تقرير: نساء يُقتلن باسم “الوطن”.. هل تحولت “العودة إلى سوريا” إلى تهديد؟
يمن فيوتشر - درج الثلاثاء, 08 يوليو, 2025 - 01:43 مساءً
تقرير: نساء يُقتلن باسم “الوطن”.. هل تحولت “العودة إلى سوريا” إلى تهديد؟

في أحد أحياء اللجوء الهادئة في ألمانيا، داخل شقة صغيرة لا تختلف كثيرًا عن مئات الشقق التي يسكنها اللاجئون، وقعت جريمة قتل. لم تكن الجريمة الأولى، ولن تكون الأخيرة، لكن في تفاصيلها ما يجعل الصمت جريمة موازية. رجلٌ سوري قتل زوجته في ألمانيا، بعد خلافٍ على فكرة العودة إلى سوريا. لم يكن ثمة سكين، بل قرار، نطقته المرأة ورفضه الرجل، فكان الثمن حياتها.

وقعت الجريمة في 18 من الشهر الجاري في مدينة هاغن (ولاية شمال الراين)، كانت المرأة قد عبّرت حديثاً عن رغبتها في البقاء في ألمانيا، ورفضها العودة إلى سوريا بحسب مقربين منها، ما أدى إلى خلاف داخل العائلة حول مستقبل الأطفال. لم تكن هذه المرة الأولى التي يختلفان فيها، لكنها كانت الأخيرة.

الحديث عن الجريمة سرعان ما غرق في دوامات التأويل والتشكيك. ليس في دوافع القاتل، بل في “سلوك الضحية”. لم يتوقف كثيرون عند وحشية الفعل، ولا عند البعد النفسي والإنساني لما تعنيه العودة بالنسبة الى امرأة لا تزال تحمل في جسدها خوف الحرب والمنفى، بل بدأ التنقيب في حياتها: لماذا رفضت؟ ما الذي كانت تخفيه؟ هل تغيّرت “بعدما عاشت بألمانيا”؟ هل كانت تخطط للانفصال؟ هل “تجرأت” على أن تقول لا؟

 

قمع مُعاد

العودة إلى سوريا، والتي باتت حديث بعض اللاجئين في ألمانيا بعد سقوط النظام، لا تُطرح دومًا كسؤال جماعي عقلاني، بل أحيانًا كاختبار للولاء، أو كتمرين سلطوي داخلي يُعاد فيه ترميم موقع “الرجل” داخل الأسرة. من المفارقات أن بعض العائلات التي فرت من آلة القمع، لا ترى في العودة مجرّد قرار سيادي أو خطوة نضوج، بل وسيلة لإعادة فرض السيطرة على النساء.

في حالات كثيرة، تتخذ العودة طابعًا انفعاليًا لا يخلو من الحنين المتضخم، أو التعب من الغربة، أو ضغوطات الحياة اليومية. لكن بالنسبة الى كثيرات من النساء، لا تُقاس العودة بالحنين، بل بالرعب. رعب أن يجدن أنفسهن في بيئة لا توفر لهن الحماية، أو في مجتمعٍ يضيق عليهن بعد سنوات من التنفّس النسبي.

المرأة التي قُتلت، بحسب جاراتها، لم تكن ناشطة سياسية ولا اجتماعية، ولم تطالب بحقوق خارقة. كانت فقط امرأة تطلب البقاء، وتخشى أن تُقتلع من “استقرار” هش بالكاد اعتادت عليه. ربّة منزل، أم لأطفال، لم تتقن اللغة بعد، ولم تحظَ بفرصة عمل. ومع ذلك، أرادت أن تختار مصيرها. وهو ما لم يُغتفر لها.

 

المنفى هدنة لا نجاة

 الجريمة حدثت في ألمانيا، البلد الذي يقدّم نفسه كحامٍ لحقوق الإنسان، كحضنٍ بديل للناجين والناجيات من المذابح، من العنصرية، من أي اضطهاد. لكنه، كما أي بلد، لا يملك أن يحمي من العنف الذي نحمله معنا. لأن العنف، بخلاف القنابل، لا يحتاج إلى عبورٍ قانوني. يكفي أن يكون راسخًا في اللغة، في التربية، في توزيع الأدوار داخل البيت.

القاتل لم يكن وحشًا معزولًا، بل امتدادًا لثقافة كاملة تعتبر المرأة “تابعًا”. في لحظة الصراع، لم يحتمل أن تخرج عن قراره. لم يحتمل أن يكون لها صوت. فكان الرد قاطعًا. لكن ما حدث بعد الجريمة كان أشد قسوة.

 

القتل الثاني

حين انتشر الخبر على معظم صفحات السوريين في وسائل التواصل، لم يُقابل بالغضب أو الحزن، بل بمزيجٍ من الشماتة، والتشكيك، واستعراض الرجولة الفارغة. “أكيد كانت عم تخونه”، “شايفين شو عمل فيها اللجوء؟”، “إذا بدها الحرية، تتحمّل النتيجة”، إلى آخر سيلٍ من التعليقات التي لم تهاجم القاتل، بل أدانت القتيلة.

في الثقافة التي نحملها معنا، حين تُقتل امرأة، يُوجَّه السؤال أولًا إليها: ماذا فعلتِ لتُقتلي؟ وحين تقول “لا”، تُعاد صياغة “لا” وكأنها شتيمة، أو خروجٌ على الطاعة، أو علامة على الانحلال. وفي جميع الأحوال، تُوصم بالذنب.

من السهل طمس جسد امرأة بالسكين. الأسهل من ذلك طمس صوتها بسيلٍ من التعليقات. لا أحد سأل عن أطفالها. من سيشرح لهم يومًا أن أمهم لم تُقتل لأنها أخطأت، بل لأنها تجرّأت على الرفض؟ كيف سيكبرون في مجتمع يرى في “لا” تهديدًا يجب إسكاته؟ في مثل هذه الجرائم، لا تقتصر الخسارة على الضحية وحدها، بل تمتد إلى جيلٍ بكامله يُربّى على الخوف، والامتثال، وكتمان الألم.

لم يسأل أحد عن سبب رفضها، لم يفكّر أحد بخوفها. كل التركيز انصبّ على سلوكها المفترض، على نواياها. وكأن المشكلة ليست في القتل، بل في أن من قُتلت، تجرّأت أن تقول “لا”.

 

العودة كخطر لا كخيار

لكن لماذا ترفض النساء العودة؟ ليست المسألة دومًا سياسية أو اقتصادية. تحدثني صديقتي عن قلق العودة كامرأة، تسرد لي أسباب الرهاب النسائي لدى الكثيرات، إذ تعني العودة كتنازل عن حريةٍ لم يكن مسموحًا بها في سوريا، أو مواجهة ماضٍ لم يندمل، فهي ليست خيارًا سهلًا، بل هي بالنسبة الى كثيرات بمثابة العودة إلى القفص.

بعض النساء يعارضن العودة لأنهن وجدن في الغربة شيئًا من الحرية والاستقلالية. حصلن على فرص في التعليم والعمل، نلن بعض الامتيازات التي لم تكن متاحة لهن في سوريا، ما منحهن صوتًا واعتبارًا داخل العائلة، ومجرد التفكير في العودة يعني التنازل عن كل ما تحقق، والبدء من الصفر.

قسم آخر من النساء يرفضن العودة إلى قراهن أو مدنهن الأصلية بسبب تجارب اجتماعية سابقة من القلق والتضييق. كثيرات منهن ارتحن من التدخلات العائلية، ومن هيمنة الأقارب والجيران على تفاصيل حياتهن. في سوريا، يتدخل المجتمع في اللباس، في حرية الحركة، في القرارات الشخصية، ولا مكان للنساء اللواتي غيّرن قناعاتهن أو أشكالهن.

منهن من نزع الحجاب، من رسم وشمًا، من قررت أن تعيش وحدها. وفي بعض البيئات، يكفي تغيير شكل الحجاب ليؤدي إلى الإقصاء، وأخريات يرفضن العودة خوفًا من الانتهاكات السابقة. 

امرأة اغتُصبت على يد أحد أقاربها، وأخرى تعرضت لاعتداء جنسي أيضًا، وعندما روت قصتها انهارت ونُقلت إلى المستشفى، لا تستطيع أن تصارح أبناءها عما تعرضت له ولماذا ترفض الرجوع، ليس بإمكان هؤلاء العودة إلى أماكن تذكّرهن بالجريمة، أو بمن ألحق بهن الأذية.

بينما النساء الخارجات من معتقلات النظام السابق، فكثيرات منهن يؤرقهن القرار خوفًا من وصمة العار، إذ لا تزال مجتمعات كثيرة تنظر إلى المعتقلة على أنها “دنّست شرف العائلة”، بصرف النظر عن كونها ضحية، فبعضهن قُتلن على يد أقاربهن فور الخروج من السجن.

أمهات كثيرات أيضاً يخشين العودة خوفًا على مستقبل أبنائهن. بعض الأطفال لا يتحدثون العربية بطلاقة كونهم ولدوا في البلد المضيف أو ترعرعوا فيه، ما يعرّض الأم هنا للاتهام والتوبيخ بأنها أصبحت “الأجنبية” التي قصرت في تعليم أطفالها. أيضاً الطائفية من الأسباب. امرأة درزية تزوجت سنياً أو مسيحيًا، لا يمكنها أن تعود إلى منطقة ترفض هذا الزواج. لن تُغامر بسلامتها أو سلامة أولادها.

في حين يُستقبل بعض الرجال العائدين كمحاربين أو أبطال، تُوضع النساء تحت المجهر. يُفتَّش في ماضيهن، وكأنّ الغربة امتحانٌ دائم للنساء، ومجرد رغبة المرأة في البقاء تصبح تهمة. لكن حتى البقاء لا يوفّر خلاصًا. فإن كانت العودة محفوفة بالقيود والمخاوف، فالبقاء في المنفى لا يعني بالضرورة النجاة. إذ لا أحد يخرج سالمًا من ثقافةٍ شخص ما يرى في المرأة كائنًا ناقصًا، سواء بقيت أم عادت.

هذه ليست “جريمة شرف”، هذه جريمة قتل. هذه ليست “نهاية مأساوية”، هذه نهاية مخططة لبداية كانت تطلب النجاة.

 

جريمة مكرّرة

المرأة التي قُتلت في هاغن لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة. ففي 19 نيسان/ أبريل الماضي، وفي مدينة بيليفيلد التي لا تبعد سوى بضعة كيلومترات عنها، طُعنت امرأة سورية أخرى حتى الموت على يد زوجها، أمام أطفالهما. عمرها 43 عامًا، وعمره 44، والسبب، كما قال الجيران، خلافٌ على العودة إلى سوريا أيضًا.

تطابق مخيف، ليس فقط في التفاصيل، بل في ردود الفعل أيضًا. إذ سرعان ما انطلقت حملة التشكيك المعتادة: “أكيد كان في شي”، “يمكن كانت ناوية تتركه”، “مو الحق عليه”، تمامًا كما حدث لاحقًا في جريمة حزيران/ يونيو. بدل أن تُدان الجريمة، أُدينت الضحية. وبدل أن يُحاسب القاتل، حظي بمن يبرر له، بل ويتعاطف معه.

في المرتين، نُقل الأطفال إلى دائرة حماية القاصرين. وفي المرتين، بقي السؤال نفسه يتردّد في الفراغ: كم امرأة يجب أن تُقتل حتى نكفّ عن تسميتها حوادث فردية؟ كم “لا” يجب أن تُقال، قبل أن يُعترف بأن القتل صار وسيلة تأديب علنية؟ 

 

وهم النجاة

في كلتَي الحالتين، لا يكمن جوهر المسألة في المكان بحد ذاته، بل في البنية التي نحملها معنا حيثما ذهبنا. نحب أن نُقنع أنفسنا بأن الوصول إلى أوروبا يعني طيّ صفحة الماضي وإغلاق الباب خلفه. لكن الحقيقة أن المنفى لا يمحو شيئًا، بل يعيد ترتيب المشهد فحسب، وإنتاج الأسئلة القديمة في سياقات جديدة.

في بعض البيوت، تستمر البنى الأبوية كما هي، تتكيّف فقط مع البيئة الجديدة. تصبح أكثر توترًا، أكثر توجسًا من “الحرية”، وأكثر استعدادًا للانفجار عند أول تمرد. وفي حالات كثيرة، تصبح النساء أكثر عزلة. فبين ضغوط المجتمع الجديد، والعجز عن التواصل، والانفصال عن الأهل، يجدن أنفسهن محاصرات. لا هنا لهنّ، ولا هناك. لا شريكًا يسمع، ولا مجتمعًا يحمي. بعض النساء يخترن الصمت. بعضهن يخترن التحمل. بعضهن يقفن على حافة الرفض، كما فعلت الضحية. لكن حين ينهار الجدار، لا يُقتل العنف، بل هي تُقتل.  

 

خيار مفروض

في قلب هذه العزلة، تظهر قرارات مصيرية، مثل قرار العودة إلى سوريا،كقرار لم يعد محكومًا بوجود النظام، لكنه لا يزال محاطًا بالتعقيد. فحتى بعد سقوطه، لم تُبْنَ بعد بيئة مستقرة تكفل الأمان والعدالة، بخاصة للنساء. كثر من العائدين يصطدمون بواقع هش، وبنظرة مجتمعية قاسية تجاه المرأة المستقلة أو التي ترفض الخضوع. فكيف تُفرض العودة على امرأة، ثم تُلام لأنها خافت أو ترددت؟

إذ حين يقرر رجل العودة، يُحترم خياره. أما حين ترفض زوجته، فيُشكَّك في دوافعها. حين يقول: “اشتقت لبلدي”، يُحتفى به. أما حين تقول: “أخاف من العودة”، فتُتَّهم بالتخلّي أو سوء النية.

المفارقة أن كثيرات عدن فعلاً، تحت الضغط، فوجدن أنفسهن في بيئات أكثر هشاشة، من دون دعم كافٍ، ومن دون ضمانات للسلامة أو حتى حق التراجع عن القرار. لكن ذلك لا يدخل غالبًا في الحسابات. ما يدخل هو صورة المرأة “المطيعة”، حتى حين تكون المسألة حياة أو موت، ومع كل قرار تُدان عليه، يبقى السؤال معلقاً، من يحمي النساء؟

 

من يردع القاتل؟

حين تُقتل امرأة في المنفى، لا يكفي أن نقول: هذه جريمة. بل علينا أن نسأل: ما الذي جعلها ممكنة؟من شرّعها ثقافيًا؟ من غطّاها اجتماعيًا؟ من برّرها؟ من صمت عنها؟

المرأتان السوريتان اللتان قُتلتا لأنهما رفضتا العودة، لم تكونا ضحيتي حادثتين فرديتين، بل ضحيتين لبنية كاملة ترى في جسد المرأة ساحة حرب، وفي صوتها خطرًا يجب إخراسه. ضحيتا منفى لم يحمِهما، ومجتمع لم يعترف بحقهما في الاختيار، و”وطن” لا يزال يطاردهما، حتى وهما بعيدتان عنه. ربما لم تطلبا أكثر من أن تبقيا حيث شعرتا بالأمان، حيث بدأتا حياتهما من جديد. لكن “الأمان” وحده لا يكفي إذا كان محاطاً بكل هذا القبح.

المرأة لا تُقتل دائمًا بسكين. أحيانًا تُقتل بكلمة، بحكم، بتعليق، بصفقة صمت. والقاتل لا يكون رجلًا واحدًا فقط، بل مجتمعًا كاملًا قرر ألّا يرى. لا يكفي أن نحزن بعد كل جريمة، ولا أن نشعل شمعة في الظلام. الأهم أن نبدأ في تفكيك هذا الظلام، كلمة كلمة، بيتًا بيتًا، قانونًا قانونًا. أن نواجه جذور العنف، لا نتعايش معها. أن نفضح تلك السلطة الذكورية التي تلاحق النساء حتى في المنفى، حتى بعد أن يسقط الطاغية في الوطن ولا يسقط في البيت. أن نعيد تعريف الرجولة خارج منطق السيطرة، والهوية خارج منطق التملك.

نحتاج إلى مجتمعات تعلّم أبناءها أن المرأة ليست تابعة، ولا جارية، ولا “من أملاكه الخاصة”، إلى قوانين تحميها، لا أعراف تقيّدها، إلى أصوات لا تخاف تسمية الأشياء بأسمائها: هذه ليست “جريمة شرف”، هذه جريمة قتل. هذه ليست “نهاية مأساوية”، هذه نهاية مخططة لبداية كانت تطلب النجاة.


التعليقات