كنا نعلم سلفاً أن حملة القصف التي شنّها (دونالد ترامب) على اليمن كانت غير دستورية. لكن ما تبيّن الآن هو أنها كانت أيضًا عديمة الجدوى تمامًا.
ففي وقتٍ سابق من هذا الأسبوع، أعلن ترامب وقيادة الحوثيين في اليمن عن اتفاقٍ مفاجئ لوقف إطلاق النار، أثار دهشة الكثيرين، حيث صرّح الرئيس الأمريكي بأن الحوثيين "لم يعودوا يرغبون في القتال" وأنهم قد "استسلموا". وبعد شهرين من القصف الأمريكي العشوائي في كثير من الأحيان، قال ترامب للصحفيين إن الحوثيين أبلغوه بأنهم "لن يفجّروا السفن بعد الآن، وهذا كان هدف تدخلنا"، لذا فإن الولايات المتحدة "ستلتزم بذلك".
وقد اعتُبر هذا الاتفاق من الأنباء النادرة الجيدة على صعيد السياسة الخارجية، سواء بالنسبة للأمريكيين الذين أنهكتهم الحروب التي لا تنتهي في الشرق الأوسط وسواه، أو بالنسبة للمدنيين الأبرياء في اليمن الذين قُتل العشرات منهم خلال الشهرين الماضيين بسبب القصف الأمريكي. لكن، عند التمعّن في الأمر، يتضح أن إعلان ترامب عن وقف إطلاق النار لا يبدو إنجازًا دبلوماسيًا كبيرًا بقدر ما يشبه مشهدًا من مسلسل عائلة سيمبسون، حيث يختتم جورج بوش الأب مذكّراته بالقول: "بما أنني أنجزت جميع أهدافي خلال ولاية واحدة، لم تكن هناك حاجة لولاية ثانية."
ولكن، ما يغيب عن هذا الاتفاق هو أي تعهّد من الحوثيين بوقف الهجمات على السفن الإسرائيلية، وهو تفصيل جوهري، لأنه كان السبب الرئيس وراء بدء ترامب قصف اليمن من الأساس.
كما أوضحتُ في مارس/ آذار الماضي، فإن الحوثيين لم يبدؤوا بمهاجمة السفن الأمريكية إلا بعد أن بدأت إدارة ترامب قصف اليمن. وقد كان الهدف من ذلك القصف محاولة ردع الحوثيين عن مهاجمة السفن الإسرائيلية. (وجدير بالذكر أن تلك الهجمات على السفن الإسرائيلية جاءت ردًا على استئناف الحكومة الإسرائيلية لسياستها في تجويع وقتل سكان غزة، علمًا بأن الحوثيين لم يشنّوا أي هجماتٍ خلال فترة سريان وقف إطلاق النار الذي رعته إدارة ترامب في غزة).
و اليوم، نجد أنفسنا أمام النتيجة ذاتها التي كنا سنصل إليها لو أن ترامب لم يبدأ القصف أصلًا. وبعبارة أخرى، فإن كل ما فعله ترامب هو أنه أخرج نفسه وبلاده من مأزق هو من صنعه، دون أن يحقق الهدف الأساسي من ذلك التدخل: وقف الهجمات الحوثية على إسرائيل.
وفي اللحظة التي تقرأ فيها هذا الكلام، لا يزال الحوثيون يهاجمون أهدافًا إسرائيلية بانتظام، بل إن وتيرة الهجمات تصاعدت أثناء حملة ترامب العسكرية، وتوسّعت لتتجاوز السفن وتصل إلى أراضي إسرائيل نفسها. وإذا كان ثمة نتيجة واضحة، هي أن إسرائيل باتت الآن أكثر عرضة للخطر. فالحوثيون، رغم كونهم قوة عسكرية فقيرة ومحدودة التكنولوجيا، نجحوا في اختراق منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلية مرارًا، ما كشف أمام الملأ مدى هشاشة إسرائيل في حال نشوب حرب شاملة مع خصم يمتلك قدراتٍ عسكرية مكافئة لها.
و قد كانت هذه المغامرة مكلفة للغاية أيضًا بالنسبة للولايات المتحدة. فحملة القصف، رغم أنها أودت بحياة عدد كبير من المدنيين اليمنيين، إلا أن الشعب اليمني أظهر خلال العقد الماضي قدرة استثنائية على تحمّل المعاناة الإنسانية، مهما بلغت قسوتها. أما على الجانب الأمريكي، فرغم انخفاض عدد الضحايا، فقد كانت التكلفة المالية باهظة للغاية، إذ تم إنفاق أكثر من مليار دولار على الذخائر، ما أدى إلى استنزاف المخزونات العسكرية الأمريكية إلى درجة دفعت القادة العسكريين للتحذير بجدية من أن القدرة القتالية للولايات المتحدة في حال اندلاع حرب مع الصين باتت مهددة.
وفي غضون ثمانية أيام فقط، فقدت الولايات المتحدة مقاتلتين حربيتين تبلغ قيمة كل منهما 67 مليون دولار، إحداهما سقطت في البحر بعد انزلاقها من على متن حاملة طائرات في البحر الأحمر، والثانية تحطمت بسبب خلل أثناء الهبوط.
ولم تكن الخسائر مادية فقط، بل تكبد ترامب ثمنًا سياسيًا باهظًا نتيجة لهذه الحملة. فقد أدى قصف اليمن إلى اندلاع أكبر فضيحة في ولايته الرئاسية القصيرة، والتي لم تتجاوز حينها أربعة أشهر، والمعروفة باسم "فضيحة سيغنال" (Signalgate)، حين قام مسؤولون في الأمن القومي عن طريق الخطأ بإرسال خطط عسكرية سرية تتعلق باليمن إلى أحد الصحفيين عبر رسائل غير مؤمّنة، ما فجّر موجة من التقارير المحرجة بشأن سوء إدارة فريقه للمعلومات السرية والحساسة. وقد أدّت هذه الفضيحة إلى الإطاحة بمستشاره للأمن القومي، وكادت تطيح بوزير دفاعه أيضًا.
في الوقت نفسه، تسبّبت الحملة العسكرية في إثارة أولى وأعلى موجات المعارضة داخل التيار الترامبي نفسه. فقد خرج عدد من أبرز شخصيات "ماغا" (MAGA)، من بينهم النائبة مارغوري تايلور غرين، وتاكر كارلسون، وستيڤ بانون، لينتقدوا علنًا التدخل في اليمن، مشيرين بحق إلى أن هذه الخطوة تتناقض تمامًا مع وعود ترامب الانتخابية التي تعهد فيها بإبقاء الولايات المتحدة بعيدًا عن الحروب الخارجية.
ورغم أن ما جرى لا يعدو كونه عودة إلى الوضع القائم قبل مارس/ آذار 2025، إلا أن هذه القضية برمّتها قد تكون أكثر أهمية مما تبدو عليه في ظاهرها. فإلى جانب موجة الاعتراض الواسعة المناهضة للحرب التي أثارتها، يبدو أنها أسهمت عن غير قصد في تعجيل بوادر نفاد صبر ترامب تجاه إسرائيل ورئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، واستعداده لتحدّيهما علنًا.
فمجرد أن ترامب تفاوض وأبرم اتفاق وقف إطلاق النار دون إبلاغ أو إشراك إسرائيل، ناهيك عن تهميشها و"تركها في العراء"، بل و"التخلّي عنها"، بحسب ما نقلته صحيفة تايمز أوف إسرائيل ذات التوجّه اليميني، هو أمر بالغ الدلالة. وقد جاءت ردة فعل المسؤولين الإسرائيليين صادمة وغاضبة، بينما أعرب عدد من أعضاء الكونغرس الأمريكي المعروفين بولائهم المطلق لإسرائيل عن قلقهم، معتبرين أن اتفاق ترامب "ترك إسرائيل في وضعٍ خطير، ولم يتصدَّ للخطر الأوسع الذي تمثّله شبكة الوكلاء الإيرانيين".
وبحلول وقت كتابة هذا التقرير، لا يبدو أن هذه الانتقادات قد أثّرت على ترامب: فجولته المقبلة إلى الشرق الأوسط ستتجاهل إسرائيل تمامًا، وتشير التسريبات الإعلامية إلى أنه فقد صبره مع نتنياهو، بل ويستعد، بحسب تقارير، لطرح اتفاق شامل لوقف إطلاق النار في غزة كأمر واقع على نتنياهو، إما أن يوافق عليه أو يُترك وحيدًا.
ويُضاف إلى ذلك أن ترامب سبق أن تحدّى القيادة الإسرائيلية بمساعيه للعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، والذي كان قد مزّقه خلال ولايته الأولى، كما أنه يبدو مستعدًا لتهميش إسرائيل مجددًا في مسار التفاوض مع السعودية، حتى دون اشتراط اعتراف الرياض بإسرائيل كجزء من الصفقة النووية المرتقبة.
ومع ذلك، لا ينبغي لأحد أن يعوّل كثيرًا على هذا التوجه؛ فترامب معروف بتقلّباته المفاجئة، وتراجعه المتكرر، وقيامه بانقلابات حادة في مواقفه، ويكفي التذكير بكيف أجبر نتنياهو على قبول وقف لإطلاق النار قبيل تنصيبه، ثم سمح له بعد شهرين بانتهاكه واستئناف تدمير غزة.
لكن، وبقدر ما يُشير وقف إطلاق النار مع الحوثيين إلى استعداد ترامب لانتهاج سياسة خارجية لا تسمح للقيادة الإسرائيلية بجرّ الولايات المتحدة إلى حرب مدمّرة جديدة في الشرق الأوسط، فإن ذلك يُعد تطورًا إيجابيًا، على الأقل في الوقت الراهن.