أنا محجّبة وابنة أسرة دينية، لكن هذا لم يمنعني يوماً، من أن أنتقد “فرض الحجاب” على المرأة المسلمة، أو أن أحارب من يفرضه، وكثيراً ما تعرضت للانتقاد القاسي والمغلّف بالسخرية أحياناً، لأن رأيي لا يتلاءم مع مظهري، لكنني في كل مرة تحدثت فيها عن الحجاب، كنت أنطلق من موقع الشاهد، وهذا حق لي وعليّ، كي لا تقع امرأة في ما وقعت فيه من تناقض بين ما تريده وما يُراد لها، أي بين حرية الاختيار والفرض.
استباقاً لأي استنتاج، لم أفكر يوماً بخلع حجابي، كما أن حجابي لم يشكل عائقاً لي في حياتي العملية، ولم أحسد امرأة غير محجبة أو أغار من أخرى خلعت حجابها. تماهيت مع حجابي وأحببته، حتى أصبح بمثابة عضو من أعضاء جسدي، لا يمكنني الاستغناء عنه، أو العيش من دونه، لكن هذا كله لم يمنعني من البحث والتفكير في أسباب فرضه وإلزام النساء المسلمات به؛ وأنا منهن، ووجدت بعد عمر طويل، أنه الخطوة الأولى نحو قمع المرأة (المسلمة) ومصادرة رأيها وحريتها، وكلامي هذا ليس تكراراً لكليشيهات نسوية معاصرة، ولا استجابة لدعوات تهتم بتحرير الشكل فقط، إنما نتيجة لمراقبة أحوال النساء (المسلمات) ومتابعة أهوالهن، من ساعة الولادة حتى ساعة الرحيل.
لا أريد استحضار الآيات القرآنية، التي تعلّل بها المفسرون لاستنباط قانون الحجاب، فمن يعود إلى هذه الآيات، لا شك في أنه سيلاحظ أن أياً منها لم يذكر كلمة حجاب بالمعنى المتعارف عليه، أي غطاء الرأس أو اللباس المحدد للمرأة المسلمة (الجلباب)، ولا أريد استعادة الأحاديث النبوية التي اتّفق على أنها تدعم إلزامية الحجاب، فهي باعتراف الكثيرين من الباحثين؛ وهذا رأي يستحق المناقشة، ضعيفة تفتقر إلى اتصال السند (حديث ابن دريك مع السيدة عائشة) أو الدخول في الجدالات الفقهية، فما زال الفقهاء مختلفين حول ماهية الحجاب، هل هو تغطية الرأس والجسد مع كشف الوجه والكفين؟ أم هو النقاب والجلباب؟ أم التغطية الكاملة؟ إضافة إلى آراء أخرى لا يمكن حصرها، فهذه أمور تم تجميعها وترتيبها من زمان، ويتم ضخّها والتذكير بها عند كل فرصة.
ما أريد قوله على رغم أنه ليس جديداً، هو أن الحجاب مجرد عادة، تحوّلت بحكم العُرف إلى مظهر ديني، ليس أكثر، فمفسرو القرآن الأوائل الذين استسهلوا النقل وغلّبوه على العقل، لمحدودية معارفهم وضعف قدراتهم التحليلية آنذاك، فسروا “آيات الحجاب” بمعزل عن سياقها التاريخي وأسباب نزولها، فالنص القرآني أشار إلى أزياء مجتمعية وعادات وأحداث، تغيرت واندثرت وانتهت قبل زمان المفسر، ولم يقرّ مظهراً محدداً ساري المفعول للمرأة المسلمة في الأزمنة اللاحقة.
الحجاب إحدى أدوات الإسلام السياسي
لنصل إلى العصر الحديث، مع صعود الإسلام السياسي (السني والشيعي) بخاصة في أواخر السبعينيات، قاد عدد من رجال الدين والمثقفين الإسلاميين حملات لإعادة فرض ثقافة الحجاب، كأحد أهم الأسلحة للسيطرة على المجتمعات الإسلامية.
آنذاك، أعاد الإسلاميون إنتاج نسخة جديدة من الإسلام تتوافق مع مشروعهم السياسي، وحشدوها بكم من البدع، حتى إنهم خالفوا فيها نصوصاً لا تتلاءم مع مشروعهم، أو عطلوها، بحجة التأويل والتجديد والاجتهاد، لكنهم توقفوا عند مسألة الحجاب رافضين أية محاولة لإعادة فهم النص أو تأويله، لإدراكهم أهمية الحجاب كأداة أساسية للهيمنة على المجتمع.
وحتى يومنا هذا، ما زال الإسلام السياسي يطلق حملات لتشجيع النساء على ارتداء الحجاب، وآخرها بدعة “اليوم العالمي للحجاب” الذي أطلقته ناظمة خان في شباط/ فبراير 2013 في نيويورك، وهو نسخة مكررة عن حملة “حجابك أغلى من دمي” الذي أطلقته إيران الإسلامية في الثمانينيات.
سن التكليف
عودة إلى الحديث عن أحوال المسلمات وأهوالهن، يأمر المشرّعون (السنة والشيعة) الفتاة المسلمة بالحجاب ما إن تبلغ التاسعة من العمر، ففي هذه السن، تبدأ علامات البلوغ بالظهور على جسدها، الذي يأخذ بالامتلاء وثدياها بالبروز وخصرها بالتكور، ما يهيئها للانتقال من مرحلة الطفولة إلى مرحلة النضوج، فتصبح مكلّفة شرعاً بأداء الفرائض الدينية مثل: الصلاة، الصيام، والحجاب طبعاً، مع العلم أن الحريصين على تطبيق الشرع من الأهل والبيئة الحاضنة، لا يبذلون أي جهد يُذكر ليشرحوا لها دواعي الحجاب، لأن في ذلك مفسدة، ويكتفون فقط بإغرائها ببعض المال والهدايا والثياب والإطراءات، لكونها طفلة! فإذا أنعم الله عليها بعقل نقدي، كثرت أسئلتها واستفساراتها وتمردت، وإلا بخلاف ذلك تدجنت.
في هذه المسألة (سن التكليف)، حاول المرجع الشيعي الراحل السيد محمد حسين فضل الله، أن يتمايز قليلاً، فاشترط بروز “المفاتن” بشكل واضح! يعني أن من تأخّر عمل هرموناتها معفيّة من التكليف إلى حين!
أما النضوج بمعناه الجسماني هنا، فهو أن جسد الفتاة قد تحول إلى كيان مشتهى، يوقظ غريزة الرجل، فلذلك يجب عليها حجبه، لكي لا تصبح فتنة، وهو تفسير حرفي لمعاني المصطلحات الواردة في معجم المرأة والدين: الجسد، الفتنة، الغريزة، الشهوة، التي تصب كلها في خانة الجنس! وهذا يحيلنا إلى النظرة النمطية للأديان التوحيدية تجاه المرأة، باعتبارها رمز الخطيئة، ومنبع الفتنة والشر والرذيلة، وبذلك يصبح الحجاب أسهل الطرق وأسرعها إلى وأد هذه الفتن، وكلما بكّر المجتمع بتحجيب الفتاة، كلما انتصرت الفضيلة أبكر!
وحديثاً، انضمت المؤسسة التربوية الحزبية، إلى المؤسسة الدينية والعائلية والاجتماعية، في تزيين هذه الخطوة (الحجاب) للفتيات، وتصويرها كأنها دخول في ملكوت الله، فصارت تُقيم احتفالات سنوية للبالغات المكلّفات، وتخرّج كل عام، جيشاً من المحجبات المقولبات، وفق النموذج الذي ترتاح إليه سلطتها.
الحجاب وحرية الاختيار
استطراداً، هناك نساء مسلمات كثيرات يدّعين أن حجابهن كان اختياراً شخصياً ولم يُجبَرن عليه. باعتقادي أن الحجاب وحرية الاختيار نقيضان لا يجتمعان، لأن المسلمات منذ صغرهن، يتعرّضن لضغوط عائلية واجتماعية وسياسية ودينية هائلة، أقلها أن الالتزام بالحجاب فضيلة أخلاقية، وعدم الالتزام به فسوق وفجور وانحلال، ما يجعلهن مجبرات بشكل مباشر وغير مباشر على ارتدائه، وهذا يعني أنهن لا يملكن حرية الاختيار، بل حرية الإجبار.
حتى النساء اللواتي ارتدين الحجاب من دون أن يطلب منهن رجال العائلة ذلك (مثلي)، قد ارتدينه في الحقيقة تحت ضغوط كثيرة، على رأسها انعدام الجرأة على الاختلاف.
هناك الملايين من النساء في مجتمعاتنا الإسلامية لم ينصعن لرغبة الأب أو الشقيق أو الزوج أو المجتمع وتمرّدن على قانون الحجاب، وهناك أيضاً نساء كثيرات ارتدين الحجاب تحت إكراه عائلي أو مجتمعي، وهناك أخريات يضعن الحجاب كي لا يشعرن بأنهن شاذات عن القاعدة، ومنهن من يضعنه كي ينصهرن في الجماعة. ثمة ضغط مجتمعي ونفسي تقاسيه المرأة بخصوص جسدها وشعرها، يجعل سؤال الحرية في المجتمعات الإسلامية مطروحاً بشدة.
عن أي حرية نتحدث حين تعيش المرأة المسلمة في مجتمع يربط أخلاقها بحجابها، مجتمع لديه صورة طيبة عن المحجبة وسيئة عن غير المحجبة، مجتمع في أدبياته المحجبة أكثر تهذيباً من السافرة؟
بالإضافة إلى سؤال الحرية، هناك أسئلة أخرى ينبغي طرحها، مثل ربط الحجاب بالعفة والطهارة والفضيلة والحشمة، فكيف تكون تغطية الشعر مقياساً أخلاقياً؟ أليس هذا معناه أن من لا تغطي شعرها بلا أخلاق؟ وبالتالي أليس هذا تعدياً على كرامة (السافرة) وإنسانيتها؟ أليس هذا تسطيحاً لقيم الدين الحريص على عدم ربط الأخلاقيات بالمظاهر؟
ختاماً، على رغم هذا النقاش المتجدد حول مسألة الحجاب، ما زالت المرأة المسلمة، محجبة كانت أو سافرة، تسدد فاتورة الفهم الذكوري للحجاب الإسلامي من حساب حريتها الشخصية، وهي لم تختبر بعد أن تكون حرّة وخارج إطار أي سلطة، لنعرف ما إذا كان حجابها قناعة شخصية واختياراً حرّاً، وإلى ذلك الوقت، سيظل حجابها قمعاً مرئياً أو غير مرئي وضغطاً من أعلى قمم العائلة والمجتمع والدين والسياسة.