صباح الحادي والعشرين من مايو/أيار 2024، برأت محكمة كالاماتا الجنوبية اليونانية، في جلستها الأولى، تسعة مصريين اتهمتهم النيابة بتشكيل تنظيم إجرامي لتهريب البشر إلى أوروبا، والتسبب في غرق مركب هجرة، في "كارثة إنسانية" فُقد فيها ما يزيد على 750 مهاجرًا حسب آخر التقديرات. لم تستغرق المحاكمة 15 دقيقة، في واحدة من أسرع محاكمات اللاجئين في اليونان.
قبل هذا التاريخ بـ341 يومًا، دخلت قوة تابعة للشرطة اليونانية فجر الخامس عشر من يونيو/حزيران 2023 مخزنًا بمدينة كالاماتا، خُصص لإيواء مهاجرين تمّ إنقاذهم للتو من غرق المركب المعروف باسم "أدريانا" على حدود مدينة بيلوس اليونانية جنوب البلاد. كان من بين الناجين، المصريان أحمد عادل، 31 عامًا، ومحمد عماد، 25 عامًا، اللذان كانا لا يزالان تحت تأثير صدمة صراعهما مع الأمواج للخروج من بطن المركب الغارق.
أمسكت الشرطة بعادل وعماد، واقتادتهما مع سبعة ناجين مصريين آخرين إلى غرفة احتجاز تابعة لقسم شرطة كالاماتا. بعد وصولهم إلى مقر الاحتجاز، ألقى مُترجم سوري على المصريين التسعة ترجمة لقائمة اتهامات؛ أدناها تشكيل تنظيم إجرامي، وأخطرها التسبب في غرق مركب "هجرة غير شرعية" وفقدان غالبية من كانوا على متنه.
كان المصريون التسعة قبل 30 ساعة من وضعهم تحت طائلة القانون اليوناني مُكدَّسين على مركب صيد متهالك خرج من ميناء طبرق الليبية، فجر العاشر من يونيو 2023 متجهًا إلى إيطاليا؛ لكنّه ضل طريقه في البحر ليدخل المياه اليونانية ويغرق على بعد أمتار قليلة من سفينة تابعة لخفر السواحل اليوناني. فُقِد أثر غالبية من كانوا على المركب، فيما لم يُنقذ سوى 104 مهاجرين فحسب، وانتُشلت جثث 82 آخرين، في حادثة صنّفتها المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بأنها "قد تكون أسوأ مأساة بحرية في اليونان خلال السنوات الأخيرة".
يُشكل القبض على المصريين التسعة، بعد ساعات قليلة من وقوع "الكارثة"، نمطًا اعتادت السلطات اليونانية عليه منذ توقيع الاتحاد الأوروبي اتفاقية تشديد الحدود مع تركيا عام 2016، بهدف الحد من تدفق الهجرة غير الشرعية؛ إذ مع كل مركب هجرة يُضبط داخل المياه الإقليمية، يُلقي خفر السواحل اليوناني القبضَ على مجموعة من المهاجرين على متنه بتهمة التهريب وتشكيل تنظيم إجرامي، وهو نهج طفا على السطح منذ عام 2020، وتبنته السلطات اليونانية لتطبيق ما يُعرف بسياسة الـPushback أو "الدفع للخلف" لترهيب المهاجرين قبل الوصول إلى الحدود اليونانية؛ البحرية والبرية.
في هذا التحقيق نثبت ما تسبب فيه هذا النمط من مقتل لاجئين في عرض البحر، والزج بآخرين في السجن من دون أدلة؛ لمنع غيرهم من الوصول إلى اليونان، عبر تتبع مسار الرحلة الأخيرة لما يزيد عن 800 مهاجر من سوريا ومصر وجنسيات أخرى، بحثًا عن ملاذ آمن في أوروبا.
نكشف عن نهج يوناني رسمي لتشتيت الانتباه عن أسباب غرق المركب، بالزج بتسعة مصريين في سجن نافبيلو لمدة عام دون أدلة، قبل تبرئتهم في الجلسة الأولى من محاكمتهم، ونُحقق في الفخ الذي نُصبَ لهم، ونُجري لقاءات حصرية مع ناجين من داخل محبسهم، ومع مهرب ليبي متهم من الضحايا بأنه وثيق الصلة بالمركب الغارق باليونان في يونيو 2023.
يختلف محمد عماد، الذي قضى في السجن اليوناني 335 يومًا بتهمة تهريب البشر، عن كثيرين غيره من المهاجرين المصريين الذين قرروا الوصول إلى أوروبا عبر قوارب الهجرة غير الشرعية، في أنه تخرج من كلية الحقوق جامعة طنطا، وينحدر من أسرة متوسطة الحال تسكن المدينة نفسها. لكنّه مع ذلك، قرر كما قال لمعد التحقيق ألا يُجرّب حظه في مصر، وخطط للسفر إلى أوروبا عبر التهريب.
في فترة احتجازه في السجن اليوناني، ذهبنا إلى منزله في طنطا، بمحافظة الغربية، شمال العاصمة القاهرة، وتحدثنا مع أمّه غادة يوسف، التي قالت إنه بعد حصوله على ليسانس الحقوق، كان يُطلعها على صور زملائه، "دي يا ماما صور زمايلي وهما راكبين مراكب من ليبيا لأوروبا، ودي صورهم بعد ما وصلوا إيطاليا، أنا هسافر بنفس الطريقة مفيش خطورة، يعني ممكن أموت؟! ما أنا هنا في مصر لو ما حققتش أحلامي هاموت؛ فسيبيني أخوض المغامرة"، تنطق غادة بلسان ابنها، وتؤكد أنه سلك في البداية الطريق الشرعي بمحاولة الحصول على منحة دراسية من المركز الثقافي الإيطالي بالقاهرة، لكنه أخفق في ذلك.
على النقيض، فإن أحمد عادل "جرّب حظه" لسنوات عديدة في مصر؛ عمل في مهن مختلفة، آخرها عامل بناء باليومية في محافظة الشرقية، وهو متزوج ويعول ثلاثة أطفال بجانب والديه. ورغم ما كان يعانيه من تدهور مستمر لوضعه الاقتصادي، لم يُفكر في السفر إلا بعد وفاة رضيعه بسبب عدم تمكنه من توفير حَضَّانة لرعايته بعد الولادة إثر تعرضه لأزمة في الجهاز التنفسي.
يعيش أحمد مع أفراد أسرته السبعة في منزل من غرفتين بقرية حوض الندى مركز بلبيس بمحافظة الشرقية. تقول زوجته هدى إنها رفضت سفر زوجها بشكل قاطع، لكنّه استغرق وقتًا طويلًا في إقناعها، "بنتنا بتكبر ومش هقدر على مصاريف دراستها، وأنا عاوز أعلم أولادي كويس، ويكفي إن ابننا مات بين إيدينا وإحنا مش قادرين نوفر له فلوس الحَضَّانة"، تنقل على لسانه بعض حديثه لها.
الرابط بين محمد عماد وأحمد عادل أنهما خرجا على مركب يونيو الغارق، وكابدا الأمواج ونجيا من الموت، وحُبسا في زنزانة واحدة وبتهمة واحدة، وهما من ضحايا سماسرة الهجرة غير الشرعية التي تنشط في مصر لتهريب الشباب والقُصر إلى أوروبا، ومنحهم تذكرةً بلا عودة عبر الزج بهم في مراكب صيد متهالكة.
خرج محمد عماد من القاهرة بشكل شرعي إلى ليبيا، في 19 أبريل/نيسان 2023، عبر مكتب سفريات بالجيزة. دفع ما يقرب من 200 ألف جنيه، وفقًا لما حصلنا عليه من صور لبعض التحويلات المالية من أسرة عماد إلى سماسرة التهريب.
ولأن فاتورة سفر عماد كانت أعلى من غيره، لذلك مُنح ميزة انتظار إبحار المركب في منزل تابع لسمسار تهريب يُدعى "أ.س"، في شارع فلسطين بطبرق الليبية.
في المقابل، سافر أحمد عادل من محافظة الشرقية إلى مدينة السلوم الحدودية مع ليبيا، ليدخل طبرق بشكل غير شرعي. لم يدفع أيّ أموال إلا بعد وصوله ليبيا، وكان بصحبة صديقيه حسام وعبد الله؛ في 28 مايو/أيار 2023، استقبلهم مهربان من بدو مطروح، واصطحباهما مع آخرين عبر الدروب الصحراوية الحدودية إلى داخل ليبيا، ووصلا مزرعة زيتون تابعة للمهرب في طبرق، وظلوا بها لحين تجهيز المركب.
بعد وصول أحمد عادل إلى ليبيا دفعت الأسرة 140 ألف جنيه لمندوب تابع للمهرب في محافظة الشرقية، وفقًا لحديث وائل سند، صهر أحمد عادل وصديقه. يقول وائل "كانت خطة مُحكمة من المهربين، لأنهم سفروهم مجانًا من مصر، ثم حجزوهم في مخزن غير آدمي في ليبيا وبعدها قالوا لهم إما الدفع أو الموت". وثّقت أسرة أحمد عادل وقائع ما جرى مع المهربين عبر مراسلات على تطبيق واتساب حصلنا على نسخة منها.
في السياق تكشف تحقيقات أجرتها النيابة العامة المصرية، ما بين 4 يوليو/تموز و16 أكتوبر/تشرين الأول 2023 حول المركب نفسه، لدينا نسخة منها، أن شبكة التهريب التي نسّقت لشحن "مركب يونيو الغارق" براغبي الهجرة إلى أوروبا استخدمت في الأساس تطبيق فودافون كاش لإجراء التحويلات المالية بينهم وبين المهاجرين من جانب، وبين شبكة التهريب في ليبيا من جانب آخر.
الحصول على مركب صيد مُتهالك يَتْبَع نمطًا متكررًا وشائعًا بين المهربين، وفقًا لأحد الصيادين في مدينة رشيد الساحلية، الذي رفض نشر اسمه لاعتبارت السلامة. في البداية يُوفر الوسيط، وهو في أغلب الأحيان يعمل صيادًا، مركب صيد بزعم احتياجه للعمل بليبيا، ثم يُخرجه من الحدود المصرية عبر صيادين وبعض المهاجرين الذين يُدرّبون على قيادة المركب أثناء عملية الهجرة غير النظامية.
تواصُلنا مع الصياد من مدينة رشيد لأن مراكب الهجرة غير النظامية تُشترى غالبًا من المدينة نفسها، لأسباب فنية، تتعلق بعمق حوض القارب ومساحته الأكبر، وعدد الغرف الأكثر، مقارنة بمراكب الصيد الأخرى. ووفقًا لمصدرين يونانييّن وثيقي الصلة بتحقيقات النيابة اليونانية في القضية، فقد اشترى المهربون "مركب يونيو 2023 الغارق على حدود اليونان تحت اسم المتوكل".
على الرغم من أن المصادر لم تُحدد يوم خروج المركب من مصر، فإنها أشارت إلى إبحاره من مدينة رشيد المصرية أواخر شهر مايو 2023، وعلى متنه عدد قليل من المهاجرين/الصيادين من رشيد ومن إحدى قُرى مركز مطوبس بمحافظة كفر الشيخ، من بينهم "م. أ. ع" البالغ 21 عامًا، الذي نحتفظ بكامل بياناته، وتمّ تزويده بتعليمات لتسيير أمور المركب خلال فترة مكوثه في عرض البحر بعد وصوله ليبيا. كانت مهمة "م. أ.ع" ورفاقه هي قيادة المركب وصيانته، وضبط عملية توزيع المياه والطعام على المركب، في مقابل حصولهم على رحلة هجرة مجانية إلى أوروبا، وفق قوله.
في طريقنا للبحث عن آلية تجميع مئات المهاجرين على مركب واحد، واستقطاب آخرين للهجرة مجانًا، تواصلنا مع أحد المهربين الليبيين، الذي اتهمه أحد أهالي ضحايا مركب المتوكل الغارق، بأنه من بين المسؤولين عن عملية التهريب، ويُطلق على نفسه اسم "الحاج محمد". لم نُخبر المهرب في البداية بهويتنا الصحفية، لكننا أخبرناه بأننا نرغب في الهجرة إلى أوروبا.
سألنا المهرب الليبي، "ليست لدينا أموال كثيرة لندفعها، هل يمكن أن نعمل معكم ونحصل على رحلة شبه مجانية؟"، قال لنا المهرب "تبغي شغل معانا ولا تمشي لإيطاليا بروحك؟ لو اشتغلت معنا ما بتدفع، تجيب لنا من 20 لـ40 نفر وتركب أنت وياهم، وأنت أكيد عندك قرايب وناس".
وفقًا لحديث المُهرب، وشهادة من تحدثنا معهم من الناجين أو ذويهم، فإن المهاجرين على "مركب المتوكل" انقسموا إلى ثلاث فئات، وفق المبلغ المدفوع؛ وإن كانوا جميعًا مهاجرين لاذوا بالفرار من بلدانهم بحثًا عن حياة أُخرى في أوروبا، بما فيهم طاقم المركب الذي تولى قيادته.
تُشير المبالغ التي دفعها محمد عماد وأحمد عادل للمهربين إلى أنهما كانا من الفئة الثانية، إذ "حُشروا" على سطح المركب بجوار الماكينة. كان محمد عماد على تواصل دائم مع والدته قبل الصعود إلى المركب، لذلك أرسل لها موقعًا جغرافيًا لآخر مكان تمّ تخزينهم فيه قبل نقلهم بعد يومين إلى مكان آخر بالقرب من الشاطئ الذي انطلقوا منه إلى المركب المُستقر في عرض البحر. تُشير إحداثيات ذلك الموقع إلى أن "مركب المتوكل" كان بالقرب من نقطة بحرية يُطلق عليها منارة أم الشاوش شرق طبرق الليبية.
بعد وصول المركب إلى شرق مدينة طبرق، جرى محو اسم "المتوكل" لقطع الصلة بين الاسم القديم والسماسرة الذين اشتروه، وحتى لا تصل سلطات التحقيق في أيّ بلد إلى المهربين. فيما بعد، حمل المركب اسم "أدريانا" وتناقلته البيانات اليونانية الرسمية، ومن خلفها وسائل إعلامية متعددة.
وفقًا لإحداثيات الموقع الذي أرسله محمد عماد إلى والدته، قبل صعوده المركب مباشرة، فإن "المتوكل" غادر فجر السبت 10 يونيو 2023 بالقرب من منطقة أم الشاوش، مبحرًا باتجاه إيطاليا، قبل أن يضل طريقه إلى المياه اليونانية، بعد نفاد المياه والطعام، وتعطل مُحرك المركب أكثر من مرة.
تدهور الحال بالمهاجرين، ولم يجد الكثيرون على المركب إلا مياه البحر والماء المستخدم في خزان المُحرك للنجاة من العطش، وفقًا لشهادة محمد عماد وأحمد عادل، وبعض الناجين، الذين أرسلوا استغاثات متكررة بعد وفاة ثلاثة باكستانيين بجانب قبطان المركب نفسه، "م.أ.ع"، مع ازدياد حالات الإغماء بين المهاجرين.
وثقت منظمة Alarm Phone، التي تعمل في إغاثة المراكب بالبحر المتوسط، المسار الزمني لاستغاثة المركب من أجل إنقاذه، الذي يُشير إلى تقاعس السلطات اليونانية، كونها لم تستجب لتلك الاستغاثات إلا بعد مرور ما يزيد على 13 ساعة.
في بيان رسمي أوضح خفر السواحل اليوناني أن السفينة التابعة له ظلت تُراقب المركب عن بعد، مبررًا ذلك بأن المهاجرين على المركب "كانوا يرغبون في الإبحار إلى إيطاليا، ولا يريدون أيّ مساعدة من اليونان".
تكشف Alarm Phone في هذا السياق أن المهاجرين على المركب كانت لديهم خشية كبيرة من التعامل مع السلطات اليونانية؛ بسبب النهج المتكرر للسلطات ضد المهاجرين على حدودها البحرية والبرية. وأضافت، "المهاجرون يدركون ممارسات الصد المروعة والممنهجة التي تمارسها السلطات اليونانية، وهي ممارسات أقرها الاتحاد الأوروبي نفسه".
لقد أصبحت اليونان "درع أوروبا"، وفقًا لوصف رئيسة المفوضية الأوروبية فون دير لاين، من أجل منع المهاجرين بالقوة من دخول أوروبا. ووفقًا لمؤسسة Statewatch البحثية، فإن الاتحاد الأوروبي مَنح اليونان بين 2014 و2020 تمويلًا قدره مليار و280 مليون يورو لدعمها في ملفي اللجوء وحماية الحدود، وبين 2021 و2027 تضاعف الدعم ليصل إلى مليارين و500 مليون يورو تحصل عليها اليونان على دفعات.
وقت أن كانت سفينة خفر السواحل اليوناني تُراقب عن بُعد الوضع الخطير لمركب المتوكل، كان أحمد عادل وصديقاه حسام وعبد الله عند أعلى نقطة على سطح المركب، وتسبّب التعب ونقص المياه في نوم محمد عماد بجوار المُحرك؛ بعدها أيقظه صديقه إسلام مع اقتراب مركب خفر السواحل أخيرًا من مركبهم.
"كنت بموت من رائحة ماتور المركب والسولار، وبعدين طلعت فوق جنب خزان مياه ماتور المركب، وكان جنبي أطفال بتموت من العطش، كنت ببللهم التيشرت بتاعي من خزان الميه بتاع الماتور وأعصره على وشهم عشان يشربوا"، يقول عماد.
ونقلت أم عماد عن ابنها قوله إن "المهاجرين لم يرفضوا إطلاقًا المساعدة من سفينة خفر السواحل، لأنها لم تعرض المساعدة أصلًا، لكنهم أصيبوا بالإحباط عندما علموا أن القارب دخل المياه اليونانية، لأنهم كانوا على علم بالتعامل السيئ من جانب اليونان تجاه مراكب اللجوء".
منذ عام 2020، ذاع صيت اليونان فيما يُعرف بممارسة عمليات الـ Pushback أو دفع مراكب الهجرة خارج حدودها، وهو ما يُفسر محاولة المهاجرين على قارب المتوكل الابتعاد عن الحدود اليونانية ودخول المياه الإيطالية.
تقول منظمة Alarm Phone في عدة تقارير وثقتها ما بين 24 فبراير/شباط 2020 حتى يناير/كانون الثاني 2024 إن آلاف المهاجرين تعرضوا لإطلاق النار والضرب، بالإضافة إلى تعمد عدم إنقاذهم في البحر من قبل السلطات اليونانية. "يَعلم المهاجرون تمامًا أن الاحتكاك مع خفر السواحل اليوناني أو الشرطة اليونانية أو حرس الحدود اليوناني يعني لهم العنف والألم، وبسبب عمليات الإعادة القسرية خارج حدود اليونان. تحاول مراكب الهجرة تجنب اليونان، وتقطع مسافات أطول بكثير وتخاطر بحياة من عليها في البحر".
عبْر خريطة تفاعلية، وثقت Alarm Phone حالات "لا حصر لها"، وفق وصفها، من دفع حرس الحدود اليوناني للمهاجرين والمراكب قسرًا إلى خارج الحدود؛ ما تسبّب في وفاة كثيرين.
وتضيف Alarm Phone في بيان نشرته في يونيو 2023 "لكننا وثقنا أيضًا حالات انقلبت فيها مراكب مهاجرين، محملة بحمولة زائدة لأنها سلكت طرقًا أطول، في محاولة لتجنب القوات اليونانية. إن رغبة اليونان في منع وصول البشر إلى أراضيها أقوى من الحاجة إلى إنقاذ مئات الأرواح".
تتفق بيانات Alarm Phone المتعددة حول السياسة اليونانية في صد المهاجرين، مع إحصاءات رسمية صادرة عن الاتحاد الأوروبي، ومنظمات أوروبية تعمل على رصد الانتهاكات ضد اللاجئين إلى أوروبا عبر اليونان. ووثقت Forensic Architecture، وهي مؤسسة بحثية بجامعة لندن، ألفين و10 حوادث عنف، وإعادة قسرية للاجئين (Drift-backs) قامت بها قوات حرس الحدود والشرطة اليونانية، ما بين 2020 و2023، أسفرت عن طرد 55 ألفًا و445 راغب لجوء، بجانب توثيق إلقاء خفر السواحل اليوناني على 32 راغب لجوء مباشرة في البحر، ووفاة 24 آخرين وتسجيل 17 حالة اختفاء.
وفي 11 يناير 2024 وثقت منظمة Aegean Boat Report (ABR) اختباء 46 مهاجرًا، من بينهم 21 طفلًا، بإحدى الغابات بعدما رسا قاربهم على جزيرة ليسبوس، وذلك خشية إعادتهم قسرًا إلى الحدود البحرية التركية من جانب السلطات اليونانية.
نتيجة لهذه السياسة، أحالت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ثماني قضايا من إجمالي 47 رُفعت ضد اليونان، في الفترة ما بين يناير وديسمبر/كانون الأول 2021، للانتهاك "الممنهج لحقوق الإنسان على حدودها".
وفي 7 يوليو 2022 و16 يناير 2024 أدانت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان اليونان لانتهاك الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان بشأن المعاملة المهينة للاجئين وانتهاك حقوق ناجين وفرض إجراءات قضائية تعسفية ضدهم، وإطلاق خفر السواحل اليوناني النار المميت على أحد اللاجئين.
وعلى الرغم من هذه الإدانة، فإن السلطات اليونانية استمرت في نهج الدفع بالمهاجرين قسرًا إلى خارج حدودها؛ وفقًا للخريطة التفاعلية لـFA. وفي هذا السياق، قالت المفوضية الأوروبية للاجئين والمنفيين ECRE، وهي تحالف يضم 127 منظمة غير حكومية في 40 دولة أوروبية، إن عمليات الإعادة القسرية للاجئين مستمرة خلال عام 2024، عبر إجبار المهاجرين على الخروج من المياه اليونانية.
هذا السجل السابق في صد مراكب الهجرة قبل الاقتراب من البَر اليوناني، يُشير إلى المصير الذي كان ينتظره "مركب المتوكل"، إذ ظل يصارع الغرق منذ صباح الثالث عشر من يونيو 2023 حتى فجر اليوم التالي وذلك تحت نظر سفينة PPLS 920، التابعة لخفر السواحل اليوناني.
في الثانية صباحًا بتوقيت اليونان، قال بيان رسمي صادر عن حرس الحدود اليوناني، إن سفينة خفر السواحل رأت المركب "ينحرف بدرجة كبيرة يمينًا، ثم يسارًا، ثم يمينًا مرة أخرى، ما أدى إلى انقلابه. وبعد مرور نحو 10 إلى 15 دقيقة؛ غرق بالكامل وسقط عدد من ركابه في البحر".
لكنّ هذا البيان الرسمي، الصادر عن السلطات اليونانية، يُخالف كل الشهادات التي أدلى بها الناجون لنا وللنيابة اليونانية، مؤكدين أن سفينة خفر السواحل ربطت مركبهم بحبل وجرته بقوة ما أدى إلى انقلابه.
لم ينجُ من الغرق سوى 104 مهاجرين فقط، من بينهم محمد عماد وأحمد عادل، وتمّ انتشال 82 جثة وفُقد أثر ما يزيد على 750 شخصًا في بطن البحر. يصف لنا محمد عماد اللحظات الأخيرة لمركب المتوكل، وتتفق شهادته مع شهادة ناجين آخرين من جنسيات مختلفة، أدلوا بها إلى النيابة اليونانية ولوسائل إعلامية مختلفة.
"في اللحظات الأخيرة أيقظني صديقي إسلام ليخبرني بأن مركب خفر السواحل قام بربط المركب لسحبه، لكن بعد دقائق قليلة؛ تمّ سحب المركب بقوة من جانب سفينة خفر السواحل، ما أدى إلى غرق المركب… تمكنتُ من السباحة لكن صديقي إسلام اختفى وسط الأمواج وغرق، صراخ الأطفال أثناء الغرق دفعني إلى العودة مجددًا إلى المركب، وقمت بسحب اثنين من الصغار، ووصلت بهما قرب مركب خفر السواحل".
وفقًا لشهادات الناجين، انسحبت سفينة خفر السواحل PPlS-920 بعيدًا عن موقع الغرق، ثم بعد نحو نصف ساعة وهي مدة وصفها الناجون بالطويلة، أضاءت أضواءها على موقع حطام المركب. حاول الناجون السباحة إلى سفينة خفر السواحل، لكن المسافة كانت بعيدة. كانت PPlS-920 مزودة بكاميرات تقول الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل (فرونتكس) إنها تعمل وتُسجل تلقائيًا كل العمليات التي تقوم بها السفينة. لكن في اليوم التالي للحادث، قال خفر السواحل اليوناني إن كاميرات المركب كانت مُعطلة ولا تعمل.
يكشف تقرير رسمي صادر عن فرونتكس عن ممارسات سابقة قامت بها السلطات اليونانية على نفس النهج الذي تعاملت به سفينة خفر السواحل مع "المتوكل" عبر سحب مراكب الهجرة بالقوة خارج المياه اليونانية. وفيما يتعلق بالمركب الغارق، قالت فرونتكس إنها عرضت المساعدة ثلاث مرات على خفر السواحل اليوناني للمشاركة في عمليات الإنقاذ، إلا أن اليونان لم تستجب. لذلك يعزو بعض الناجين الـ104 في شهاداتهم أمام الشرطة والنيابة اليونانية غرق المركب إلى محاولة خفر السواحل سحبه وقطره بقوة إلى المياه الإيطالية، وليس لإنقاذهم.
صباح يوم الحادث، أعلنت اليونان الحداد الوطني ثلاثة أيام على ضحايا المركب. وفي المساء اقتادت الشرطة بمدينة كالاماتا تسعة من الناجين، جميعهم مصريون، إلى الاحتجاز بتهمة تشكيل تنظيم إجرامي لتهريب البشر إلى أوروبا، والتسبب في غرق المركب. كان محمد عماد وأحمد عادل من بين المتهمين.
تقول والدة أحمد إنها علمت بخبر غرق المركب ووفاة عبد الله صديق أحمد، في صباح اليوم التالي للحادث؛ وفي مسائه انتشرت صورة لأحمد ناجيًا وملفوفًا ببطانية على مركب خفر السواحل. بينما لم يصل خبر نجاة محمد عماد إلى والدته إلا بعد القبض عليه.
تقول لنا والدته غادة إنها شعرت بعد غرق المركب كأن قلبها توقف لمدة يوم كامل، خاصة بعدما علمت من أسرة إسلام، صديق محمد، بأن ابنهم لم يكن من ضمن الناجين. وفي اليوم التالي كانت تتابع السوشيال ميديا بحثًا عن محمد، فوجدت صورة له أثناء اقتياده إلى الحجز من جانب الشرطة اليونانية.
رفضت الشرطة اليونانية طلبًا قدمه محمد عماد بعدم ترجمة أقواله من العربية إلى اليونانية، والدفاع عن نفسه باللغة الإنجليزية التي يُجيدها كما يقول، ويضيف من داخل سجنه "أنا أول ما دخلت الكامب، واحدة من ضباط الشرطة التي حقّقت معنا، خدت شاب سوري وقالت له نعمل صفقة. مشفتوش بعد كدا. أنا كمان وقت التحقيق معايا، اتقال لي: حدِّد 5 من أفراد الطاقم وارجع للكامب. قلت لهم أنا معرفش حد من الطاقم". يتوافق حديث محمد لنا مع شهادة أدلى بها ناجون وذووهم فيما بعد بأن عناصر من الشرطة اليونانية "طلبوا منهم اتهام المصريين التسعة بإغراق القارب".
بعدما قررت النيابة اليونانية في كالاماتا نقل المتهمين المصريين التسعة إلى سجن نافبليو، جنوب البلاد، على ذمة التحقيقات، تمكنا من تسجيل ثلاث مقابلات مع محمد عماد عبر الهاتف من داخل محبسه. في المكالمة الأولى، لم يكن محمد قد أفاق من صدمات غرق القارب وفقدان صديقه إسلام واتهامه بالتهريب والتسبب في الحادث.
قال لنا "كل المصريين المتهمين من محافظات مختلفة، وأنا عن نفسي معرفش حد منهم إطلاقًا، وكل إللي كنت جنبهم على المركب كانوا باكستانيين وثلاثة مصريين… صحابي غرقوا كلهم للأسف، إزاي نبقى متهمين بأننا شبكة تهريب واحنا منعرفش بعض أصلًا؟ الشرطة اليونانية صادرت موبايلي والنيابة رفضت تفحصه رغم إن عليه دليل براءتي؛ من صور للتحويلات المالية إلى المهربين، والرسائل بيني وبينهم، إزاي أبقى مهرب وأدفع الفلوس دي كلها للهجرة؟ كمان قمتُ بتصوير اللحظات إللي سبقت غرق المركب، وكثير من المهاجرين صوروا كمان. الموبيلات دى مُصادرة وعليها دليل براءتي وإدانة خفر السواحل اليوناني".
لم يُعلن خفر السواحل اليوناني في البداية عن مصادرته 21 هاتفًا من هواتف الناجين؛ حتى قرر ضباط خفر السواحل على السفينة PPlS-920 بعد عشرين يومًا من الحادث، في 7 يوليو 2023، الإبلاغ عن "العثور" عليها "منسية في كيس بلاستيكي داخل السفينة التي قامت بعملية الإنقاذ"، فتم تسليمها إلى النيابة، لذلك طلب محامو المتهمين المصريين والناجين بإضافة هذه الهواتف إلى ملف القضية، إلا أن النيابة اليونانية رفضت الطلب.
لم تُغطِ قضية المصريين التسعة المتهمين بالتهريب على كارثة غرق المركب؛ إذ أعرب أعضاء بالبرلمان الأوروبي عن "مخاوف شديدة بشأن الادعاءات الخطيرة والمتواصلة الموجهة ضد السلطات اليونانية" بسبب ممارستها ضد المهاجرين، والتورط في عمليات الإعادة القسرية من البحر. فيما قالت لنا المحامية يوانا بيجازي، من مشروع Human Right Legal باليونان، إن توجيه هذا الاتهام إلى المصريين التسعة لا يستهدف سوى إبعاد الأنظار عن السلطات اليونانية التي أدت إخفاقاتها المتعمدة إلى مأساة مركب المتوكل.
كان الزج بالناجين المصريين التسعة في القضية يُشبه الفخ الذي نُصب لهم من أجل إبعاد الأنظار عما جرى ليلة غرق مركب المتوكل، لتصبح تغطية الحادث قاصرةً على المتهمين وشبكة التهريب، والابتعاد عن تفاصيل حادثة الغرق. تؤكد هذا التصور وثائق رسمية مصرية حصلنا عليها.
في يوليو 2023، بعد أيام قليلة من الحادث، شكلت وزارة الخارجية المصرية لجنة من بعثتها الدبلوماسية في اليونان لبحث قضية المتهمين المصريين في السجن اليوناني. بعد انتهاء مهمة اللجنة، أرسلت وزارة الخارجية المصرية مذكرة إلى إدارة التعاون الدولي في النيابة العامة المصرية تكشف جانبًا مثيرًا في القضية.
ووفقًا للوثيقة، التي حصلنا على نسخة منها، فإن اللجنة التابعة للخارجية المصرية خلُصت إلى أنه "في محاولة من السلطات اليونانية لتشتيت الانتباه عن دورها في الحادث، وجهت التهمة للمواطنين المصريين، باستخدام مترجم لا يقوم بترجمة سليمة لشهادات الناجين، وهو أمر معتاد مؤخرًا في حوادث الهجرة غير النظامية في اليونان؛ ولكنّ الجديد في الأمر هو دور خفر السواحل، الذي تسبب في غرق المركب (...) كما تحتفظ (السلطات اليونانية) بالهواتف المحمولة للناجين والتي تُفند الرواية التي تدعيها عن ملابسات الحادث".
احتجاز الناجين المصريين التسعة سريعًا، بعد ساعات قليلة من الحادث، واتهام النيابة اليونانية لهم بالتهريب والتسبب في إغراق المركب، يُشيران إلى نمط اعتادت عليه السلطات اليونانية منذ عام 2020 في التعامل مع مراكب الهجرة التي تصل إلى حدودها؛ إذ يتمّ توجيه اتهام عشوائي لبعض المهاجرين على المراكب التي تصل حدود اليونان، بأنهم المهربون المسؤولون عن المركب وإبحاره.
ووفقًا لدراسة أعدتها منظمة borderline-europe الألمانية، حتى نهاية فبراير 2023، أيّ قبل ثلاثة أشهر فقط من حادثة مركب المتوكل، بلغ عدد السجناء في السجون اليونانية، الذين صدرت بحقهم إدانات بتهريب البشر ، ألفين و154 سجينًا، ما يجعلهم ثاني أكبر مجموعة من السجناء؛ إذ يبلغ عدد نزلاء السجون في اليونان 10 آلاف و723 سجينًا؛ 20% منهم مهاجرون متهمون بتهريب البشر. وفي عام 2022، وصل هذا النمط ذروته، إذ تم القبض على ألف و374 مهاجرًا على الأقل بتهمة تهريب البشر.
تقول الدراسة "الاعتقالات والتحقيقات الأولية مليئة بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان؛ بما في ذلك الاعتقالات التعسفية والعنف والإكراه للمهاجرين، وقلة أو انعدام إمكانية الحصول على الترجمة الفورية أو المساعدة القانونية، ومشكلات الوصول إلى إجراءات طلب اللجوء أثناء الاحتجاز".
وتضيف أن إجراءات التحقيق والاحتجاز تُتخذ على أساس أدلة محدودة ومشكوك فيها، مثل شهادة ضابط شرطة واحد، أو عنصر وحيد من خفر السواحل. وعلى الرغم من ذلك، لم يَمثُل ضباط الشرطة أو خفر السواحل للاستجواب أمام المحكمة في 68% من تلك القضايا، التي لا توجد بها أيضًا جلسات استماع موضوعية أو استجواب للشهود، ولكن بدلًا من ذلك، يتفاوض الدفاع على صفقة مع المدعي العام عبر ما يُعرف بـ"الإقرار بالذنب" مقابل أحكام مخففة.
تُشير المحامية اليونانية إيفي ذوسي، المستشارة القانونية لمنظمة HIAS لدعم اللاجئين، إلى أن نتائج الدراسة السابقة تتشابه في أجزاء كبيرة منها مع قضية المتهمين التسعة الناجين من حادثة مركب المتوكل، إذ إن المعلومات التي تُنشر من وقت لآخر حول قضايا مختلفة تُشير إلى أن تلك القضايا جميعها تتبع نهجًا ونمطًا محدَّدَين يهدفان إلى إلقاء اللوم على مهاجرين وصلوا مع أيّ مجموعة إلى الحدود اليونانية بغرض اللجوء.
في حادثة مركب المتوكل، ظل المصريون التسعة محتجزين في سجن نافبليو جنوب البلاد، رافضين الاعتراف بالجريمة، فيما تطابقت أقوالهم بأنهم كانوا مجرد مهاجرين دفعوا للمهربين فاتورة السفر، بعدها رفضت النيابة اليونانية طلب محاميهم الإفراج الشرطي عنهم على ذمة القضية. وفي أغسطس/آب 2023، زارت اللجنة المشكلة من وزارة الخارجية المصرية المتهمين في سجنهم لبحث القضية.
بعد الزيارة، رفعت اللجنة مذكرة إلى الخارجية المصرية قالت فيها "أفاد المصريون المحتجزون بأن عددًا من الضباط اليونانيين زاروهم في السجن، وادعى هؤلاء الضباط بأنهم من الإنتربول واستجوبوهم وهددوهم بالسجن مدى الحياة، في حال لم يقوموا بالاعتراف بالجريمة، قال هؤلاء الضباط إن لليونان علاقات ممتازة مع مصر، وإنهم قد يقومون بالقبض على ذويهم في مصر والتنكيل بهم"، من أجل إجبارهم على الاعتراف على أنفسهم في اليونان بأنهم مهربون.
قبل تشكيل لجنة وزارة الخارجية المصرية ووصولها إلى اليونان لبحث قضية المتهمين المصريين، كانت مصر، التي تُشارك اليونان تحالفًا غير مسبوق منذ عام 2019، بدأت عمليات مطاردة لسماسرة الهجرة غير النظامية، في أعقاب توتر شهدته محافظات مصرية، في اليوم التالي لغرق مركب المتوكل.
وبعد 11 يومًا من التحريات، أصدرت إدارة التعاون الدولي بالنيابة العامة إذنًا في 25 يونيو 2023 إلى إدارة مكافحة الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر بوزارة الداخلية بضبط مَن اتهمهم الأهالي بمسؤوليتهم عن هجرة أبنائهم على مركب المتوكل.
وفقًا لما حصلنا عليه من وثائق، استندت تحريات الداخلية المصرية إلى معلومات أدلى بها سماسرة يعملون في تهريب الشباب إلى الخارج، وإلى شهادات أهالي المهاجرين المصريين على المركب؛ الناجين والمفقودين، والذين قدموا أسماء المهربين الذين دفعوا لهم الأموال من أجل تهريب أبنائهم. بحسب مذكرات الضبط والإحضار، الصادرة من قطاع مكافحة جرائم الأموال العامة والجريمة المنظمة بوزارة الداخلية، خلُصت التحريات والتحقيقات إلى اتهام 35 مصريًا وليبيًا واحدًا بالمسؤولية عن مركب المتوكل، يتزعمهم "م.س.أ" (35 سنة)، ليبى الجنسية وشهرته أبو سلطان، وهو الاسم نفسه الذي أشار إليه ناجون بمسؤوليته عن المركب. ضبطت الشرطة المصرية 23 منهم، في حين لم يتم القبض على الـ13 الآخرين.
يُلاحظ من تحقيقات النيابة المصرية أنه تمّ القبض على ثلاثة متهمين من البلدة نفسها التي خرج منها المهاجرون في 3 يوليو 2023، وهم الذين تولوا مهمة قيادة المركب. وفقًا للتحقيقات، فقد كشف الفحص الفني لهاتف أحدهم "ح.م.أ" أنه التقط صورة لقبطان مركب المتوكل "م.أ.ع"، وبدأ بالبحث عنه على السوشيال ميديا في اليوم التالي لغرق المركب.
في 8 يوليو 2023، أرسلت النيابة العامة المصرية إلى نظيرتها اليونانية ما توصلت إليه التحريات والتحقيقات المبدئية في قضية شبكة التهريب المسؤولة عن مركب المتوكل، وطلبت من اليونان التعاون القضائي بإرسال ما توصلت إليه تحقيقات النيابة اليونانية مع الناجين والمتهمين المصريين، وذلك "من أجل الوصول إلى الحقيقة في تلك الجريمة"، وفقًا لنص المُذكرة المُرسلة إلى اليونان. لم تكن أسماء المصريين التسعة المحتجزين في اليونان ضمن قائمة المُهرِّبين، المسؤولين عن المركب، التي أرسلت مصر بياناتهم لليونان.
لم تردّ اليونان على طلب مصر بالتعاون القضائي، وفي 30 أغسطس 2023، استدعت النيابة العامة مدير إدارة المعلومات الجنائية بقطاع مكافحة الاتجار بالبشر بوزارة الداخلية، لسؤاله عن التحريات والتحقيقات التي قامت بها الشرطة، فيما كان أحد أبرز الأسئلة التي وجهت إليه، عن طبيعة العلاقة بين الناجين المحتجزين في اليونان بتهمة المسؤولية عن مركب المتوكل، ومَن قامت الشرطة المصرية بضبطهم. رد الضابط المسؤول عن التحريات بأنه تمّ التوصل بعد التحقيق مع شبكة التهريب في مصر إلى أن الناجين التسعة المحتجزين في اليونان "مجني عليهم وتنحصر العلاقة بينهم وبين الشبكة الإجرامية في مصر على استقطاب هؤلاء المجني عليهم، بعد إيهامهم بالحصول على فرص عمل في دولة أوروبية"، مضيفًا أن الناجين المحتجزين في اليونان دفعوا مثلهم مثل غيرهم مبالغ تتراوح ما بين 140 إلى 160 ألف جنيه مصري.
أرسلت مصر استعجالًا آخر إلى اليونان بضرورة التعاون القضائي في القضية لـ"الوصول إلى الجناة الحقيقيين" المسؤولين عن المركب. تضمن الاستعجال الأخير تحقيقات النيابة المصرية، التي أشارت إلى انتفاء العلاقة بين الناجين التسعة المحتجزين في اليونان، وشبكة التهريب المسؤولة عن المركب.
وفقًا لمذكرة صادرة عن النيابة العامة المصرية بتاريخ 20 سبتمبر/أيلول 2023، ردت السلطات اليونانية المختصة أخيرًا على مصر بتعذر التعاون القضائي "في الوقت الراهن"؛ وذلك على الرغم من الاهتمام الذي أبدته السلطات اليونانية في البداية بالحصول على التحقيقات المصرية في القضية.
عدم تعاون اليونان قضائيًا مع مصر، في القضية المتهم فيها مواطنون مصريون على أراضيها، يُخالف اتفاقية التعاون القضائي بين مصر واليونان المُوقعة في 22 ديسمبر 1986، التي استندت إليها النيابة المصرية عندما طلبت من اليونان الإسراع في إرسال كل ما يتعلق بالقضية.
في هذا السياق، أرسلنا عبر الإيميل إلى السلطات اليونانية المختصة نطلب منها التعليق على أسباب عدم التعاون قضائيًا مع مصر للكشف عن شبكة تهريب البشر على هذا المركب، وسؤالها أيضًا عما إذا كانت قد ردت على مصر مرة أخرى بالموافقة على التعاون القضائي أم لا، إلا أنه حتى تاريخ نشر هذا التحقيق لم ترد السلطات اليونانية على أسئلتنا.
يُلاحظ من المذكرة القضائية التي أرسلتها مصر واستلمتها اليونان، أن السلطات اليونانية كانت على علم منذ يوليو 2023 بأن الناجين المصريين المحتجزين لديها في سجن نافبليو ليست لهم صلة بشبكة التهريب المسؤولة عن مركب المتوكل. وعلى الرغم من ذلك، لم تُفرج النيابة اليونانية عن الناجين المصريين أو تُحقق فيما وصلها من مصر، لكنها أحالت المصريين التسعة في فبراير 2024 إلى المحاكمة الجنائية باتهامات تصل عقوبتها إلى السجن مدى الحياة.
تقول المحامية يوانا بيجازي من مشروع Human Right Legal باليونان إن السلطات اليونانية لم تكن جادة في الكشف عن حقيقة ما حدث أثناء غرق مركب المتوكل، ولم تسعَ، بالقبض على المصريين التسعة، إلى إجراء تحقيق قضائي حقيقي بل حماية خفر السواحل اليوناني من أي مساءلة، وهو نهج يتفق مع "سياسات الصد" الأوروبية، عبر إعطاء الأولوية للسيطرة على الحدود على حساب الأرواح البشرية والعدالة، مضيفة أن مأساة مركب المتوكل هي نتيجة لسنوات من الردع والإفلات من العقاب.
وفقًا لدراسة أعدتها منظمة borderline-europe الألمانية، تحت عنوان "الدولة القانونية في اليونان في خطر.. التجريم المنهجي للمهاجرين بسبب قيادة قوارب ومركبات الهجرة"، فإن جلسات محاكمة المهاجرين في قضايا التهريب والاتجار بالبشر في اليونان تتسم عادة بالسرعة في صدور الأحكام، فتستغرق في المتوسط 37 دقيقة فقط، وتقل هذه المدة إلى 17 دقيقة في المحاكمات التي تضم محامين معينين من قبل الدولة، في حين سجلت الدراسة ست دقائق فقط لأقصر محاكمة.
على الجانب الآخر في مصر، استمر التحقيق مع الشبكة المتهمة بالتهريب. وفي 17 أكتوبر 2023، أحيلوا للمحاكمة التي انعقدت في وادي النطرون في 5 فبراير 2024، وصدرت ضد أعضاء الشبكة أحكام بالسجن المشدد من خمس سنوات إلى المؤبد، لارتكاب جريمة عابرة للحدود وتشكيل شبكة إجرامية، واستغلال أطفال لارتكاب الجريمة، فيما صدرت أحكام ببراءة تسعة متهمين. وفي 14 مايو 2024، انعقدت محكمة استئناف طنطا وأيدت الحكم السابق بالإدانة، لكنها حكمت بالسجن خمس سنوات على المتهمين الصادر بحقهم حكم بالبراءة في الدرجة الأولى، فيما قضت ببراءة 3 متهمين فقط في القضية.
بينما شكَّل الحكم السابق قصاصًا مؤقتًا يُبرد صدور أهالي المفقودين في مركب المتوكل، كانت أسرة أحمد عادل ومحمد عماد في انتظار جلسة محاكمتهما مع رفاقهم السبعة في اليونان. عن المحاكمة التي انتظرها أهالي الناجين المحتجزين في اليونان، قالت لنا غادة والدة محمد عماد "اليونان خدوا ولادنا كبش فداء، حاسة إن الحكومة اليونانية كلها ضد التسعة المصريين عشان يغطوا على اللي حصل يوم غرق المركب، عشان كده كان صعب عليهم في اليونان يفرجوا عن أولادنا، والفكرة دي كانت مخلياني من يوم القبض عليهم في رعب كل ليلة".
استعدادًا لمحاكمته، كان محمد عماد يحاول يوميًا متابعة الأخبار اليونانية وهو في سجنه، وتعلم اللغة اليونانية لفهم ما يحدث حوله داخل السجن؛ خاصة بعدما تمّ الاعتداء عليه ورفاقه الناجين أكثر من مرة، حسب قوله. يقول لنا محمد من محبسه "تمّ ضربنا أكثر من مرة… أحد رجال الشرطة أثناء التحقيق اعتدى على اثنين من زملائي المتهمين، تعرض أحمد عادل للضرب أثناء التحقيق، وضُرب مصطفى خليل بالقدم في صدره… تمّ ضربنا بدون أيّ سبب".
إيهاب الراوي، مؤسس منظمة مجموعة الإنقاذ الموحد في برلين، وهي مجموعة إخبارية إنسانية تهتم بأمور المهاجرين، قال لنا في هذا السياق إنهم وثّقوا العديد من الشهادات من مهاجرين عرب وصلوا اليونان عبر مركب المتوكل، ومراكب الهجرة الأخرى، التي تؤكد الاعتداء عليهم من جانب السلطات اليونانية، ومنهم مَن تمّ تعذيبه وصعقه بالكهرباء. وأشار إلى أن هدف السلطات اليونانية من هذه العمليات هو تخويف المهاجرين، الذين يفكرون في الهجرة إلى أوروبا عبر اليونان؛ وهي سياسة نجحت اليونان في فرضها.
على الرغم من ذلك، تُشير الإحصاءات إلى أنه مع استمرار نمط الإعادة القسرية من على الحدود اليونانية، فإن مراكب الهجرة إلى أوروبا عبر اليونان لا تزال في ازدياد. حتى 27 نوفمبر 2024، وصل إلى اليونان عبر البحر نحو 49 ألف مهاجر راغب في اللجوء، بزيادة نحو 8 آلاف مهاجر مقارنة بعام 2023.
وحول الاتهامات الموجهة لخفر السواحل اليوناني فيما يتعلق بالإعادة القسرية لمراكب الهجرة ودفعها خارج الحدود اليونانية، ردت وزارة النقل البحري اليوناني عبر الإيميل على سؤالنا، قائلة إن خفر السواحل اليوناني في سياق الرقابة الداخلية المستمرة على سلوك أفراده، قد أجرى "منذ عام 2020 وحتى اليوم (29 نوفمبر 2024) 21 تحقيقًا إداريًا داخليًا" حول هذه الوقائع. لكنّ وزارة النقل البحري اليوناني لم تذكر لنا في ردها ما وصلت إليه نتائج هذه التحقيقات.
قبل أربعة أيام من انعقاد محاكمة الناجين المصريين التسعة، في 17 مايو 2024، أعربت منظمتا العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش عن قلقهما بشأن نزاهة قضية المتهمين المصريين. وأشارت على لسان جوديث سندرلاند، المدير المساعد لقسم أوروبا وآسيا الوسطى في المنظمة إلى أن التحقيقات تستند إلى أدلة غير كاملة، ومشكوك فيها. وفي الـ21 من الشهر نفسه، انعقدت محكمة كالاماتا الجنوبية، وقضت في جلستها الأولى ببراءة المصريين التسعة.
تقول لنا إيفي ذوسي، محامية المتهمين المصريين، "في الحقيقة أشعر بالسعادة بسبب براءة المصريين، لكنّ هذا لا يكفي ليُرضينا، سننتصر عندما تتحمل السلطات اليونانية مسؤوليتها عن الحادث، وتتمّ محاكمة خفر السواحل المسؤول عن غرق المركب.. وحتى يحدث هذا، فإن غادة وعادل وهدى وعماد وكل أهالي المصريين التسعة لم يحصلوا على حقهم من اليونان، بعد 11 شهرًا قضاها أبناؤهم في السجن بدون دليل".
في هذا السياق، أعلن البرلمان اليوناني في أكتوبر 2024، فتح التحقيق في شكوى من مواطنين يونانيين ضد القائم بأعمال وزير النقل البحري أثناء الحادث، بتهمة الإخلال بالواجب والإهمال الذي أدى إلى غرق مركب المتوكل. كما قام 40 ناجيًا من الحادث، بتقديم شكوى جنائية إلى محكمة بيريوس البحرية ضد خفر السواحل اليوناني لتقاعسه عن إنقاذهم.
أنجز هذا التحقيق بدعم من أريج.