في وقت تحتاج فيه منطقة الشرق الأوسط إلى مزيد من الدعم لمواجهة تداعيات الحرب مع إيران، تأتي التخفيضات الحادة في ميزانية وزارة الخارجية، التي أقرتها إدارة ترامب، في توقيت بالغ السوء. فبخفض التمويل عن الشركاء الذين يواجهون أخطر وكلاء إيران في الإقليم، تُجازف الإدارة بتمكين محور طهران من التعافي بوتيرة أسرع.
كما ستُقوّض هذه التخفيضات قدرة واشنطن على تقديم مساعدات إنسانية منقذة للحياة في اليمن، وتقيّد جهودها للوصول إلى الشعب الإيراني، وتفسح المجال أمام كل من الصين وروسيا لتوسيع نفوذهما في حروب المعلومات، وذلك من خلال إلغاء شبكات حيوية مثل “صوت أمريكا” (VOA).
ويملك مجلس الشيوخ مهلة حتى 18 يوليو/تموز للاعتراض على هذه التخفيضات، إذ قدّمت الإدارة ميزانيتها عبر ما يُعرف بـ”مشروع قانون الإلغاء”، وهو إجراء نادر الاستخدام يمنح الكونغرس فترة زمنية محدودة للرد قبل دخول التعديلات حيّز التنفيذ.
• خفض كبير في ميزانية المساعدات بعد مراجعة شاملة
في يناير/كانون الثاني، أعلنت الإدارة أنها ستجمّد جميع برامج المساعدات إلى حين الانتهاء من مراجعة تهدف إلى تحديد ما إذا كانت هذه البرامج تجعل أمريكا “أكثر أمنًا، وأقوى، وأكثر ازدهارًا”. وقد استثنت المراجعة المساعدات العسكرية لكل من إسرائيل ومصر، بالإضافة إلى المساعدات الإنسانية المنقذة للحياة، التي تُنظر فيها على أساس كل حالة على حدة.
وفي شهادته أمام مجلس الشيوخ في 20 مايو/أيار، قدّم وزير الخارجية (ماركو روبيو) طلب ميزانية يبلغ 28.5 مليار دولار، وهو ما يقلّ عن نصف الميزانية السابقة، ويعد الأدنى منذ عام 2008. ويشكّل إلغاء ميزانية الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، البالغة 20 مليار دولار، نحو نصف هذه التخفيضات.
وقد خُصص ما يقرب من 11 مليار دولار من الميزانية الجديدة لتكاليف الإدارة والأمن في الوزارة والسفارات، مما يترك نحو 17.5 مليار دولار للمساعدات الخارجية العالمية. وبعد خصم 4.4 مليار دولار للمساعدات العسكرية لإسرائيل ومصر، يتبقى حوالي 13.1 مليار دولار فقط لتغطية الإنفاق في جميع أنحاء العالم.
• المستجدات في الميزانية
أبرز ما أضيف إلى الميزانية هو “صندوق الفرص أمريكا أولاً” (A1OF) بقيمة 2.9 مليار دولار، الذي يهدف إلى جعل وزارة الخارجية “أكثر مرونة في الاستجابة للأزمات أو التطورات العالمية”. وقد أشار الوزير روبيو إلى التحوّل السياسي في سوريا كمثال على نوع الأوضاع التي يمكن أن يستجيب لها الصندوق.
وتتميّز صيغة هذا الصندوق بقدر كبير من العمومية، مما يمنحه مجالًا واسعًا ليُستخدم في معالجة قضايا السياسة الخارجية التقليدية (مثل “دعم بعض من أقدم وأهم شركائنا، كالأردن”) أو في تسهيل تنفيذ سياسات الإدارة المتعلقة بالهجرة. كما يمكن استخدام A1OF لإعادة تمويل أنشطة الأمم المتحدة التي تركّز على المصالح الأمريكية وتعزّز مبدأ تقاسم الأعباء.
ومن بين المنظمات الدولية التي احتفظت بتمويلها: الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وحلف الناتو، ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، والمنظمة البحرية الدولية.
• الاستمرارية والتغيير في المساعدات الأمنية
تحافظ الميزانية المقترحة على حزمة المساعدات الأمنية البالغة 3.3 مليار دولار لإسرائيل، ضمن مذكرة التفاهم العشرية الموقعة عام 2018. (تُقدَّم معظم المساعدات الأمنية الأمريكية في إطار برنامج التمويل العسكري الخارجي FMF، الذي يزوّد الدول الشريكة بالمعدات العسكرية الأمريكية والتدريب وخدمات الصيانة).
كما يُبقي طلب وزارة الخارجية على 1.1 مليار دولار دعمًا عسكريًا لمصر، و200 مليون دولار للأردن، بالإضافة إلى خيار منح الأردن قروضًا وضمانات قروض بقيمة 2 مليار دولار. علمًا بأن المملكة الأردنية كانت قد تلقت سابقًا 350 مليون دولار من التمويل العسكري الخارجي.
ومع ذلك، خفّضت الإدارة بشكل كبير المساعدات لبعض الشركاء الأساسيين في وقتٍ كانت الولايات المتحدة بحاجة إلى الاستثمار في إضعاف إيران. فالميزانية لا تتضمّن أي تمويل للقوات المسلحة اللبنانية، في وقت يواجه فيه “حزب الله” المُنهك تحديات جنوب لبنان. لطالما واجه الجيش اللبناني صعوبات في تجنيد عناصره ودفع رواتبهم، خصوصًا في ظل الأزمات الاقتصادية الداخلية، مقارنةً بـ”حزب الله” الذي يحظى بتمويل وتسليح أفضل.
واليوم، وبعد أن وجّهت إسرائيل ضربة قوية لحزب الله، بدأ الجيش اللبناني يؤدي مهامه في مراقبة شروط وقف إطلاق النار وتفكيك مخازن السلاح. لكن قطع التمويل الأميركي التقليدي، الذي تراوح ما بين 100 إلى 150 مليون دولار، يعرّض هذه المهمة للخطر، ويمنح حزب الله—وبالتالي إيران—فرصة لتحقيق نصر طويل الأمد في لبنان.
ولا يقل أهمية عن ذلك دعم قوات الأمن العراقية، التي تواجه تحديات من الميليشيات. فوزارة الدفاع الأميركية تؤمّن الجزء الأكبر من برامج التدريب والتجهيز لهذه القوات عبر “صندوق مكافحة تنظيم الدولة”، إلا أن تمويلًا أمنيًا مهمًا آخر كان يُقدَّم مباشرة من خلال التمويل العسكري الخارجي، وقد بلغ 250 مليون دولار في عام 2023. لكن طلب ميزانية عام 2026 لم يأتِ على ذكر العراق، باستثناء أمن السفارة.
أما البرامج المتبقية من المساعدات الأمنية، فتتمثل في تمويل مكتب مكافحة المخدرات الدولية وإنفاذ القانون (INL)، وبرامج عدم الانتشار ومكافحة الإرهاب وإزالة الألغام (NADR). ومع ذلك، فقد تم تقليص ميزانية INL—المعني بتدريب جهات إنفاذ القانون—من 1.29 مليار دولار إلى 125 مليون دولار فقط، وهو ما يُضعف قدرة واشنطن على تدريب شركائها الأجانب لمكافحة الأنشطة الإجرامية التي قد تمسّ المواطنين الأميركيين.
كما أُجريت تخفيضات محدودة في برامج NADR، التي تُموّل منظمات دولية تعمل على تنفيذ القيود المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل، بما في ذلك تلك التي تُراقب البرنامج النووي الإيراني.
• إلغاء مساعدات التنمية والدعم الاقتصادي
تُلغي ميزانية عام 2026 بالكامل مبلغًا مشتركًا قدره 7.5 مليار دولار كان مخصصًا لمساعدات التنمية وصندوق الدعم الاقتصادي، وذلك بهدف “تبسيط الحسابات وضمان الاستخدام الأكثر فاعلية للتمويل المخصص للمساعدات الخارجية”.
ورغم أن معظم هذه الأموال لا ترتبط مباشرة بالأمن القومي، إلا أن هناك استثناءات بالغة الأهمية. الأردن يُعد المتضرر الأكبر، حيث سيخسر قرابة مليار دولار من الدعم المباشر للميزانية، وهو ما يشكل أكثر من 10% من إجمالي موازنته الوطنية.
أما باقي التخفيضات في مساعدات التنمية والدعم الاقتصادي، فقد كانت متوقعة إلى حد كبير، لكن إلغاء “صندوق دعم الديمقراطية الإقليمي للشرق الأدنى” (NERD) جاء في وقت يصعّد فيه النظام الإيراني حملة قمع داخلية واسعة النطاق.
وقد دعم هذا الصندوق—على مدى أكثر من خمسة عشر عامًا—منظمات حقوق الإنسان وحرية الإنترنت في إيران. ومنذ تأسيسه عام 2009 وحتى عام 2023، خصّص له الكونغرس 600 مليون دولار.
أما التخفيضات الإضافية في مساعدات التنمية، فستؤدي إلى إلغاء برامج حيوية تشمل: مكافحة التطرف العنيف، تعزيز القدرة على الصمود في وجه الصدمات البيئية، إصلاح التعليم، دعم حقوق الإنسان، وتطوير القوى العاملة.
ويبدو أن أياً من هذه المجالات لا يندرج ضمن أولويات الإدارة الحالية لجعل أمريكا أكثر أمنًا وقوة وازدهارًا.
• تقويض التعليم والثقافة والشؤون العامة
تُقلص ميزانية عام 2026 تمويل مكتب الشؤون التعليمية والثقافية (ECA) بنسبة 93%، من 741 مليون دولار إلى 50 مليون دولار فقط. وعلى مدى أكثر من ثمانين عامًا، نظم هذا المكتب برامج التبادل التعليمي والثقافي والمهني مع دول العالم، بهدف تعزيز التفاهم المتبادل. وقد أشارت مبررات ميزانية إدارة بايدن لعام 2025 إلى أن أكثر من 600 من رؤساء الدول الحاليين والسابقين و88 من الحائزين على جائزة نوبل هم من خريجي برامج ECA، بما في ذلك برنامج فولبرايت—أهم برامج التبادل الأكاديمي الذي من المتوقع أن يخسر كامل ميزانيته البالغة 247 مليون دولار.
وفي الوقت الذي تم فيه تقويض دور مكتب ECA، أبقت الإدارة على تمويل فيلق السلام (Peace Corps)، مبررة ذلك بأنه يجسد استراتيجية “أمريكا أولاً” من خلال بناء روابط مباشرة بين الشعوب، وتنمية قوى عاملة مستقبلية ناطقة بالإنجليزية لخدمة الشركات الأمريكية، وتعزيز العلاقات مع الحلفاء، ومواجهة نفوذ الخصوم.
ومع ذلك، تم إلغاء العديد من برامج المنح الدراسية التعليمية الأخرى التي كانت تهدف إلى تحقيق أهداف مشابهة.
كما ستُواجه الوكالة الأميركية للإعلام العالمي (USAGM)—المعنية بتعزيز حرية المعلومات والترويج للقيم الديمقراطية—تخفيضًا في ميزانيتها بنسبة 82%، من نحو 867 مليون دولار إلى 153 مليون دولار فقط. وتضم هذه الوكالة وسائل إعلام رئيسية مثل: صوت أمريكا (VOA)، وشبكة الشرق الأوسط للإرسال (MBN) الناطقة بالعربية، وصوت أمريكا بالفارسية (VOA Persian)—وهي جهات كان من المفترض تعزيز برامجها بدلًا من تسريح موظفيها، خصوصًا في ظل حملة القمع التي تشنها الجمهورية الإسلامية ضد الشعب الإيراني بعد الحرب.
الخاتمة
إذا تم إقرار مشروع قانون الإلغاء الذي اقترحته إدارة ترامب، فمن المرجح أن يلحق الضرر بعدد من المصالح الأمريكية، ولا سيما في منطقة الشرق الأوسط. كما أنه سيفشل في استثمار حالة الضعف التي تمر بها إيران، بعد سنوات من التحرك الأميركي والإسرائيلي المنسق، بما في ذلك الضربات الأميركية المكلفة ضد الحوثيين في اليمن وضد برنامج إيران النووي.
وسينتج عن ذلك أيضًا خفض التمويل الحيوي للقوات المسلحة اللبنانية وقوات الأمن العراقية، إضافة إلى إضعاف قدرة الأردن—أحد أبرز حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة—على الصمود.
في الوقت نفسه، فإن إلغاء التمويل لصندوق دعم الديمقراطية الإقليمي (NERD)، و”صوت أمريكا” (VOA)، وغيرها من أدوات البث الإعلامي، سيترك السرديات الاستبدادية دون منازع، مما يفسح المجال أمام الإعلام الصيني والروسي لملء هذا الفراغ. أما خفض المساعدات الإنسانية، التي لطالما شكّلت إحدى نقاط القوة التقليدية للولايات المتحدة، فسيُقيد قدرة واشنطن على الاستجابة في عدة ملفات، مثل مساعدة غزة في حال التوصل إلى اتفاق بين إسرائيل وحماس، أو التعامل مع الأزمة المستمرة في اليمن، أو تنفيذ رغبة الرئيس ترامب المُعلنة بدعم “سوريا الجديدة”.
وخلال جلسة لجنة المخصصات في مجلس الشيوخ بتاريخ 25 يونيو/حزيران، أعرب عدد من أعضاء اللجنة عن قلقهم البالغ حيال إلغاء برامج الصحة العالمية، وخسارة أدوات القوة الناعمة الأمريكية. ومع ذلك، وبعد التحركات العسكرية الكبرى التي نفذها الرئيس ترامب، يجدر بالمشرّعين أن يدركوا أيضًا مدى ما ينطوي عليه هذا المشروع من إضعاف للدور الأميركي في الشرق الأوسط.