تحليل: كيف صمد الحوثيون في مواجهة الولايات المتحدة
يمن فيوتشر - Foreign Affairs- ترجمة خاصة السبت, 10 مايو, 2025 - 01:37 صباحاً
تحليل: كيف صمد الحوثيون في مواجهة الولايات المتحدة

[ رويترز ]

بعد سبعة أسابيع ونصف من الغارات الجوية الكثيفة التي استهدفت أكثر من ألف موقع مختلف، انتهت حملة القصف التي شنّتها إدارة ترامب ضد الحوثيين في اليمن بالقدر نفسه من المفاجأة التي بدأت به. ففي 6 مايو/ آيار، وخلال اجتماع في المكتب البيضاوي مع رئيس الوزراء الكندي (مارك كارني)، أعلن الرئيس (دونالد ترامب) ببساطة أن الحوثيين "لم يعودوا يرغبون في القتال"، وأن الولايات المتحدة "ستأخذهم على كلمتهم" و"ستوقف القصف".

وقد أكّد وزير الخارجية العُماني (بدر بن حمد البوسعيدي)، عبر منصة "إكس"، أن بلاده توسطت في اتفاقٍ لوقف إطلاق النار بين واشنطن والحوثيين، يقضي بتعهد الطرفين بعدم استهداف أحدهما للآخر.

ورغم أن الحوثيين شنّوا هجمات فعالة للغاية على الملاحة الدولية في البحر الأحمر، واستمروا في استهداف إسرائيل، إلا أن الاتفاق لا يقيّد صراحةً أنشطة الحوثيين ضد أي دولة سوى الولايات المتحدة. كما أن غياب أي إشارة في الاتفاق إلى إسرائيل أو إلى السفن "المرتبطة بإسرائيل" -وهو مصطلح فسّره الحوثيون بشكل واسع في السابق- يُعدّ لافتاً.

والمثير للدهشة في إعلان البيت الأبيض أن موقف الحوثيين لم يتغير عملياً منذ أن بدأت إدارة ترامب حملتها الجوية المكثفة في 15 مارس/ آذار.

فقد أُطلقت العملية، التي حملت اسم "رف رايدَر" (Rough Rider‎)، بزعم استعادة حرية الملاحة في البحر الأحمر وإعادة فرض الردع على إيران ووكلائها. وعندما بدأت العملية، كان الحوثيون يستهدفون بشكلٍ مباشر إسرائيل والسفن المرتبطة بها -من دون استهداف السفن الأميركية- وأعلنوا أنهم سيواصلون ذلك حتى توقف إسرائيل حربها في غزة.

ومنذ بداية الحملة الأميركية، أوضح قادة الحوثيين أنه إذا أوقفت واشنطن القصف، فسيتوقفون بدورهم عن مهاجمة السفن الأميركية، لكن هجماتهم ضد إسرائيل ستستمر.

وبعد إعلان ترامب عن الاتفاق في 6 مايو/ آيار، جدّد المتحدث باسم الحوثيين (محمد عبدالسلام)، هذا الموقف بوضوح.

بعبارة أخرى، وبعد عملية عسكرية أميركية كلّفت أكثر من ملياري دولار، وقيل إنها ألحقت ضرراً واسعاً بقدرات الحوثيين العسكرية، فإن وقف إطلاق النار بين واشنطن والحوثيين لم يُفضِ عملياً سوى إلى ترسيخ موقف الحوثيين الأصلي.

ورغم ادّعاء ترامب بأن الحوثيين "رضخوا"، فإن الجماعة ما تزال متمسكة بسيطرتها وتعتبر الاتفاق "انتصاراً لليمن".

و بالنسبة لإدارة ترامب، وفّر وقف إطلاق النار مخرجاً سريعاً من حملة باتت تزداد تعقيداً واستعصاءً على الاستمرار. فإلى جانب تكلفتها الباهظة للغاية، أثارت الحملة الجوية قلقاً متنامياً في أوساط صنّاع القرار بواشنطن من احتمال انزلاق الولايات المتحدة إلى مستنقع "حرب أبدية" جديدة في الشرق الأوسط.

ويُرجَّح أن هذا السيناريو دفع به نائب الرئيس (جي دي ڤانس)، وأعضاء الإدارة من ذوي النزعة الانعزالية الجديدة، والذين لطالما أبدوا تشككاً حيال مغامرات الجيش الأميركي في الخارج.

ولا يزال من غير الواضح ما إذا كانت هذه الخاتمة ستوفّر فسحة كافية لإدارة ترامب للتخلّص تماماً من "مشكلة الحوثيين".

لكن، إذا تجاهل ترامب استمرار هجمات الحوثيين على إسرائيل، فثمّة ما يدعو للاعتقاد بأن الجماعة ستتجنب، في الوقت الراهن على الأقل، استهداف المصالح الأميركية.

ورغم أن الحوثيين كانوا على الأرجح قادرين على الصمود حتى لو استمرت الحملة الجوية الأميركية، فإن وقفها يعود عليهم بعدة مكاسب.

فبإمكان قادة الجماعة الآن الادّعاء بأنهم واجهوا قوة عظمى وانتصروا، كما تخلصوا من الضغط الهائل الذي كان يمثّله القصف الأميركي.

وبات بإمكانهم تركيز جهودهم على إسرائيل، التي تشنّ في المقابل حملة جوية عقابية رداً على الهجمات الحوثية، بما في ذلك ضربة صاروخية باليستية قرب مطار بن غوريون في تل أبيب مطلع مايو/ آيار.

والأهم من ذلك، أن الاتفاق مع الولايات المتحدة يجعل من غير المرجّح أن تدعم واشنطن أي هجوم بري ضد الحوثيين تشنّه الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، وهي ائتلاف منقسم داخلياً من الفصائل المناهضة للحوثيين، يسيطر على مناطق الجنوب والشرق في البلاد.

ومع دعمٍ جوي، يُمكن القول إن مثل هذا الهجوم البري هو الوسيلة الأكثر فاعلية لممارسة ضغط حقيقي على الجماعة وتقويض سيطرتها، رغم ما ينطوي عليه من مخاطر جسيمة.

و كانت إدارة ترامب محقّة في سعيها لإيجاد مخرج لحملة جوية باتت مفتوحة الأمد ومرتفعة الكلفة على نحوٍ متزايد، لكن الخيار الذي اتخذته قد يسبّب ضرراً أكثر من النفع.

فما لم تُسارع واشنطن إلى التنسيق مع حلفائها في المنطقة -وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية- ضمن جهد أوسع للحفاظ على الضغط العسكري والاقتصادي والسياسي على الحوثيين، ستواصل الجماعة زعزعة الاستقرار في اليمن وفي عموم الإقليم.

و ثمّة بديل أفضل، فمن خلال دعم الأمم المتحدة وجهات الوساطة الأخرى مثل سلطنة عُمان، يمكن للولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين والدوليين الدفع باتجاه تسوية سياسية شاملة في اليمن، تُفضي إلى تقليص القدرات العسكرية للحوثيين والحد من طموحاتهم التوسعية.

وقد يبدو هذا المسار شاقاً، لكنه سيكون بلا شك أقل كلفة بكثير من البدائل المطروحة.

وفي غياب مثل هذه الجهود، فإن الحوثيين سيعيدون تنظيم صفوفهم، وربما يعاودون في المستقبل القريب تشكيل التهديد الأمني نفسه الذي دفع إدارة ترامب إلى إطلاق حملتها العسكرية في المقام الأول.

 

رف رايدر:

بدأت الولايات المتحدة أولى ضرباتها ضد الحوثيين في عهد الرئيس (جو بايدن)، الذي أطلق حملة جوية محدودة في يناير/ كانون الثاني 2024، رداً على هجمات الجماعة ضد الملاحة في البحر الأحمر، وبشكلٍ خاص على استهدافها لسفينة حربية أميركية.

و سعت إدارة بايدن إلى اتباع نهج محسوب بدقة، حيث كان الهدف هو الرد على الهجمات الحوثية من دون تصعيد النزاع، أو التسبب في سقوط ضحايا مدنيين، أو دفع المنطقة نحو مواجهة أوسع مع إيران.

في المقابل، اتّسم نهج ترامب بقدر أكبر من الحدة، إذ وجّه انتقادات لاذعة لبايدن واصفاً ردّه على التهديد الحوثي بأنه "ضعيف على نحوٍ مثير للشفقة". ويُرجّح أن إدارة ترامب استمدت جرأة إضافية من تراجع نفوذ إيران، بعد أن تضرّرت بشدة القوى المتحالفة معها في غزة ولبنان وسوريا بفعل الحرب التي تشنها إسرائيل ضد حركتَي حماس وحزب الله، وسقوط نظام بشار الأسد.

ومع ذلك، فإن حجم الحملة التي أطلقها ترامب فاق التوقعات. فقد كانت عملية "رف رايدَر" (Rough Rider) أكبر تدخل عسكري لإدارته حتى الآن من حيث النطاق والكلفة.

وشملت العملية أكثر من ألف ضربة جوية استهدفت مجموعة واسعة من مواقع الحوثيين، من مستودعات الأسلحة ومراكز القيادة والسيطرة، إلى أنظمة الدفاع الجوي والبُنى التحتية الحيوية وقادة الجماعة أنفسهم.

ولتنفيذ هذه العملية الطموحة، نشرت الإدارة مجموعتَي حاملة طائرات ضاربة، وطائرات MQ-9 Reaper المُسيّرة، وقاذفات B-2 Stealth الشبحية، إلى جانب منظومتَي الدفاع الجوي باتريوت وثاد (THAAD).

لا تزال مواقف الحوثيين الجوهرية على حالها تقريباً.

فإلى جانب التصعيد الكبير في الضربات الجوية، كثّفت إدارة ترامب الضغطين الاقتصادي والسياسي على الجماعة. ففي مارس/ آذار، أعادت تصنيف الحوثيين كـ"منظمة إرهابية أجنبية" (FTO)، وهو تصنيف يترتّب عليه عقوبات اقتصادية ودبلوماسية شديدة. وقد أدى هذا التصنيف إلى خنق النظام المصرفي في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين، وقيّد قدرتهم على استيراد الوقود، كما جعل تنفيذ بعض بنود اتفاق مقترح برعاية الأمم المتحدة -كان قيد التفاوض قبل أن تبدأ هجمات الحوثيين في البحر الأحمر- أمراً شبه مستحيل.

وكان تنفيذ هذا الاتفاق، المدعوم من حلفاء واشنطن في الخليج، سيؤدي إلى وقف إطلاق النار وإطلاق عملية سياسية تهدف إلى ترتيب تقاسم السلطة في اليمن. كما كان الاتفاق ينصّ على مكاسب اقتصادية كبيرة، من بينها وضع آلية لصرف رواتب الموظفين العموميين في مناطق سيطرة الحوثيين. ونظراً لمحدودية الموارد في اليمن، كانت هذه الخطوة ستتطلب دعماً مالياً خارجياً كبيراً، لكن تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية من قبل واشنطن جعل أي تحويل مالي إليهم جريمة، مما جعل تنفيذ هذا البند غير ممكن عملياً.

وقد شكّل هذا التصعيد ضغطاً حقيقياً على الحوثيين. فبحسب البنتاغون، انخفضت عمليات إطلاق الصواريخ الباليستية ضد أهداف إسرائيلية وأميركية بنسبة 87%، وتراجعت هجمات الطائرات المُسيّرة بنسبة 65% خلال الحملة.

كما أجبرت الضربات الأميركية معظم قادة الجماعة على الاختباء، وأبطأت من وتيرة الاتصالات الداخلية. و من جانبهم، كثّف جهاز الأمن الداخلي التابع للحوثيين من حملات الاعتقال بحق يمنيين يُشتبه في قيامهم بنقل معلومات استهداف إلى جهات قد تتعاون مع الولايات المتحدة أو حلفائها.

وقد أثّرت هذه الضربات كذلك على الحسابات العسكرية للحوثيين مؤقتاً. فعقب إعادة تصنيفهم كمنظمة إرهابية، سعى الحوثيون في البداية إلى السيطرة على حقول النفط والغاز في محافظة مأرب شرق صنعاء، وهي موارد استراتيجية كان من شأن السيطرة عليها أن تقلل من آثار التصنيف الإرهابي.

إلا أن الحملة الجوية الأميركية عطّلت مؤقتاً هذا الطموح، والذي كان، لو تحقق، سيوفّر للحوثيين موارد إضافية ويمهّد الطريق لشن هجمات لاحقة على محافظات نفطية أخرى في الجنوب والشرق، تخضع حالياً لسيطرة الحكومة اليمنية.

و قبل وقف إطلاق النار في السادس من مايو/ آيار، رفعت الضربات الجوية الأميركية من سقف التوقعات لدى الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا، بإمكانية الحصول على دعم أميركي وإقليمي لشنّ هجوم بري جديد لاستعادة الأراضي التي يسيطر عليها الحوثيون.

وقد كثّف مسؤولون في الحكومة اليمنية جهودهم للضغط على واشنطن من أجل هذا الدعم، مدركين أن الفرصة المتاحة قصيرة الأجل، وأن عدم استغلالها سيسمح للحوثيين بتحويل "انتصارهم" المتمثل في الصمود أمام حملة عسكرية أميركية إلى ورقة لتعزيز موقفهم أكثر.

وكان احتمال شنّ عملية برية يُمثّل مصدر قلق بالغ لقيادات الحوثيين، الذين دأبوا على وصف أي خصوم داخليين بأنهم أدوات للعدوان الأميركي-الإسرائيلي.

لكن حملة الضغط التي شنّها ترامب كانت لها حدود، وبدأت ملامح تلك الحدود بالظهور بعد بضعة أسابيع. فقد واصلت القوات الأميركية استهداف مواقع الحوثيين بشكلٍ شبه يومي مستخدمة كميات هائلة من الذخائر، وأعلن البنتاغون عن مقتل قيادات بارزة في الجماعة. ومع ذلك، لا توجد أدلة كافية على تصفية أعضاء القيادة العليا للحوثيين، إذ لا تزال الدائرة الداخلية للجماعة متماسكة. والأهم من ذلك أن قدرة الحوثيين على ضرب أهداف أميركية وإسرائيلية لا تبدو أنها تضررت بشكل كبير.

و من جانبهم، يزعم الحوثيون أنهم أسقطوا ما لا يقل عن سبع طائرات أميركية مُسيّرة من طراز "ريبر"، تبلغ تكلفة الواحدة منها نحو 30 مليون دولار، منذ شهر مارس/ آذار. وفي 28 أبريل/ نيسان، فُقدت مقاتلة أميركية تبلغ قيمتها 60 مليون دولار في البحر بعد أن اضطرت حاملة الطائرات التي كانت تقلها إلى القيام بمناورة حادة لتفادي نيران حوثية. وفي أوائل مايو/ آيار، تمكن الحوثيون أيضًا من اختراق الدفاعات الجوية الإسرائيلية وإصابة هدف قرب مطار تل أبيب، ما أدى إلى ردّ إسرائيلي عنيف.

وباختصار، فقد جاءت المكاسب التكتيكية الأميركية بثمن متزايد ومخاطر جسيمة. حيث أدت العمليات المتواصلة إلى رفع احتمال سقوط قتلى في صفوف القوات الأميركية، وهو سيناريو كان سيؤدي على الأرجح إلى تورط واشنطن بشكلٍ أعمق في النزاع. كما كانت الولايات المتحدة تستهلك ذخيرتها بوتيرة مثيرة للقلق، في وقت كانت فيه وزارة الدفاع تعاني بالفعل لتلبية الطلب المتزايد على الأسلحة، نتيجة الالتزامات الأميركية السابقة تجاه إسرائيل وأوكرانيا، إضافة إلى ضربات إدارة بايدن ضد الحوثيين، والجهود الأميركية لحماية إسرائيل من هجمات إيرانية مباشرة. وقد أعرب بعض المسؤولين الأميركيين عن قلقهم من أن العدد الكبير من الأسلحة بعيدة المدى المستخدمة ضد الحوثيين، إلى جانب نقل كتيبة دفاع جوي من طراز "باتريوت" من قيادة المحيطين الهندي والهادئ إلى الشرق الأوسط، قد يضعف جاهزية الولايات المتحدة لمواجهة تهديدات محتملة من الصين.

 

وقف إطلاق النار قدّم مخرجًا سريعًا لحملة باتت تزداد كلفة وتعقيدًا يوماً بعد آخر

إلى جانب ذلك، بدأت الضربات الجوية الأميركية تُلحق أضراراً متزايدة بالمدنيين والبنية التحتية المدنية في اليمن، وهو ما سارع الإعلام الحوثي إلى استغلاله لصالح الجماعة. فعلى سبيل المثال، أسفرت غارة أميركية في منتصف أبريل/ نيسان، على ميناء رأس عيسى لتصدير الوقود في محافظة الحديدة عن مقتل أكثر من 70 يمنيًا، كما أدّت ضربة جوية أوائل مايو/ آيار استهدفت مركز احتجاز تابع للحوثيين ويأوي مهاجرين أفارقة إلى مقتل العشرات، بينهم مدنيون. وتُظهر مجريات الحرب الأهلية السابقة أن مثل هذه الحوادث لا تُضعف الدعم الداخلي للحوثيين، بل على العكس، ففي عام 2015، خلال الحملة الجوية التي قادتها السعودية في اليمن، أسفرت الغارات التي أوقعت أعدادًا كبيرة من القتلى المدنيين عن نتائج عكسية، إذ مكنت الحوثيين من امتصاص الانتقادات وحشد الدعم المحلي ضد "عدو خارجي".

و منذ انطلاق حملة ترامب، أعلن الحوثيون أنهم قادرون على الصمود أمام الضغط، بل والخروج منها أقوى، كما حدث بعد التدخل العسكري السعودي في عام 2015. فحركة الحوثيين تستمدّ قوتها الكبرى من العمل المسلح؛ فهي فصيل راديكالي من الطائفة الزيدية يحمل عداءً عميقًا لإسرائيل والغرب، وقد تشكّلت عبر الحروب ضد الحكومة اليمنية منذ العقد الأول من هذا القرن. وبفضل تمركزهم في المناطق الجبلية الوعرة شمال اليمن، يتمتع الحوثيون بخبرة طويلة في إخفاء قادتهم وأسلحتهم، ولديهم قدرة عالية على تحمّل الهجمات والخسائر البشرية والمادية.

وعلاوة على ذلك، ورغم تراجع قدرة داعمهم الرئيسي إيران، فقد تمكن الحوثيون من تنويع خطوط الإمداد. فمن خلال تطوير شبكات تهريب أسلحة جديدة تمتدّ إلى ما بعد إيران وتصل إلى القرن الأفريقي، وبناء علاقات انتهازية مع الصين وروسيا، أصبحت الجماعة أكثر صلابة وقدرة على الصمود.

وباختصار، ورغم أن الحملة الأميركية وضعت الحوثيين تحت ضغطٍ شديد، فإنهم لم يرتدعوا بأي شكل من الأشكال، ناهيك عن أن يكونوا قد هُزموا، مع حلول وقت إعلان وقف إطلاق النار. فبحلول أوائل مايو/ آيار، كانت الولايات المتحدة تحقق مكاسب تكتيكية عبر تدمير أسلحة وقدرات عسكرية، ودفع القيادة الحوثية إلى العمل السري، وإثارة مخاوف الجماعة من احتمال شن حملة برية جديدة ضدها.

ومع ذلك، لم تتمكن واشنطن من تحويل هذه النقاط الضاغطة إلى مكاسب استراتيجية حاسمة.

 

الاستراتيجية الغائبة

من الممكن أن توازن الولايات المتحدة بين الحدّ من انخراطها العسكري، وبين دعم مسار نحو تسوية، أو على الأقل احتواء التهديد الحوثي، وذلك من خلال التنسيق مع حلفائها لفرض ضغط عسكري واقتصادي وسياسي فعّال على الجماعة. و لتحقيق ذلك، ينبغي لصنّاع القرار في واشنطن أن يتخلوا أولًا عن الفكرة القائلة بإمكانية الفصل بين ما يحدث داخل اليمن وبين ما يجري في البحر الأحمر أو في المنطقة الأوسع، لا سيما في الخليج.

و كلاً من نائب الرئيس (جي دي ڤانس) ووزير الدفاع (بيت هيغسِث) عبّرا عن عدم اكتراثهما بما يجري داخل اليمن. وكما قال ڤانس، إذا توقف الحوثيون عن إطلاق النار في البحر الأحمر، فيمكنهم "العودة لفعل ما كانوا يفعلونه قبل مهاجمة السفن المدنية."

لكن الواقع أن المشكلات التي تواجهها واشنطن وحلفاؤها في البحر الأحمر هي نتاج مباشر للتوازنات الداخلية للسلطة في اليمن. فالحوثيون، بوصفهم قوة مسلحة بشكل متزايد وغير خاضعة للرقابة، باتوا قادرين على تصدير قوتهم وتهديداتهم إلى ما وراء حدود اليمن، وسيفعلون ذلك ما لم يواجهوا قيودًا حقيقية داخلية.

و صحيح أن الولايات المتحدة لا تستطيع التحكم التفصيلي في تعقيدات السياسة اليمنية، ولا يُطلب منها قيادة ملف اليمن، لكنها -في الحد الأدنى- بحاجة إلى وجود استراتيجية واضحة تجاه هذا الملف.

و لضمان بقاء نوع من التوازن العسكري على الأرض في اليمن، ينبغي على واشنطن أن توفّر لحلفاء الحكومة اليمنية في الخليج، وخصوصًا السعودية والإمارات، الضمانات الأمنية اللازمة التي تمكّنهم من مواصلة دعم الحكومة سياسيًا وعسكريًا.

هاتان الدولتان تمثلان المورد الرئيسي للسلاح والتمويل لقوات الحكومة اليمنية، لكن كليهما أعلنتا بوضوح أنهما لا ترغبان في إشعال الحرب من جديد. كما أن الرياض وأبوظبي تدركان أنه في حال تقدّمت القوات اليمنية ضد الحوثيين ميدانيًا، فإن الجماعة قد تردّ باستهدافهما، وربما حتى إذا اقتصر دورهما على دعم القوات اليمنية في الدفاع عن مواقعها الحالية.

ورغم أن الدولتين قلقتان من التهديدات الأمنية بعيدة المدى التي يشكّلها الحوثيون، إلا أنهما حريصتان على تحويل تركيزهما نحو أولوياتهما الاقتصادية الداخلية.

 

عجزت الولايات المتحدة عن تحويل نقاط الضغط إلى مكاسب استراتيجية.

من خلال تقديم ضمانات أمنية للرياض وأبوظبي، ستكون واشنطن فعليًا تلتزم بحماية حلفائها، مما يمكّنهم من تعزيز القوات التي تواجه الحوثيين داخليًا، وبالتالي زيادة فرص التوصل إلى اتفاق لتقاسم السلطة بشكل متوازن.

علاوة على ذلك، يمكن للولايات المتحدة أن تشجع السعودية والإمارات على تحسين تنسيقهما العسكري والسياسي في دعم القوات الحكومية اليمنية، وهي قوات تعاني أصلًا من انقسامات كثيرًا ما تُفاقمها الخلافات بين هذين الداعمين، مثل النفور الإماراتي المزمن من التعاون مع المقاتلين المرتبطين بجماعة الإخوان المسلمين.

ويكتسب هذا التنسيق أهمية مضاعفة في الوقت الراهن، إذ إن شعور قوات الحكومة اليمنية بالخذلان نتيجة انسحاب الولايات المتحدة، إلى جانب تصاعد الضغوط الاقتصادية والانقسامات السياسية الداخلية، يهدد بانهيار الحكومة، الأمر الذي قد يفتح الباب واسعًا أمام تمدد الحوثيين أو عودة تنظيم القاعدة إلى المناطق الخاضعة للحكومة.

وينبغي أن يكون الضغط على الحوثيين ذا هدف واقعي. فالحملة الجوية العسكرية وحدها لم تكن يومًا خيارًا عمليًا. ومع سريان وقف إطلاق النار بين الولايات المتحدة والحوثيين، تبدو احتمالات التصعيد العسكري على الأرض أقل ترجيحًا من أي وقتٍ مضى.

و التوصل إلى اتفاق مع إيران يتضمن التزام طهران بوقف إمداد الحوثيين بالأسلحة المتطورة سيكون مفيدًا، لكنه لن يكون حلًا سحريًا يكبح طموحات الحوثيين. كذلك، فإن التوصل إلى وقف إطلاق نار في غزة سيوفّر فرصة لاختبار مدى التزام الحوثيين بوقف هجماتهم في البحر الأحمر، ولزيادة الضغط عليهم من خلال دبلوماسية متعددة الأطراف ومنسقة.

لكن لا توجد حلول سهلة في الملف اليمني، ولا بديل عن نهج إقليمي أكثر شمولًا وتنسيقًا.

لذا، ينبغي على الولايات المتحدة وشركائها التركيز على هدف واقعي، وإنْ كان صعبًا، فالدفع باتجاه اتفاق ترعاه الأمم المتحدة يوفر ضمانات أقوى لأمن البحر الأحمر، ويضع حدودًا لقدرات الحوثيين التسليحية، ويضمن ترتيبات لتقاسم السلطة داخليًا.

ويمكن أن تبدأ هذه العملية بإعادة تقييم الأطراف للاتفاق المقترح الذي كانت الأمم المتحدة تتفاوض عليه سابقًا، مع تعزيز بنود وقف إطلاق النار فيه، وتعديل آلية توزيع الموارد المالية بما يتماشى مع تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية أجنبية، وإدخال ضمانات أقوى لدعم اتفاق لتقاسم السلطة بين الحوثيين والحكومة اليمنية.

غير أن تحقيق أي من هذه الأهداف سيظل مرهونًا بشكل كامل بقدرة إدارة ترامب على التعاون مع حلفائها الخليجيين واليمنيين من أجل تثبيت خطوط التماس داخل اليمن، والاستمرار في فرض ضغط اقتصادي وسياسي وعسكري على الحوثيين.

فإذا فشلت واشنطن في دعم صيغة متوازنة لتقاسم السلطة داخليًا، فإن مشكلات اليمن لن تبقى محصورة داخل حدوده.

 

المتطرفون الجريئون

عندما قررت إدارة ترامب إنهاء حملتها في اليمن، وجدت نفسها أمام حقيقة صعبة: الاستمرار في استهداف الحوثيين بهذه الوتيرة قد يصبح قريبًا غير قابل للاستمرار وعديم الجدوى، بل ويضر بالاحتياجات العسكرية الأميركية في مناطق أخرى.

علاوة على ذلك، فإن الحملة الجوية وتصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية، في حد ذاتهما، لم يكونا كفيلين بحل التهديدات التي يشكلها الحوثيون على أمن البحر الأحمر أو على إسرائيل.

وفي الوقت نفسه، فإن دعم الولايات المتحدة للقوات الحكومية اليمنية كان ينطوي على مخاطر، نظرًا للانقسامات الداخلية العميقة في صفوف هذه القوات، فضلًا عن أن مثل هذا الدعم يتعارض مع المواقف المُعلنة لترامب الرافضة للانخراط في "حروب لا تنتهي" في الشرق الأوسط.

وربما إدراكًا منه لحاجة ملحة إلى مخرج سريع، أعلن ترامب بشكل مفاجئ في 6 مايو/ آيار وقف العمليات.

لكن هذا التوقف المفاجئ لم يؤدِ سوى إلى تعزيز موقف الحوثيين، ما يُرجّح أن يُفاقم التهديدات الأمنية ذاتها التي سعت الولايات المتحدة لمعالجتها منذ البداية. فالآن، حوّل الحوثيون اهتمامهم نحو إسرائيل، وأعلنوا احتفاظهم بحق استهداف السفن "المرتبطة بإسرائيل"، وهو توصيف غامض المعالم.

والأهم من ذلك، أنه حتى لو تم التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة، فإن تجربة الحوثيين في استخدام تهديد الملاحة في البحر الأحمر كورقة ضغط، قد تدفعهم مستقبلاً لاستخدام هذه الأداة مجددًا لتحقيق مكاسب سياسية. وقد يحاولون أيضًا الاستمرار في فرض رسوم على السفن العابرة لمضيق باب المندب، كما فعلوا مع بعض السفن التجارية خلال عملياتهم في البحر الأحمر.

و منذ بداية الضربات، راهن الحوثيون على قدرتهم على الصمود أمام الولايات المتحدة، وقد ربحوا هذا الرهان.

والأخطر أن وقف إطلاق النار بدد آمال الحكومة اليمنية في الحصول على دعم أميركي لشن حملة برية، وهناك احتمال واقعي بأن تنهار الحكومة اليمنية المنقسمة أصلًا، تحت وطأة الضغوط المالية المتزايدة منذ أن أوقف الحوثيون صادراتها النفطية أواخر عام 2022، إلى جانب أثر ما يُنظر إليه داخليًا كهزيمة أمام الحوثيين.

وسيمهد هذا الانهيار المحتمل الطريق إما لتوسّع إقليمي للحوثيين، أو لعودة تنظيم القاعدة إلى الواجهة في جنوب البلاد. أما السعودية، التي باتت أكثر تشككًا في موثوقية واشنطن كحليفٍ أمني، فستجد نفسها مضطرة للتعامل مع حركة حوثية جريحة لكنها أكثر جرأة على حدودها الجنوبية.

لقراءة المادة من موقعها الأصلي يمكنكم زيارة الرابط التالي: 

https://www.foreignaffairs.com/united-states/how-houthis-outlasted-america


التعليقات