طهران: القيادة الإيرانية تتبنى شكلاً جديدًا من القومية عقب الهجمات الأميركية والإسرائيلية
يمن فيوتشر - ذا نيويورك تايمز- ترجمة خاصة الثلاثاء, 22 يوليو, 2025 - 01:20 مساءً
طهران: القيادة الإيرانية تتبنى شكلاً جديدًا من القومية عقب الهجمات الأميركية والإسرائيلية

اتسم الحدث بكافة الطقوس التقليدية لعاشوراء، فترة الحداد الشيعية المهيبة في إيران، حيث ارتدت الحشود الراكعة السواد، وراحت تلطم صدورها بإيقاع متناسق. وبينما تعالت الهتافات، أشار المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، آية الله علي خامنئي، إلى المنشد الذي يقود الجمع، وهمس ببضع كلمات في أذنه.
ابتسم المنشد، وانطلق بأغنية كانت قبل أسابيع قليلة لتُعَدّ نشازًا في مناسبة دينية داخل الجمهورية الإسلامية: “أي إيران، إيران”، وهو نشيد وطني.
“في روحي ووجداني، ستبقى يا وطن”، أنشد، فيما كانت الجموع تردد الكلمات خلفه.

وخرجت إيران من حربها مع إسرائيل — التي انضمت إليها الولايات المتحدة لفترة وجيزة — مثخنة بالجراح. دفاعاتها العسكرية تعرضت لضرباتٍ موجعة، وبرنامجها النووي تلقى أضرارًا بالغة، وشعبها تكبّد خسائر مدنية فادحة خلال الحرب التي استمرت اثني عشر يومًا.
وسط هذا المشهد القاتم، يرى قادة البلاد فرصة. فقد أثارت الهجمات موجة من الغضب تحولت إلى اندفاع قوي للمشاعر القومية، ويأمل المسؤولون في تسخير هذه اللحظة الوطنية لتعزيز موقف حكومة تواجه تحديات اقتصادية وسياسية ثقيلة.

والنتيجة كانت تبنّي رموز الفولكلور القديم والشعارات الوطنية، تلك التي طالما اعتبرها القوميون العلمانيون في إيران من صميم إرثهم، لا من صميم نظام ديني محافظ طالما نأى بنفسه عن التراث الإيراني السابق للثورة الإسلامية.
وفي مدينة شيراز العريقة، تظهر لوحة إعلانية لرئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو) راكعًا أمام تمثال شابور الأول، الملك الفارسي في القرن الثالث الميلادي، في محاكاة لإفريز محفور في أطلال مدينة برسبوليس التاريخية.
وفي ساحة ونك بطهران، وهي منطقة تسوق شهيرة، رُفعت لوحة إعلانية للبطل الأسطوري “آرش الكمانچي” — الشخصية الأسطورية التي يُقال إنها رسمت حدود إيران بإطلاق روحه مع سهمٍ من قوسه. لكن في النسخة الحديثة، لم تعد الأسهم هي ما يُطلَق، بل صواريخ الجمهورية الإسلامية التي تنطلق من خلف قوسه.

وقال (محسن برهاني)، أستاذ القانون في جامعة طهران والمعلق السياسي المعروف:
“نحن نشهد ولادة اندماج بين الهوية الشيعية والقومية الإيرانية، وهذه نتيجة مباشرة للهجوم على إيران.”

ومع غياب بيانات موثوقة لاستطلاعات الرأي تعكس المزاج الشعبي، يبقى مدى تأثير هذا المدّ الوطني موضع نقاش محتدم بين الإيرانيين والمحللين على حدٍّ سواء.
حيث يشكك بعض الإيرانيين في قدرة هذه النزعة القومية المستجدة على تعزيز شعبية الحكومة، ويعتبرونها مجرد انعكاس للغضب العارم الناجم عن الهجمات الإسرائيلية والأميركية.

وقبل الهجمات الإسرائيلية، توقّع بعض المحللين أن يشهد الداخل الإيراني اضطرابات خلال صيف هذا العام، في ظل أزمة اقتصادية متفاقمة، وتدهور في إمدادات المياه والكهرباء والوقود، مع ارتفاع شديد في درجات الحرارة.
لكن يبدو أن الحرب أدّت إلى نتيجة معاكسة؛ إذ أصبح بعض الإيرانيين أكثر تقبّلًا لتشديدات حكومية إضافية، بما في ذلك القيود المفروضة على الإنترنت. وفي الوقت ذاته، بدأت السلطات حملة قمع واسعة تستهدف، وفق روايتها، “متسللين وجواسيس”، بينما تقول منظمات حقوقية إن الحملة طالت أيضًا معارضين وأفرادًا من الأقليات.

وقد أدت دعوات الرئيس الأميركي (دونالد ترامب) ورئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو) للإيرانيين للخروج ضد نظامهم بعد الضربات، إلى رد فعل معاكس، إذ رأى حتى بعض منتقدي الحكومة الإيرانية أن الوقت الحالي لا يسمح بالاحتجاج أو التصعيد الداخلي.
وقالت (ليدا)، التي تعمل في طهران، لصحيفة نيويورك تايمز عبر رسالة صوتية:
“الناس لا يريدون أن يكون التغيير الداخلي مدفوعًا من حكومات أجنبية.”
وطلبت عدم الكشف عن اسمها الكامل نظرًا لتحذيرات الحكومة من التواصل مع وسائل الإعلام الأجنبية.
وأضافت:
“يشعرني ذلك بالإهانة الوطنية، أن تأتي دولة وتنتهك أرضي وتقصف مواقعنا النووية. حسنًا، قد لا يكون البرنامج النووي حلمي أو طموحي، لكن في النهاية، هو جزء من أرضي وسيادتي.”

وهذه ليست المرة الأولى التي تلجأ فيها قيادة الجمهورية الإسلامية إلى القومية أو الرموز التراثية في أوقات الأزمات.
ففي أواخر حرب إيران والعراق في الثمانينيات، يشير المؤرخون إلى أن القيادة الثورية كثيرًا ما استخدمت الخطاب القومي لحشد الدعم الداخلي.
لكن خبراء في الشأن الإيراني يقولون إن حجم هذا التوجه ومداه في المرحلة الراهنة يبدوان مختلفين.

وقال (علي أنصاري)، المدير المؤسس لمعهد الدراسات الإيرانية في جامعة سانت أندروز:
“القيادة الثورية باتت تدرك أنه عندما تشتد الظروف، لا بد من الغوص عميقًا في الخطاب القومي لتوحيد الشعب.”
وأضاف:
“هم يريدون استخدام الحرب كوسيلة لتعزيز التضامن الوطني، وهو أمر لم يشهدوه منذ سنوات.”

وكان هذا التوجه لافتًا بشكل خاص مع دخول البلاد شهر محرّم في أواخر يونيو/ حزيران، وهي فترة حداد في المذهب الشيعي تستمر نحو شهر كامل.
وتُحيي عاشوراء، في اليوم العاشر من محرّم، ذكرى استشهاد الإمام الحسين، حفيد النبي محمد، وهي مناسبة مركزية في الوجدان الشيعي.
وهذا العام، أدخل “المدّاحون” الإيرانيون — وهم المنشدون الدينيون — السياسة إلى طقوس المناسبة. ففي المراكز التجارية بمدينة يَزد، مزجوا بين الأناشيد الدينية وأغانٍ وطنية كانت محظورة سابقًا، من بينها نسخة دينية من نشيدٍ كُتب خلال الحرب العالمية الثانية، وغالبًا ما يُرتبط بعهد الملكية البهلوية التي أطاحت بها الثورة الإسلامية عام 1979.

لكن هذا الدمج بين الخطاب القومي والديني لم يلقَ ترحيبًا من جميع الإيرانيين، بمن فيهم عائلة تورَج نِكاهبان، كاتب كلمات نشيد “إيران، إيران”. وقد ألقى المدّاح الذي أنشده أمام آية الله خامنئي عبارات ذات طابع ديني مثل “إيران كربلاء” و”إيران عاشوراء” ضمن النشيد.
وكان نِكاهبان، وهو من منتقدي الجمهورية الإسلامية، قد توفي في المنفى بمدينة لوس أنجلوس عام 2008.
وكتبت عائلته على صفحةٍ في إنستغرام تحمل اسمه:
“لسنوات، أسكتم أصواتنا، ومحوتُم أسماءنا من الكتب والإعلام. والآن، بعد أن لم يعد لديكم ما تهتفون به، صرتم تغنّون الأناشيد ذاتها التي كنتم تشتمونها بالأمس.”

ويرى بعض الإيرانيين، مثل الأستاذ في جامعة طهران محسن برهاني، أن لجوء النظام الديني إلى القومية يكشف أن الدين وحده لم يعد كافيًا لحشد دعم الشعب الإيراني البالغ تعداده نحو 90 مليون نسمة، خصوصًا فئة الشباب في الثلاثين من العمر أو أقل، والتي تمثل غالبية السكان.
في المقابل، يرى آخرون أن الاستخدام الواسع للأناشيد الوطنية خلال طقوس عاشوراء في مختلف أنحاء البلاد يمثل تعبيرًا جديدًا وأصيلًا عن الوطنية الإيرانية.
(شهرزاد)، وهي طالبة جامعية في طهران، وصفت هذا التحول بأنه “قومية مصطنعة”.
وقالت في رسالة صوتية:
“القومية الحقيقية تنبع من الشارع، من الاحتجاجات، من الألم المشترك، لا من على منصّات الحكومة.”

ورغم أن الحرب، والموجة القومية التي أطلقتها، ربما ساعدت الحكومة في الحفاظ على السيطرة، إلا أن البعض يشكّك في مدى قدرة هذا الزخم على الاستمرار.
وقال علي أنصاري:
“عندما ينقشع الغبار ويبدأ الناس في طرح الأسئلة، سيدركون أن المياه لا تزال مقطوعة، والغاز مفقود، والكهرباء غير متوفرة.”
وأضاف:
“كل شيء مرهون بنهضة اقتصادية في البلاد، لكنها غير قادرة على تحقيقها.”

 


التعليقات