كل من محمد بن سلمان ومحمد بن زايد يحظيان باحترام ترامب. إنه يستمع إليهما. وهما مقتنعان بأن ما يجري في غزة لا يبقى في غزة؛ بل يزعزع استقرار المنطقة، وهذا يعتبر سيء للأعمال."
و كل المؤشرات تدل على أن ترامب بات في هذه المرحلة أكثر اهتمامًا بما يسميه "روائع الرياض وأبوظبي المتلألئة" من اهتمامه بأزقة القدس المتعرجة.
و هناك دليل واضح على هذا التغيير، فإدارة ترامب الأولى وإدارة بايدن قامتا بالسعي إلى صفقة إقليمية كبرى تربط التعاون الأميركي النووي أو الأمني مع السعودية، باعتراف الأخيرة بإسرائيل.
ورغم أن ترامب لا يزال يدعو السعوديين -الذين لم يعترفوا قط بالدولة العبرية- إلى تطبيع العلاقات،
فقد أفادت تقارير بأن فريقه تخلّى عن هذا الشرط كمتطلب للتعاون النووي الأميركي-السعودي.
وإن تحقق ذلك، فسيُعدّ بمثابة تخلٍّ فعلي عن "الجوهرة التاجية" لاتفاقات أبراهام.


موقف متراخٍ تجاه غزة
كل ما سبق يُشكّل تحولًا دراماتيكيًا، لكنه بالتأكيد ليس التغيير الذي كان يأمله منتقدو دعم بايدن لإسرائيل.
فقد استبعد ترامب الإسرائيليين من الدبلوماسية الإقليمية تمامًا، في الوقت الذي تدرس فيه إسرائيل خطة لـ"تصعيد مكثف" لعملياتها العسكرية في غزة، وهي خطة قد تشمل تدمير ما تبقّى من مباني القطاع، وإجبار المدنيين على الاختيار بين الانتقال إلى "منطقة إنسانية" صغيرة جدًا أو مغادرة القطاع، رغم أن من غير الواضح ما إذا كانت هناك دول مستعدة لاستقبالهم في حال غادروا.
ولم يصدر عن ترامب أو كبار مسؤوليه أي تصريح علني بشأن هذه الخطة، وبحسب تقرير لموقع Axios، فقد أعطوا فعليًا رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ضوءًا أخضرًا للمضي قدمًا كما يشاء.
وتقول مصادر إسرائيلية إن العملية ستبدأ في حال لم يتم التوصّل إلى وقف لإطلاق النار أو صفقة تبادل رهائن بحلول نهاية زيارة ترامب للمنطقة هذا الأسبوع، رغم أن المؤشرات تشير إلى أن ترامب لا يبذل جهدًا حقيقيًا لتحقيق ذلك.
ومن غير المرجّح أن يستخدم ترامب وسائل الضغط التي رفض بايدن استخدامها، مثل ربط المساعدات العسكرية بشروط أو مخاطبة الشعب الإسرائيلي مباشرة بشأن الحرب.
صحيح أن ترامب سبق أن غيّر مواقفه بشكل جذري في الماضي،
لكن في الوقت الراهن، فإن بروده الظاهري تجاه إسرائيل لا يبدو أكثر فاعلية في وقف الكارثة المتواصلة في غزة من عناق بايدن الحار لها.


التعليقات