ما بدا في السابق وكأنه حلم مستحيل أصبح الآن حقيقة: نظام بشار الأسد قد سقط. بالنسبة للسوريين، هذه لحظة تحمل أملاً عميقاً لكنها مليئة بالشكوك الكبيرة.
و يبقى السؤال الملح: ما الذي سيحدث بعد ذلك؟
على الأرض، لم تُضيّع جماعة "هيئة تحرير الشام" الوقت، وهي التي قادت الهجوم العسكري الرئيسي ضد النظام في أواخر نوڤمبر/ تشرين الثاني، حيث سارعت إلى ترسيخ موقعها من خلال تشكيل حكومة مؤقتة والسيطرة على عملية انتقال البلاد من الديكتاتورية إلى مرحلة ما بعد الأسد.
لكن تصنيف "هيئة تحرير الشام" كمنظمة إرهابية، نظراً لجذورها المرتبطة بتنظيمي داعش والقاعدة، يُثير مخاوف جدية بشأن مسار البلاد. وفي الوقت الذي يواجه فيه السوريون هذا المنعطف الحاسم، يبدو أن المجتمع الدولي بعيد عن التطورات الجارية. و إذا فشلت القوى الإقليمية والعالمية في اتخاذ خطواتٍ حاسمة لدعم انتقال شامل يقوده السوريون أنفسهم، فقد تضيع فرصة استقرار البلاد، وبالتالي المنطقة. و الثمن لهذه الفرصة الضائعة سيكون الفوضى والعنف، وليس السلام الذي يحتاجه السوريون بشدة ويستحقونه بعد أكثر من عقد من الحرب.
و قد قادت هيئة تحرير الشام (HTS) الحملة العسكرية التي أسقطت نظام الأسد في النهاية، مما وضعها في صلب التحول السياسي في سوريا. و يُعتقد أن الجماعة تضم ما بين 12,000 و15,000 مقاتل، وقد عززت صورتها كفاعل منضبط وبراغماتي من خلال حملة إعلامية واسعة ورسائل عامة ذكية. و زعيمها (أحمد الشرع)، المعروف باسمه الحركي (أبو محمد الجولاني)، أصبح تحت الأضواء العالمية. و بفضل ذكائه العالي و خططه المدروسة، نجح الجولاني في تحويل هيئة تحرير الشام من بضع عشرات من الأعضاء في عام 2011 إلى الحاكم الفعلي لمرحلة الانتقال السياسي في سوريا اليوم. و تحقق هذا النجاح من خلال تهميش أو القضاء على مراكز قوة أخرى داخل الجماعة وبين الفصائل المتمردة الأخرى.
و منذ سيطرتها على مدينة حلب في الهجوم الأولي ضد النظام، تعهدت هيئة تحرير الشام بحماية المدنيين وضمان سلامة الأقليات والحفاظ على المؤسسات والأصول العامة. و هذه التعهدات، إلى جانب انضباط ملحوظ في المناطق التي سيطرت عليها حديثًا، أضفت مصداقية على خطابها. و خلال الأيام التي انهار فيها النظام، لم تُسجَل أي حوادث نهب للممتلكات العامة أو الخاصة من قبل مقاتلي هيئة تحرير الشام، ولم ترد تقارير عن انتهاكات بحق المدنيين، بما في ذلك الأقليات أو الأشخاص المرتبطين بالنظام، مثل الموظفين الحكوميين أو عناصر الشرطة، حتى أن الجماعة قامت بحماية المؤسسات العامة. إضافة إلى ذلك، ركز مقاتلو الهيئة على مواجهة النظام، حيث التزموا بتنفيذ الأوامر والانتقال إلى مناطق جديدة بدلاً من الاحتفال أو استغلال مكاسبهم.
ومع ذلك، فإن تصرفات هيئة تحرير الشام (HTS) منذ سقوط الأسد تحكي قصة مختلفة. مستفيدة من تنظيمها المتفوق ومواردها وسيطرتها على الأمن في المناطق التي كانت تحت حكم النظام، تحركت الهيئة بسرعة للهيمنة على عملية الانتقال، و قامت بتعيين رئيس وزراء "حكومة الإنقاذ" التابعة لها -و هي هيئة حكم كانت تدير سابقًا المناطق الخاضعة لسيطرة الهيئة في شمال غرب سوريا، التي كان يقدر عدد سكانها بنحو 4 ملايين شخص في عام 2023- لتولي رئاسة الحكومة الوطنية المؤقتة. و هذه الخطوة وضعت هيئة تحرير الشام فعليًا في موقع يسمح لها بالتحكم في مستقبل سوريا السياسي.
لكن سجل حكومة الإنقاذ يثير القليل من الثقة بقدرتها على إدارة منطقة أوسع. ففي شمال غرب سوريا، كانت المنطقة معروفة بسوء تقديم الخدمات، ونهجها المركزي في صنع القرار، واستبعاد المجتمعات المحلية من المشاركة في صنع السياسات. كما تعرضت الانتخابات التي جرت في ظل حكمها لانتقادات واسعة بأنها غير شرعية وغير تمثيلية، في حين واجهت إدارتها احتجاجات متكررة بسبب مزاعم انتهاكات حقوقية ضد الخصوم السياسيين، مما زاد من تشويه سمعتها.
و الأمر الأكثر إثارة للقلق هو النهج الأحادي الجانب الذي اتبعته هيئة تحرير الشام حتى الآن للهيمنة على الانتقال. وفي حال استمرت الأمور على هذا المنوال، فإن التحول السياسي في سوريا قد يتحول إلى استيلاء على السلطة يُقصي الجماعات المعارضة الأخرى ويُعمّق الانقسامات القائمة.
و التفويض الممنوح للهيئة الانتقالية، والذي حددته هيئة تحرير الشام (HTS) بثلاثة أشهر للإشارة إلى أن هذه الترتيبات مؤقتة بالفعل، من المقرر أن ينتهي في مارس/ آذار. ومع ذلك، تتزايد المخاوف من أن تستغل هيئة تحرير الشام هذه الفترة لتعزيز سلطتها وفرض رؤيتها لمستقبل سوريا. فعلى سبيل المثال، تم صياغة دستور البلاد من قبل نظام الأسد في عام 2012 لتكريس حكمه، ورفضته المعارضة السورية بشكلٍ قاطع. و هناك إجماع على أن تعليق الدستور لإجراء تعديلات أمر ضروري من حيث المبدأ، ولكن هذا النهج قوبل بشكوك عميقة. و انعدام الشفافية المحيط بعملية مراجعة الدستور، وحتى هويات الأشخاص المشاركين فيها، يثير مخاوف من النزعة الأحادية. و إصلاح الدستور يعتبر قضية بالغة الأهمية ولا يمكن أن يهيمن عليها فاعل واحد أو تُدار في الخفاء؛ و يجب أن تكون شاملة، ومبنية على الحوار، والشفافية.
و إذا سعت هيئة تحرير الشام إلى تكرار نموذج حكم "حكومة الإنقاذ" في دمشق والمناطق الأخرى التي كانت خاضعة للنظام، فقد تكون النتائج كارثية. و استناداً إلى تجربة الشمال الغربي، من غير المرجح أن تُلهِم هذه الخطوة الثقة العامة أو توفر مستوى المحاسبة الذي يطالب به السوريون. و بدون مشاركة واسعة من الجمهور، تخاطر هيئة تحرير الشام بإدامة نفس المظالم التي أشعلت الانتفاضة السورية في المقام الأول.
وفي الوقت نفسه، ورغم تسارع التطورات على الأرض، فإن المجتمع الدولي يبدو غائباً بشكل لافت. و من خلال محادثاتي الأخيرة في عواصم رئيسية بأوروبا، كان من الواضح وجود تردد كبير فيما يتعلق بتبني دور أكثر فاعلية لدعم سوريا بعد سقوط الأسد. فالمسؤولون الذين تحدثت معهم أعطوا انطباعاً بأنهم في حالة ترقب، يراقبون تصرفات هيئة تحرير الشام والجولاني قبل اتخاذ خطواتهم التالية. كما ركزوا على كيفية تعامل الهيئة مع الأقليات، وحقوق المرأة، وموقفها تجاه إسرائيل، واستعدادها للسماح بعودة اللاجئين. ولكن في حين أن الحذر من قبل الدول الإقليمية والدولية مفهوم، فإن التقاعس عن العمل يحمل تكلفة باهظة.
و قمة السبت الدبلوماسية التي عُقدت في الأردن، بمشاركة دول إقليمية إلى جانب الولايات المتحدة والأمم المتحدة، قدمت بارقة أمل بأن التوجهات قد تتغير. و البيان المشترك الذي يدعم تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي 2254 -والذي يمثل خارطة طريق للانتقال السياسي في سوريا- أشار إلى التزام متجدد باستقرار البلاد. ومع ذلك، تواصل هيئة تحرير الشام (HTS) خلق واقع على الأرض يزداد ابتعاداً عن العملية التي تقودها الأمم المتحدة.
و عبّر الجولاني عن رغبته في شطب الهيئة من قائمة التنظيمات الإرهابية والاعتراف بها كفاعلٍ سياسي. و هذه الطموحات تمنح القِوى الإقليمية والدولية نفوذاً حاسماً. و من خلال تعامل حذر مع هيئة تحرير الشام، يمكن للمجتمع الدولي الضغط على الجماعة للالتزام بانتقال شامل وديمقراطي يتجاوز الشعارات. ومع ذلك، يجب أن يكون هذا التعامل مشروطاً بوضوح: لا يمكن لهيئة تحرير الشام احتكار العملية، أو تهميش الجهات السورية الأخرى، أو فرض نموذج حكمها بشكل أحادي.
و المخاطر لا يمكن أن تكون أكبر من ذلك، فالقرارات التي ستُتخذ في الأسابيع المقبلة ستحدد مسار سوريا لأجيال قادمة. و يجب على المجتمع الدولي أن يغتنم هذه الفرصة التاريخية لدعم انتقال ديمقراطي وشفاف. و مثل هذا الجهد لن يكرّم فقط تضحيات ملايين السوريين على مدار سنوات الحرب، ولكنه أيضاً سيضع أُسس السلام والاستقرار الدائمين.
و تداعيات الاضطراب في سوريا ستمتد إلى ما وراء حدودها، مهددة الأمن الإقليمي. كما أن استمرار عدم الاستقرار قد يؤدي إلى استغلال جماعات -مثل داعش- لسوريا كقاعدة لشن هجمات ضد دول أخرى. و موجة جديدة من القتال قد تدفع أولئك الذين عادوا مؤخراً إلى البلاد إلى الفرار مرة أخرى، كما قد تُجبر من صمدوا طوال 13عاماً من الصراع على مغادرة البلاد. وهذا من شأنه أن يخلق موجات جديدة من اللاجئين.
و الأوان لم يفت بعد، حيث تتمثل الخطوة الأولى في إرسال رسالة واضحة إلى هيئة تحرير الشام (HTS) مفادها أن تفويض الحكومة المؤقتة لا ينبغي أن يمتد إلى ما بعد شهر مارس/ آذار.
كذلك، يجب الضغط على هيئة تحرير الشام لتوضيح أن دور هذه الحكومة سيقتصر فقط على تسهيل الوظائف والخدمات الأساسية دون إجراء أي تغييرات طويلة الأمد، بما في ذلك الإصلاح الدستوري. وفي الوقت نفسه، يجب على الجهات الدولية المهتمة بمستقبل سوريا أن تبدأ في التواصل مع جميع الأطراف السورية وتيسير الاجتماعات بينهم للاتفاق على الخطوات التالية، بما في ذلك تشكيل هيئة انتقالية شاملة وتحديد تفويضها لقيادة البلاد بعد مارس/ آذار. كذلك، تحتاج الأطراف السورية إلى دعم للبدء في عملية شاملة لتعديل الدستور. و أي تقصير في هذا المسار سيكون خيانة لتضحياتهم وفشلاً في تحمل المسؤولية العالمية.
و هناك الآن فرصة نادرة لتحويل أحلك فصل في تاريخ سوريا إلى بداية مستقبل أكثر إشراقاً. و يجب أن يتحرك العالم بحزم، ليس كمجرد متفرجين سلبيين، ولكن كشركاء ملتزمين. فمثل هذا الالتزام سيساعد السوريين على بناء دولة قائمة على العدالة والاستقرار والأمل.