دمشق: العدالة الانتقالية، تحديات ومسارات نحو بناء مستقبل جديد في سورية
يمن فيوتشر - مركز حرمون للدراسات: الخميس, 19 ديسمبر, 2024 - 10:36 مساءً
دمشق: العدالة الانتقالية، تحديات ومسارات نحو بناء مستقبل جديد في سورية

مع سقوط نظام الأسد، تلوح في الأفق مهمّة أساسية أمام سورية للتعامل مع إرث طويل من القمع وانتهاكات حقوق الإنسان. ومع ذلك، فإن مسار العدالة الانتقالية لا يُعدّ مجرد إجراء قانوني أو إداري، بل هو عملية تحويلية تهدف إلى إعادة بناء الثقة في المؤسسات، وإرساء أسس عقد اجتماعي جديد. غير أن هذه العملية ليست سلسلة، كما قد يتصوّر البعض، إذ تواجه هذا المسار تحدّيات جمّة، على الصعيدين العملي والسياسي. فعلى المستوى العملي، تشكّل الأعداد الكبيرة من المتورطين في الانتهاكات السابقة تحدّيًا هائلًا قد يتجاوز قدرة أي نظام قضائي، وإن كان ذا كفاءة عالية، على التعامل معه. وفي العديد من الحالات، تجد الأنظمة الجديدة نفسها عاجزة عن مواجهة هذا العبء، حيث تضطر إلى إعادة بناء مؤسساتها السياسية والقضائية من الصفر، وهو ما يعوق جهود معالجة الماضي. أما على المستوى السياسي، فإن العدالة الانتقالية تحمل في طياتها تحديات شائكة، فمحاكمة المتورّطين في العنف السياسي والعسكري، أو تحميل الدولة مسؤولية الانتهاكات من خلال الاعتراف أو التعويضات، قد تثير الجدل وتزعزع استقرار النظام السياسي الوليد. وهذا التوتر بين تحقيق العدالة وضمان الاستقرار يجعل عملية الانتقال السياسي أكثر تعقيدًا.

العدالة الانتقالية ليست مفهومًا جديدًا، فقد برزت بشكل لافت بعد الحرب العالمية الثانية، ولا سيما في محاكمات نورمبرغ التي استهدفت كبار مجرمي الحرب النازيين[1]. وعلى الرغم من ذلك، لم تتحول العدالة الانتقالية إلى مجال دراسات مقارنة إلا مع الموجة الثالثة من التحولات الديمقراطية في أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية، حيث واجه القادة هناك معضلة التعامل مع إرث العنف السياسي المنهجي الذي خلفته الأنظمة السابقة. إن العدالة الانتقالية هي النجاح في تحقيق انتقال سياسي واقتصادي، لكنها تتطلب تحوّلًا يتماشى مع القيم والمبادئ الديمقراطية، ويحترم الحقوق، ويقلّل من العنف وعدم الاستقرار. ولتحقيق ذلك، يجب أن يحظى المسؤولون السابقون الذين شاركوا في سفح الدم السوري بمحاكمات عادلة، وفي الوقت نفسه، ينبغي أن يحترم أنصار النظام الجديد مبادئ العدالة دون استغلال المرحلة لتحقيق مكاسب شخصية.
في المراحل التي تعقب الحروب، تتعايش أهداف متضاربة بين السعي لتحقيق العدالة للانتهاكات السابقة وتعزيز الاستقرار وبناء مؤسسات قوية وفعالة[2]. ويعكس هذا التوتر صعوبة الموازنة بين هذه الأولويات التي تُعدّ جميعها ضرورية، ولكنها غالبًا ما تكون متعارضة في التنفيذ. وعلى كل حال، تمثل العدالة الانتقالية فرصة لمعالجة الماضي، وفرصة لرسم مستقبل جديد لسورية. وعلى الرغم مما تواجهه من تحديات، تبقى هذه العملية السبيل الأمثل لتحقيق المصالحة الوطنية، وإعادة بناء مجتمع ممزق بفعل عقود من الصراع والانقسامات.
سقط الأسد ونظامه، ولكن مفهوم تطبيق العدالة الانتقالية في سورية يظلّ يمثّل تحديًا كبيرًا، نظرًا للتعقيد الذي يميز الحرب في سورية، من حيث تعدد أطراف الصراع، وتنوع مجتمعاته، والتدخلات الخارجية، وتغيرات الظروف السياسية والاجتماعية. لكن يمكن تطبيق بعض الأهداف الرئيسية للعدالة الانتقالية، إذا تمّت مراعاتها بعناية وبشكل يتلاءم مع الواقع المعقد الذي يعيشه السوريون. وفي ما يلي تحليل لكيفية تطبيق هذه الأهداف.

أولًا: المساءلة في العدالة الانتقالية: تحديات وآفاق التطبيق
وهي موضع تساؤل وفيها إشارات استفهام عدة، حيث تهدف إلى محاسبة مرتكبي الجرائم الجسيمة والانتهاكات، وعلى رأسهم -في الحالة السورية- رأس النظام السابق بشار الأسد وأعوانه. إن الطابع الواسع النطاق والمنهجي للعنف السياسي يؤدي إلى نشوء توتر بين العدالة الإجرائية والعدالة الموضوعية، إذ إن هناك تعارضًا بين الرغبة في تمييز الذات عن النظام السابق، والرغبة في معاقبة ذلك النظام بأقصى ما يستحقّه من شدة. وتركز العدالة الإجرائية على عدالة العمليات المستخدمة لحلّ النزاعات وتنفيذ القوانين، مع التأكيد على الحياد والشفافية. فهي تضمن أن يتمتع الأفراد بفرصة متساوية لعرض قضاياهم وسماع أصواتهم، بغض النظر عن النتيجة[3]. في المقابل، تُعنى العدالة الموضوعية بفحص عدالة ومصداقية النتائج نفسها، وتقييم النتائج النهائية من حيث تماشيها مع مبادئ الإنصاف والحقوق والقيم المجتمعية. وبينما تعطي العدالة الإجرائية الأولوية لكيفية اتخاذ القرارات، تركز العدالة الموضوعية على ما يتم تحقيقه، لضمان أن تكون محتويات القوانين أو السياسات وآثارها عادلة. إن التفاعل بين هذين المفهومين أمرٌ بالغ الأهمية، حيث يمكن أن تؤدي عملية عادلة إجرائيًا إلى نتائج غير عادلة، إذا كان الإطار الموضوعي الذي تعمل ضمنه معيبًا، مما يبرز الحاجة إلى تحقيق التوازن بين الاثنين لتحقيق العدالة الشاملة[4]. تسلّط قضية زين العابدين بن علي الضوء على التفاعل الحيوي بين العدالة الإجرائية والعدالة الموضوعية. من الناحية الإجرائية، أجرت تونس محاكمات ضد بن علي غيابيًا، متبعة البروتوكولات القانونية المعتمدة لمحاكمته، بتهم الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان. ومع ذلك، كانت هذه المحاكمات محدودة بطبيعتها، حيث إن غياب المتهم انتهاك لمبدأ المشاركة العادلة، وهو أحد أسس العدالة الإجرائية. هذا النقص في الإنصاف الإجرائي أضعف شرعية وفعالية العملية القضائية.
من منظور العدالة الموضوعية، نلاحظ أن المحاكمات تهدف إلى معالجة شكاوى الضحايا، ومحاسبة (بن عليّ) على عقود من الحكم الاستبدادي، إلا أنها فشلت في تحقيق نتائج ملموسة، إذ إن فشل تسليمه إلى العدالة وتنفيذ الأحكام يعني أن العدالة لم تتحقق بشكل موضوعي، حيث ظل الضحايا حتى الآن بدون تعويض ويخشى أن يُغلق الملف. تسلّط هذه القضية الضوء على أن غياب الإنصاف الإجرائي (مثل محاكمة حقيقية مع وجود المتهم) يمكن أن يجعل العدالة الموضوعية فارغة، وأن ضعف الأطر الموضوعية (مثل عدم التعاون الدولي في تسليمه) يمكن أن يقوض الجهود الإجرائية. يظهر التفاعل بين البعدين أنه لتحقيق العدالة الشاملة، يجب أن تتوافر العمليات العادلة والنتائج القابلة للتنفيذ.[5]
وتستند المساءلة في العدالة الانتقالية إلى مجموعة من الأسس النظرية التي تهدف إلى تحقيق العدالة والإنصاف للضحايا، ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. وتشمل هذه الأسس النظرية الجوانب، الأخلاقية، القانونية، السياسية والاجتماعية التي تعزز المساءلة وتعالج تداعيات الانتهاكات. الأساس الأخلاقي مثلًا يقوم على ضرورة محاسبة مرتكبي الانتهاكات كجزءٍ من الالتزام الأخلاقي تجاه الضحايا والمجتمع[6]. ويعدّ الفشل في محاسبة مرتكبي الجرائم خيانةً لمبادئ العدالة، ويشجع على تكرار الانتهاكات. ويؤكد الأساس القانوني أولوية القانون كوسيلة لضمان المساءلة ومنع الفوضى. فالقانون الدولي لحقوق الإنسان، مثلًا، يستند إلى معاهدات واتفاقيات دولية، مثل: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب. ويتفق القانون الجنائي الدولي مع الجانب القانوي الدولي الذي يُعتبر أداة رئيسية في محاكمة مرتكبي الجرائم الجسيمة مثل الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، وأن الجرائم الجسيمة لا تسقط بالتقادم، مما يسمح بمحاسبة مرتكبيها في أي وقت[7]. في ما يتعلق بالأساس السياسي، فهذا يتطلب إعادة بناء الثقة في المؤسسات، ومنها مساءلة المسؤولين، وهو الأمر الذي من شأنه منع عودة الاستبداد، حيث إن المحاسبة تضمن عدم تكرار الانتهاكات، من خلال إضعاف النخب التي كانت مسؤولة عن القمع. في الجانب الاجتماعي، هذا من شأنه تحقيق المصالحة التي تساعد في إزالة الأحقاد وتعزيز التعايش السلمي بين الأطراف المتنازعة[8].
في سياق العدالة الانتقالية، يتطلب هذا التوازن تحقيق العدالة عبر تطبيق العقوبات المناسبة على الجرائم المرتكبة من جهة، واحترام الحقوق الأساسية في المحاكمات العادلة من جهة أخرى[9]. على غرار المحكمة الجنائية الدولية، قد تكون المحاكمات المحلية في سورية أداةً مهمة لضمان عدم الإفلات من العقاب. على عكس العدالة التصالحية التي تسعى إلى التسامح والمصالحة، تركز العدالة التصحيحية على ضرورة تصحيح الأضرار التي تسبب فيها النظام أو أطراف الصراع، وهي بدورها تركّز في أعمالها على العدالة الجنائية في السياقات التي تشهد انتهاكات حقوق الإنسان، بحيث تكون العدالة موجهة نحو تصحيح الأضرار وتعويض الضحايا[10]، ولكن في الحالة السورية لم تكن هناك أضرار، بل كانت هناك جرائم مدنية وجرائم حرب ارتُكبت بحق المدنيين والعسكر، لذا فإن هذه العدالة التصالحية لن يكون لها نصيب في الحالة السورية.
المساءلة في العدالة الانتقالية يجب أن تُفرض على  جميع الأفراد، بغضّ النظر عن مناصبهم السياسية أو العسكرية، ويجب أن يخضعوا للقانون على قدم المساواة. ويشمل هذا ملاحقة المسؤولين عن الجرائم ضد الإنسانية، مثل الاعتقال التعسفي والتعذيب والقتل الجماعي. وبناءً على هذا المبدأ، قد تُعدّ المحاكم المحلية ساحةً لمحاسبة القادة العسكريين والسياسيين الذين ارتكبوا انتهاكات جسيمة بحق السوريين. وهنا تأتي أهمية التوازن بين ضمان العدالة الفعالة من خلال المحاكمات المحلية، وتوفير إطار دولي للمحاسبة، ولذا يتطلب تطبيق المساءلة في سورية موازنة معقدة، بين المصلحة الوطنية والمصلحة الدولية، إذ إن المحاسبة تتطلب في كثير من الأحيان الشجاعة السياسية والموارد القانونية، وهو ما تفتقر إليه الفصائل المعارضة حاليًا. إلا أنه في الوقت ذاته، يمكن أن يكون للمجتمع المدني السوري، بدعم من منظمات حقوق الإنسان الدولية، دورٌ رئيسي في الدفع نحو هذه المساءلة.
سورية لم تنضم إلى المحكمة الجنائية الدولية، التي تُعنى بمحاكمة المسؤولين عن ارتكاب جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، ما يعني أنه لا يمكن للمحكمة الجنائية الدولية محاكمة المجرمين السوريين إلا إذا كانت هناك إحالة من قبل مجلس الأمن الدولي[11] . أما عن المحاسبة الجماعية، فيمكن أن تكون هناك محاسبة جماعية تشمل محاكمة المنظمات أو الأجهزة الأمنية، أو محاسبة الأفراد الذين تولوا المسؤولية المباشرة عن هذه الجرائم [12]. ومع ذلك، يجب أن يترافق هذا مع ضمانات قانونية تحفظ حقوق جميع الأطراف، من خلال محاكمات عادلة وشفافة بعيدة عن مبدأ التشفي الشخصي. الحالة السورية معقدة، ولا بد من أن تكون هناك مبادرات دولية للضغط من أجل المساءلة، مثل دعوات الأمم المتحدة وأعضاء مجلس الأمن لتشكيل محاكم دولية، لمحاسبة رأس النظام السابق والمسؤولين عن تلك الجرائم.
ولأنّ المعارضة المسلّحة ما زالت في طور التكوين المؤسساتي والبناء، فمن الممكن اعتماد مبدأ “فقدان الذاكرة المؤقت القصير الأمد”، وفي هذه الحالة، تتخذ السلطة الناشئة قرارًا بتأجيلٍ قصير الأمد لمقاضاة مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان، من دون محوه من الذاكرة. وإن وصف هذا النموذج بأنه “نموذج فقدان الذاكرة” لا يعني أنه لن يكون هناك العديد من الأفراد الذين سيستمرون في تذكر الماضي بكل تفاصيله المؤلمة، وفي الإصرار على ارتكاب جرائم كبرى، إنما يعني هذا تأجيل المحاسبة إلى وقتٍ يصبح فيه النظام الجديد متماسكًا ومستقرًا نوعًا ما، ومن ثم يمكن أن تقوم الدولة بالخطوة الثانية، وتبدأ إجراءات التحضير لمحاكمات على المستوى المحلي والدولي.
 يمكننا أن نطلق على شكل ثانٍ من أشكال العدالة الانتقالية، من حيث طيف المصالحة والقصاص، نموذج “العقوبة الانتقائية”. وفي هذه الحالة، تخضع الشخصيات السياسية الرئيسية من النظام السابق، فضلًا عن الأعضاء البارزين في قوات الأمن الذين ثبت تورطهم في التعذيب وسلوك مماثل، للإجراءات القانونية الرسمية والعقوبات التي تتضمن فقدان الحقوق المدنية أو السياسية (مثل تولي المناصب الحكومية) والسجن، وفي الحالات الأكثر تطرفًا، تصل العقوبات حتى الإعدام. وقد برزت إثيوبيا كمثال خاص على هذا النهج في العمل؛ ففي أعقاب الإطاحة بنظام منجيستو في عام 1991، وجهت الحكومة الجديدة الاتهامات إلى أكثر من ثلاثة آلاف شخص من أعضاء ذلك النظام، بارتكاب أعمال إجرامية، وأقامت ما وصف أحيانًا بـ “محاكمات نورمبرج لأفريقيا”، وإن تباطأت الإجراءات القضائية اللاحقة إلى حد كبير.
إن محاكمة شخصية بارزة تقدّم العديد من الفوائد للمجتمع الانتقالي، منها إضفاء الطابع الفردي على الذنب، وتسليط الضوء على المؤامرات التي استخدمها هؤلاء القادة لغرس الكراهية العرقية والطائفية، ولإخفاء الأدلة على فظائعهم، ولا سيما في المجتمعات التي تعاني انقسامات عرقية أو طائفية قوية، وقد برز هذا جليًّا في سورية. من خلال محاسبة الشخصيات البارزة سابقًا، تعمل المحاكمات أيضًا على تعزيز الانطباع بسيادة القانون والمساواة أمام القانون، ووفقًا لذلك فإن المحاكمات مطلوبة لغرس فكرة في الضمير الجماعي، مفادها أن أي قطاع من السكان لا يقف فوق القانون، وأنه لا يجوز بأي حال من الأحوال معاملة أي إنسان باعتباره كائنًا حقيرًا أو وسيلة لتحقيق هدف ما، وعندما تتم محاكمة المسؤولين السابقين، فإن قوة القانون الجديد الذي تم تشكيله أثناء العدالة الانتقالية تُختبر. ومن ثم، فإن المحاكمات تسهل عملية المصالحة، من خلال إبعاد الجناة عن السلطة وتوفير شعور بالحماية، فضلًا عن تحسين التصور العام للقانون والمساواة في ظله. وفي حين أن هذا ينطبق على محاكمة أي مسؤول، فإن تأثيراته تتضاعف مع محاكمة رجل قوي، لأن الرجل القوي يُنظر إليه باعتباره الشخصية الأكثر قوة ومسؤولية في النظام السابق. ووفقًا لذلك فإنّ المحاكمات التي تشمل رؤساء الدول تميل إلى أن تكون حالات اختبارية رفيعة المستوى، وتثير أكبر عدد من القضايا القانونية والسياسية الصعبة. وعلى الرغم من أن محاكمة الزعماء الأقوياء تمثّل تحديًا، فإن محاكمة كبار المسؤولين تمثل أيضًا إنجازًا أعظم للحكومة الجديدة والقانون الجديد. وعلى هذا، فإن محاكمة الزعماء الأقوياء قد تظهر قوة النظام القانوني الجديد المحسّن والحكومة الخالية من النظام السابق، مما يسمح للجمهور باستعادة الثقة والمصالحة مع الدولة.
ويمكن للمحاكمات والسعي إلى تحقيق العدالة أن يعززا الثقة والمشاركة في المؤسسات الوطنية، ويترتب على ذلك آثار إيجابية على المصالحة. وتعمل آليات العدالة الانتقالية كمحفزات للمشاركة الشعبية . التدابير الانتقالية تعزز الأداء الديمقراطي من خلال زيادة المساءلة والشفافية أو المشاركة بين المؤسسات الديمقراطية ومعها، وبالتالي تعزيزها وشرعنتها. وتشجع المؤسسات الجديدة، مثل لجان الحقيقة والمحاكم، الحوارَ بين الحكومة والمواطنين، وتعزز زيادة المشاركة الشعبية المؤسسات الديمقراطية الجديدة والقائمة. ومع تفاعل السكان بشكل أكبر مع المؤسسات الحكومية واستجابة تلك المؤسسات، فإن المؤسسات الديمقراطية تشير إلى مستوًى معين من الاستجابة والمساءلة، مما يؤدي إلى مزيد من الثقة المدنية. والثقة المدنية هي المفتاح في المجتمع الانتقالي الذي يقبل حكومته الجديدة. وبالتالي، فإن الآليات الانتقالية -مثل المحاكمات- يمكن أن يكون لها تأثير إيجابي في المؤسسات الديمقراطية، مما يسهل بدوره المصالحة. مثال واضح على هذه الديناميكية يمكن رؤيته في لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا، التي أُنشئت بعد انتهاء نظام الفصل العنصري، حيث سهّلت اللجنة الحوار بين الحكومة والمواطنين، ووفّرت منصة للضحايا لمشاركة تجاربهم في انتهاكات حقوق الإنسان، وعرضت على الجناة فرصة للحصول على العفو مقابل تقديم الحقيقة. ساعدت هذه العملية في تعزيز الثقة المدنية في الحكومة الديمقراطية الجديدة. وقد أسهمت جهود اللجنة في تطوير مؤسسات ديمقراطية أكثر استجابةً وقابلةً للمساءلة، مما لعب دورًا حيويًا في المصالحة في جنوب أفريقيا بعد انتهاء الفصل العنصري.[13]
 إن أحد المخاوف المتعلقة بالمحاكمات هو أنها تفتح مجالًا واسعًا للتحرك القانوني . وكما كانت الحال في الأرجنتين، فمن الصعب رسم خط فاصل بين الأفراد الذين دبّروا انتهاكات حقوق الإنسان وأولئك الذين اتبعوا الأوامر من أعلى، الأمر الذي خلق ارتباكًا قانونيًا واجتماعيًا. إن توزيع اللوم يصبح أكثر تحديًا أثناء التحول الديمقراطي الفوضوي، حيث يحتفظ بعض القادة السابقين بنفوذهم. وهذا يؤدي إلى إن محاكمة زعيم واحد تحلّ بعض هذه التعقيدات. فالشخصيات التي عملت كوجه عام للحكومة سوف تكون متورطة بوضوح في الانتهاكات السابقة. ومن ثم، فإن محاكمة شخصية قوية تحسم المناقشات حول المسؤولية في وضع الملاحقة القضائية في أعلى الهرم السياسي.
من الناحية النفسية، نجد أن محاكمة شخصية واحدة ألحقت الأذى بعددٍ أكبر من الناس سيكون لها تأثير أكبر من محاكمة مسؤولين متعددين من رتبة أدنى. وسوف يكون من السهل التعرف على شخصية الرجل “القوي” من قبل الجمهور، باعتباره الشخص الذي أساء إلى أكبر عدد من الناس، وربما حتى إلى غالبية المجتمع، ومن ثم ستنتج محاكمته أكبر تأثير إيجابي.
ثمة سيناريو واقعي سيدور حول ضرورة البدء بالمحاكمة سريعًا لمحاسبة المسؤولين، وفي الوقت نفسه، حول الحفاظ على استقرار الوضع في سورية. النقاشات تنصبّ على إنشاء محاكم محلية بدعم دولي، مع ضمان عدم تسييس المحاكمات وتحقيق العدالة لجميع ضحايا الحرب. تتعقد القضايا حين يُطرح سؤال: هل تتم محاكمة جميع المتورطين في الانتهاكات أم يقتصر الأمر على المسؤولين السياسيين والعسكريين البارزين؟ هل تُعطى الأولوية للمصالحة الوطنية أم للعدالة الجنائية الصارمة؟ في النهاية، يتفق المجتمعون على خطوة أولية: تشكيل لجنة محايدة للمصالحة والعدالة التي ستجمع بين ممثلي المجتمع المدني، والمحاكم الدولية، والجهات الفاعلة المحلية، في محاولةٍ لإيجاد نوع من التوازن بين العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، آملين أن تنجح هذه الخطوة في خلق بيئة قانونية تسمح بتحقيق العدالة، وفي الوقت نفسه، تساهم في ترسيخ دولة القانون التي يسعى إليها السوريون.

المصالحة وجبر الضرر في العدالة الانتقالية بسورية: التحديات والفرص
المبدأ الثاني في العدالة الانتقالية الذي تجب مراعاته يكمن في المصالحة وجبر الضرر. يجب أن تعي قوى المعارضة التي تستلم زمام الأمر في سورية المستقبل أنه حين تقود النخب عملية الانتقال، تكون العدالة الانتقالية محدودة. وحيث تدخل النخبة والمعارضة في صفقة، تكون العدالة الانتقالية معتدلة. وحيث تقود المعارضة أو دولة أجنبية عملية الانتقال، تكون العدالة الانتقالية “مهمة”. باختصار، تزداد العدالة الانتقالية مع انخفاض نفوذ النخب. أحد التفسيرات المحتملة لهذا النمط هو أنه عندما تقود النخب عملية الانتقال، فإنها تحاول حماية نفسها من العقوبات التي تلي عملية الانتقال، وعندما تتفاوض بشأن عملية الانتقال، فإنها تحاول انتزاع التنازلات من المعارضة[14].
إن المشكلة التي تنشأ عادة بعد تغيير النظام هي كيفية توفير الموارد اللازمة للنظام الجديد. وإن الملاحقات القضائية قد تمهّد الطريق أمام أتباع النظام الجديد، سواء أكانوا من المتأخرين في الوصول أو من الأعضاء السابقين في المعارضة، لتولي المناصب التي يشغلها على نحو ظاهر أفراد أو موظفون من النظام القديم. وسوف يستاء عامة الناس في النظام الجديد من حكم الحكام القدامى الذين يحملون ألقابًا جديدة. ولكن كلّما كان النظام القديم راسخًا أكثر، ومدة بقائه أطول؛ زادت احتمالات احتكار موظفيه للخبرة الإدارية والفنية. والواقع أن المعارضين أو الثوّار السابقين، الذين حُرموا من التعليم الفني، كثيرًا ما يكونون من بين أولئك الذين يسعون إلى إثبات أن النظام القديم حرمهم من الفرص المهنية[15]. وقد كان القضاء في النظام النازي قد بلغ الحد الذي دفع المحتلين إلى إغلاق جميع المحاكم الألمانية لمدة عشر سنوات، وإعادة تأسيس النظام القضائي، بحيث يتولى جيل جديد من القضاة مهامهم في غضون ذلك. وبطبيعة الحال، كان هذا الاقتراح بمثابة فشل لاحق في نزع النازية عن القضاء، بمعنى التعويض أو الإعادة عن الانتهاكات أو إعادة الحقوق إلى أصحابها. وكثيرًا ما كان القضاة يشعرون بالغضب الشديد عندما يجدون أن القضاة هم القضاة الذين سمحوا بالتجاوزات في النظام الأصلي. وتختلف شدة مشكلة التوظيف باختلاف ترسيخ النظام القديم والظروف التي أعقبت ذلك. ففي أحد الأطراف، توجد حالات يستطيع فيها عدد كبير من غير المتعاونين (ربما بسبب فرض التدخل العسكري مؤقتًا) استئناف مناصبهم بسرعة، وإعادة المؤسسات القائمة سابقًا. ففي بلجيكا وهولندا، على سبيل المثال، استعادت الحكومات في المنفى السلطة بسرعة.
إذن، الحذر كلّ الحذر عند المصالحة، وعند التعامل مع رجال سلطان النظام القديم، فالمصالحة  ضمن إطار العدالة الانتقاليةلا تقتصر على التوصل إلى “اتفاق” بين الأطراف المتصارعة، بل تشمل أيضًا عملية إعادة بناء الثقة بين المؤسسات والشعب. وهذا يعني أن سورية تحتاج إلى إصلاحات على مستوى الحكم المحلي، مثل إنشاء منصات تفاعلية، حيث يمكن للمواطنين من مختلف الخلفيات التعبير عن مخاوفهم وآمالهم في المستقبل. هذه العملية يجب أن تكون شاملة لجميع الأطراف حتى تساهم في بناء مجتمع موحد، بعيدًا عن الانقسامات الموروثة من الصراع[16]. أما المصالحة المجتمعية، فهي تتطلب التفاعل بين الجماعات المختلفة التي تأثرت بالصراع في سورية، حيث توجد مجتمعات متعددة الأعراق والطوائف، تشمل العرب السنّة، الأكراد، العلويين، الدروز، وغيرهم. ولتحقيق المصالحة المجتمعية، ينبغي أن تكون هناك آليات تهدف إلى تعزيز الحوار بين هذه الجماعات.
أما جبر الضرر، فيركز على الاعتراف بالضحايا وتعويضهم، بهدف إعادة الكرامة لهم، والتأكيد على مسؤولية الدولة عن الأضرار التي لحقت بهم. في الخريطة السورية، يكتسب جبر الضرر أهمية خاصة، إذ شهدت البلاد على مدى سنوات الحرب مئات الآلاف من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، مثل القتل الجماعي، والاعتقالات التعسفية، والتعذيب (في سجن صيدنايا وغيره) والتدمير والتهجير القسري. ضمن مفهوم العدالة التصحيحية، أي نظام قانوني يجب أن يعترف بضرر الضحية، ويكفل تعويضًا يساهم في استعادة توازن العدالة.[17] وتمثل عملية جبر الضرر تحديًا كبيرًا، بسبب حجم الانتهاكات والخراب الذي خلفه انتهاك النظام. وتبرز أيضًا مسألة التعويضات المعنوية والاعتراف بالضحايا في العدالة الانتقالية وهي تعدّ جزءًا أساسيًا من عملية جبر الضرر. في السياق السوري، بعد انتهاء النظام العسكري للأسد، يجب تشكيل لجنة للحقيقة للتوثيق الرسمي للانتهاكات التي حدثت. وهناك حاجة ماسة إلى تعزيز التضامن المجتمعي، من خلال توفير الدعم النفسي والاجتماعي للضحايا، من خلال برامج إعادة التأهيل الاجتماعي والنفسي. فالضحايا الذين عانوا الاعتقالات التعسفية أو التعذيب يحتاجون إلى الدعم النفسي، فضلًا عن التعويضات المالية. وقد تكون هذه البرامج جزءًا من جهود أوسع لبناء الثقة بين الضحايا والمجتمع، كما حدث في البوسنة والهرسك بعد انتهاء حربها الأهلية. وكذلك في كمبوديا، حيث تم إنشاء محكمة خاصة للنظر في جرائم النظام “الخمير الحمر” بعد أن تسببت سياساتهم القمعية في مقتل ما لا يقل عن 1.5 مليون [18]. وما زال السوريون في المرحلة الأولية من انهيار وسقوط نظام بشار الأسد، وهناك تحديات كثيرة تواجه جبر الضرر، ومنها الافتقار للآليات القانونية المستقلة والمحايدة، والهيمنة السياسية والانقسام السياسي والميداني في سورية، وإن تطبيق جبر الضرر قد يواجه تحديات من خلال الأطراف المختلفة التي تحاول استغلال العملية لصالحها.
عملية المصالحة وجبر الضرر في سورية تتطلب نهجًا شاملًا يشمل جميع الأطراف السياسية والاجتماعية. ويجب خلق منصات تفاعلية على المستوى المحلي، تسمح للمواطنين من مختلف الفئات المجتمعية بالتعبير عن آرائهم وآمالهم، حيث يُعزز ذلك مصداقية العمليات السياسية، ويساهم في استعادة الثقة بين الحكومة والشعب. ويجب أن تتبنى العملية الانتقالية آليات تدعم الحوار الوطني، مثل إنشاء مجالس محلية تمثل جميع الأطياف الاجتماعية والعرقية، تسهم في تقليل الانقسامات وبناء الثقة. ويجب إعادة تأهيل الضحايا، عبر برامج إعادة التأهيل النفسي والاجتماعي للضحايا، التي تعدّ جزءًا أساسيًا من عملية المصالحة المجتمعية، إذ إن بناء المجتمع يتطلب تعافي الأفراد أولًا. ويمكن للمنظمات الدولية أن تساعد في إنشاء آليات قضائية مستقلة تضمَن المحاسبة على الجرائم المرتكبة، كما حدث في كمبوديا والبوسنة والهرسك. وإنّ دعم المجتمع المدني وتعزيز دور المجتمع المدني السوري في مراقبة عملية جبر الضرر وإعادة بناء المؤسسات يُساعد في ضمان شفافية الإجراءات.

البحث عن الحقيقة وإصلاح المؤسسات المدنية والعسكرية وبناء مستقبل مستدام
المبدأ الثالث الأساسي للعدالة الانتقالية يتمثل بالبحث عن الحقيقة، وهو يتمثل في توثيق الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وكشف تفاصيلها. ويشكّل الحق في معرفة الحقيقة جزءًا من حقوق الإنسان الأساسية التي تتيح للأفراد فهم الظروف التي مرّوا بها، والتعرّف على الجناة والمجرمين. ويعكس هذا البحث الرغبة في كشف حقيقة الانتهاكات التي تعرّض لها الشعب السوري من قِبل النظام، وأطراف أخرى، سواء كانت ميليشيات أو جماعات مسلحة أخرى. وهنا يبرز ما قام به المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، عندما وثّق للثورة السورية عبر منصة الذاكرة السورية، التي احتفظت بشهادات وملفات مرئية وأدلة، للمساعدة في إنشاء سجل موثق للانتهاكات. هذا النوع من الأرشيفات لا يقتصر فقط على توثيق الأحداث، بل يمكن أن يساعد في بناء الذاكرة الجماعية التي ستشكل الأساس للمصالحة. ومن خلال هذه المنصّة، كانت هناك شهادات الضحايا والمجتمعات المحلية التي تعتبر مصدرًا حيويًا لفهم الانتهاكات التي حدثت. وكان للشبكة السورية لحقوق الإنسان باعٌ في هذا المجال، حيث لعبت دورًا رئيسيًا في جمع الأدلة والشهادات.
يمثل إصلاح المؤسسات المبدأ الرابع من مبادئ العدالة الانتقالية، وهو عملية حيوية تهدف إلى إعادة هيكلة المؤسسات الحكومية والاجتماعية التي تورّطت في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان أو رعتها. ويركز هذا الإصلاح على قطاعات حيوية، تشمل القضاء، والأمن، والتعليم، والصحة، وغيرها من المؤسسات التي تحتاج إلى تغييرات جذرية، لضمان عدم تكرار الانتهاكات في المستقبل. في السياق السوري، يعتبر إصلاح المؤسسات ضرورة ملحّة لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، ولا سيما بعدما تعرضت له منذ أكثر من ثلاثة عشر عامًا من الصراع الذي دمّر البنية التحتية للدولة وأضعف المؤسسات الحكومية بشكل كبير.
ومن الناحية النظرية، يرتكز مفهوم إصلاح المؤسسات على مبادئ الحوكمة الرشيدة التي تضمن احترام حقوق الإنسان وتعزيز العدالة والمساواة بين المواطنين. وفقًا لنظرية الحوكمة الانتقالية (Transitional Governance Theory)، فإن إصلاح المؤسسات هو أداة لضمان شرعية الدولة بعد الصراع وتحقيق الاستقرار المستدام. وهذه النظرية تدعو إلى دمج المعايير الدولية لحقوق الإنسان في عمليات الإصلاح المؤسسي، ومنها ضمان المساءلة، والشفافية، والكفاءة في تقديم الخدمات العامة[19]. في سورية، يشكّل إصلاح الأجهزة الأمنية والقضائية أولوية قصوى، حيث كانت هذه المؤسسات أدوات رئيسية في دعم القمع والاستبداد. وتشير نظرية “التحول الديمقراطي” إلى أنّ إعادة هيكلة هذه الأجهزة يجب أن تتضمن تغييرات مؤسسية وهيكلية، مثل إزالة العناصر المتورطة في الانتهاكات، وتطبيق سياسات فعالة لدمج فئات مجتمعية متنوعة، وضمان استقلالية القضاء.[20] وإضافة إلى ذلك، يُبرز نموذج إعادة بناء السلام الإيجابي (Positive Peacebuilding) أهمية إصلاح القطاعات الاجتماعية، مثل التعليم والصحة، لضمان معالجة الجذور الاقتصادية والاجتماعية للصراع. ويتطلب هذا النموذج الاستثمار في تحسين الظروف المعيشية وتعزيز التنمية الاجتماعية كجزء من عملية الإصلاح الشاملة.
في الحالة السورية، يعني تحقيق هذا الهدف إجراء إصلاحات عميقة في مؤسسات الدولة التي كانت خاضعة للسلطة الاستبدادية، مثل الأجهزة الأمنية والاستخباراتية. يجب أن تتضمن هذه الإصلاحات آليات لضمان الرقابة المدنية وتطبيق قوانين صارمة تحول دون استخدام هذه المؤسسات كأدوات لقمع الشعب. بهذا، يصبح إصلاح المؤسسات ليس مجرد إجراء فني، بل يكون جزءًا من عملية بناء دولة جديدة تقوم على احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون[21]. وتعدّ نظرية “التغيير المؤسسي” في العدالة الانتقالية من الأدوات الرئيسية لفهم كيفية بناء مؤسسات جديدة قادرة على تجاوز إرث الأنظمة الاستبدادية. تؤكد هذه النظرية أن أي عملية تغيير حقيقية لا يمكن أن تقتصر على الهيكل التنظيمي فقط، بل يجب أن تمتد إلى تغيير الثقافة المؤسسية التي تتسم غالبًا بالعقابية والسلطوية في ظلّ الأنظمة القمعية. [22]في الحالة السورية، يظهر هذا بوضوح في المؤسسات الأمنية والعسكرية التي استخدمت العنف كوسيلة للسيطرة،[23] مما يستدعي إصلاحًا جذريًا يركّز على إعادة هيكلة هذه المؤسسات لتخضع لرقابة مدنية صارمة. هذا الإصلاح يجب أن يشمل إزالة العناصر المتورّطة في الانتهاكات وتعزيز ثقافة الخدمة العامة القائمة على احترام حقوق الإنسان[24].
من جانب آخر، الجيش أيضًا يتطلّب إعادة صياغة شاملة لدوره. وفقًا لنظرية إعادة دمج القوات المسلحة، فإن دمج الفصائل العسكرية المختلفة ضمن هيكل الدولة الجديد هو ضرورة لضمان عدم تحولّها إلى جهات مؤثرة خارجة عن سيطرة الحكومة. لا يمكن تحقيق هذا إلا من خلال إنشاء وزارة دفاع جديدة، تتولى الإشراف على الجيش، وتعمل ضمن هيكلية مدنية شفافة وديمقراطية. من جهته، القضاء السوري كان أداة رئيسية في يد النظام لتعزيز سلطته وقمع المعارضين، مما أفقده نزاهته واستقلاله. تشير نظرية سيادة القانون إلى أن الإصلاح القضائي في سورية يجب أن يركز على بناء مؤسسات قانونية مستقلة قادرة على تعزيز العدالة والمساءلة. وهذا يتطلب تدريب القضاة وفقًا للمعايير الدولية، وتفعيل محاكم متخصصة لمحاكمة مرتكبي ي الانتهاكات، وإعادة هيكلة المحاكم العسكرية لتصبح خاضعة للإشراف المدني. وإضافة إلى ذلك، يمكن لتطبيق العدالة الإصلاحية أن يلعب دورًا مهمًا في إعادة بناء الثقة، بين الدولة والمجتمع، من خلال ضمان محاكمات عادلة وتقديم تعويضات للضحايا.
قطاع التعليم والإعلام يُعدّ من بين أكثر القطاعات التي تأثرت بالتوجهات الأيديولوجية للنظام السوري، إذ كان التعليم أداة لتوجيه الأجيال الناشئة نحو الولاء للنظام، وكان الإعلام الرسمي منصة للرقابة على الرأي العام. تتطلب عملية الإصلاح إعادة بناء نظام تعليمي يعزز التفكير النقدي، مع تحديث المناهج الدراسية لتتناسب مع المعايير العالمية لحقوق الإنسان. ويجب تحويل النظام التعليمي إلى أداة لتعزيز التفكير النقدي وحقوق الإنسان، مع تحديث المناهج لتشمل قيم المواطنة وحقوق الإنسان. في المقابل، يحتاج الإعلام إلى أن يتحوّل إلى منصة شفافة، تعكس التعددية السورية وتدعم حرية التعبير والمساءلة المجتمعية. ويجب أن يترافق الإصلاح المؤسسي مع مصالحة مجتمعية حقيقية، حيث يتم تشجيع الحوار بين المكونات المختلفة للمجتمع السوري. القطاع الصحي في سورية يمثل تحديًا كبيرًا بعد الحرب التي دمّرت البنية التحتية الصحية. يحتاج هذا القطاع إلى إصلاح شامل يعيد بناء المستشفيات والمراكز الصحية، مع توفير الدعم الطبي والنفسي للناجين من العنف. وفقًا لنظرية الإنصاف الصحي، يجب أن يضمن النظام الصحي الجديد تقديم خدمات متساوية لجميع المواطنين، مع التركيز على المناطق التي عانت تهميشًا كبيرًا خلال الصراع.
. ويجب أن يتم الإصلاح الاقتصادي على أساس العدالة الاجتماعية لضمان توفير فرص عمل للنازحين والضحايا، إضافة إلى استعادة النشاط الاقتصادي في المناطق المتضررة. ويعتمد ذلك على إشراك القطاع الخاص المحلي والمنظمات الإنسانية في عمليات إعادة الإعمار. ولتجنب تركّز السلطة في يد الحكومة المركزية، يجب تعزيز دور السلطات المحلية في تنفيذ الإصلاحات وتنفيذ مشاريع التنمية. هذا يمكن أن يساعد في تقليل التوترات بين الحكومة والمجتمعات المحلية.
على الرغم من أهمية هذه الإصلاحات، تواجه عملية التغيير المؤسسي في سورية تحديات جمة، أبرزها التهديدات من الفصائل المسلحة والجماعات ذات النفوذ العسكري، إضافة إلى الفساد المنتشر في مؤسسات الدولة. تشير الأدبيات المتعلقة ببناء السلام المستدام إلى أن التغلب على هذه التحديات يتطلب ضمانات دولية ودعمًا سياسيًا قويًا. محاربة الفساد تعتبر جزءًا أساسيًا من هذه العملية، حيث إن تعزيز الشفافية والمساءلة يُعدّ مفتاحًا لتحقيق إصلاحات مستدامة. وإصلاح المؤسسات في سورية ليس مجرد عملية تقنية لإعادة بناء الدولة، بل هو مشروع شامل يهدف إلى إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس جديدة من العدالة والمساواة واحترام حقوق الإنسان. هذه العملية تمثّل فرصة حقيقية لفتح صفحة جديدة من التعايش والسلام المستدام، مع ضمان عدم تكرار الأخطاء الكارثية التي أوصلت البلاد إلى هذا الوضع.
ختامًا، تمثّل العدالة الانتقالية في سورية حجر الزاوية في عملية بناء دولة ما بعد الأسد. وعلى الرغم من التعقيدات الهائلة التي تواجهها، فإنها تبقى السبيل الأمثل لتحقيق المصالحة الوطنية وإعادة بناء الثقة بين مكونات المجتمع السوري. إن محاسبة المسؤولين عن الجرائم والانتهاكات هي واجبٌ أخلاقي أولًا، وهي ضرورة سياسية وقانونية لبناء مستقبل قائم على احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون. في ظل الظروف الحالية، يتطلب تحقيق العدالة الانتقالية تبنّي نهج متوازن يجمع بين المساءلة، والتعويض، والمصالحة. ويظل الأمل موجودًا في أن تكون هذه المرحلة بداية جديدة لسورية المستقبل، سورية المواطنة، حيث تُبنى مؤسسات قوية وعادلة تستجيب لتطلعات الشعب السوري في الحريّة والكرامة والمساواة، وتُطوى صفحة مظلمة من تاريخ البلاد بوعي ومسؤولية نحو مستقبل أفضل.


التعليقات