خلال حربيّ غزة ولبنان، نجح الحوثيون في تحويل مضيق باب المندب إلى منطقة منع وصول للشحن التجاري والسيطرة على المجال البحري. وبعد مرور عام على استيلائهم على ناقلة السيارات "غالاكسي ليدر" (رقم IMO 9237307) وطاقمها متعدد الجنسيات في البحر الأحمر، أصبحت الساحة البحرية محورًا رئيسيًا لعمليات الجماعة المدعومة من إيران. و باستخدام أنواع مختلفة من الأسلحة، قام الحوثيون بتنفيذ حتى الآن أكثر من مئة هجوم على السفن التجارية والقطع البحرية منذ نوڤمبر/ تشرين الثاني 2023، مع فرض قيود جديدة على الشحن البحري في كل مرحلة من حملتهم.
و أدت هذه الهجمات إلى تشكيل مهام دفاعية بحرية إقليمية متعددة، بما في ذلك عملية حارس الازدهار بقيادة الولايات المتحدة، وعملية أسبيدس بقيادة الاتحاد الأوروبي. و كان لوجود البحرية الغربية دور حاسم في بعض المناطق، مثل اعتراض شحنات الأسلحة الحوثية، ومرافقة بعض السفن التجارية، وإنقاذ السفن المتضررة. كما شنّت الولايات المتحدة وبريطانيا ضرباتٍ عسكرية تحت اسم بوسيدون آرتشر بدعوى "الدفاع عن النفس"، مع دعم غير مباشر من دول أخرى، لاستهداف مخزونات الأسلحة الحوثية ومواقع إطلاقها. ومع ذلك، لم تنجح هذه الإجراءات حتى الآن في ردع الجماعة.
ومع اقتراب عام 2025، قد تتصاعد المخاطر البحرية الحالية أو تتراجع تدريجيًا، وذلك يعتمد إلى حدٍ كبير على كيفية تعامل الإدارة الأمريكية القادمة مع حرب غزة، التي يستخدمها الحوثيون لتبرير هجماتهم، بالإضافة إلى دور إيران. و من الناحية النظرية، يمكن أن يمهد وقف إطلاق النار في غزة الطريق لحلٍ دبلوماسي لأزمة البحر الأحمر. ومع ذلك، فإن أي حل جاد سيتطلب إشراك شركاء الولايات المتحدة الإقليميين الذين تأثرت موانئهم بسبب الهجمات الحوثية.
و على الجانب الآخر، إذا تبنت إدارة ترامب المقبلة سياسة صارمة تجاه إيران، فقد تواجه السفن التجارية مزيدًا من المخاطر الهجينة. وفي كلتا الحالتين، ستؤثر سياسة الإدارة الأمريكية المقبلة تجاه الشرق الأوسط بشكل مباشر على المجال البحري في المنطقة.
-تطور حملة الحوثيين وأبرز الاتجاهات البحرية
قسم الحوثيون حملتهم البحرية حتى الآن إلى خمس مراحل رئيسية:
• المرحلة الأولى: استهدفت هجمات الصواريخ التي أُطلقت نحو إسرائيل بدءًا من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 مع اندلاع حرب غزة، إضافة إلى السفن المرتبطة بإسرائيل في البحر الأحمر منذ نوڤمبر/ تشرين الثاني 2023.
• المرحلة الثانية: توسعت الهجمات في ديسمبر/ كانون الأول 2023 لتشمل جميع السفن المتجهة إلى الموانئ الإسرائيلية. كما أصبحت السفن ذات الروابط المباشرة أو غير المباشرة بإسرائيل أهدافًا، بما في ذلك السفن التي زارت الموانئ الإسرائيلية سابقًا.
• المرحلة الثالثة: توسعت الهجمات في يناير/ كانون الثاني 2024 لتشمل السفن المرتبطة بالولايات المتحدة والمملكة المتحدة.
• المرحلة الرابعة: شملت الهجمات، بدءًا من مايو/ آيار 2024، السفن التي يملكها أو يشغلها أفراد أو شركات لها سفن تزور الموانئ الإسرائيلية.
• المرحلة الخامسة: أُعلن عنها بعد إطلاق الحوثيين طائرة مسيرة من طراز "يافع" على تل أبيب في 19 يوليو/ تموز 2024، وتبني هذه المرحلة على المراحل السابقة مع تكثيف العمليات.
و في كل مرحلة، تمكنت جماعة الحوثيين من إجبار عدد متزايد من السفن على تجنب الإبحار عبر جنوب البحر الأحمر. و خلال المرحلة الرابعة، ومنذ أواخر أبريل/ نيسان 2024 على الأقل، بدأت شركات شحن إضافية تتعامل مع الموانئ الإسرائيلية بتجنب الرحلات عبر مضيق باب المندب.
و في الوقت نفسه، لفتت بعض الهجمات الانتباه إلى أنشطة أخرى في المنطقة، مثل تجارة النفط الروسي.
• هجمات الحوثيين والسفن المرتبطة بروسيا:
سلّطت الحملة التي يقودها الحوثيون الضوء على ناقلات النفط التي تنقل الخام الروسي إلى الأسواق الآسيوية. ومن بين هذه الناقلات، ناقلة النفط الخام كورديليا مون (Cordelia Moon)، رقم تسجيلها الدولي IMO 9297888، والتي ترفع علم بنما. وصفها الحوثيون خطأً بأنها "بريطانية" عندما هاجموها في أكتوبر/ تشرين الأول. و في الواقع، كانت الناقلة مرتبطة بشركة مارغاو مارين سوليوشنز (Margao Marine Solutions OPC)، ومقرها الهند، وهي شركة لها صلات بالسفن المشاركة في تجارة النفط الروسي. و كانت كورديليا مون تبحر في المنطقة بعد تفريغ شحنة من النفط الخام الروسي في مصفاة جامناجار (Jamnagar) الهندية.
و أظهرت الأبحاث المتعلقة بهذا التقرير أن الناقلة سبق أن أبحرت في المنطقة دون أي مشاكل. ولا يزال من غير الواضح ما إذا كان الحوثيون قرروا مهاجمة السفينة في أكتوبر/ تشرين الأول بسبب انخفاض عدد السفن التي تتطابق مع قائمة أهدافهم والمتواجدة حاليًا في المنطقة. و في نوڤمبر/ تشرين الثاني، انخفض عدد الهجمات على السفن التجارية إلى ثلاثة حوادث مؤكدة فقط، مقارنة بأربعة عشر حادثة في يونيو/ حزيران (وفقًا لمتتبع الحوادث البحرية الخاص بـمعهد واشنطن (The Washington Institute)).
و لا تزال الناقلات المرتبطة بروسيا من بين السفن التي تعبر البحر الأحمر. ووفقًا لتحليل أجرته لويدز ليست إنتليجنس، فإن السفن المرتبطة بروسيا، إلى جانب السفن المرتبطة بالصين واليونان والإمارات العربية المتحدة وتركيا، تُعد حاليًا من "أكثر المستخدمين نشاطًا" لهذا المسار. ومع ذلك، فإن هذا لا يعني أن هذه السفن محصنة تمامًا من الهجمات، حيث يعتمد الحوثيون غالبًا على بيانات شحن قديمة أو غير دقيقة لتنفيذ عملياتهم.
• تباين ردود الفعل تجاه أزمة البحر الأحمر:
لا تزال حركة المرور في مضيق باب المندب منخفضة بأكثر من 50% مقارنة بالعام الماضي. وقد تسببت أزمة البحر الأحمر في تحدياتٍ كبيرة للموانئ الإقليمية وللممرات الملاحية الحيوية مثل قناة السويس، حيث انخفض عدد العبور من حوالي 2,068 رحلة في نوڤمبر/ تشرين الثاني 2023 إلى نحو 877 رحلة في أكتوبر/ تشرين الأول 2024، وفقًا لبيانات لويدز ليست إنتليجنس.
و مع ذلك، فقد جلبت الأزمة فوائد مالية للبعض، حيث استفادت شركاتٍ معينة جزئيًا من ارتفاع تكاليف الشحن أثناء إعادة توجيه السفن حول جنوب إفريقيا. وفي الوقت ذاته، رأى آخرون فرصًا مالية في البحر الأحمر وبدأوا خدمات شحن جديدة على الرغم من المخاطر العالية، مثل شركة سي ليد (SeaLead)، التي يقع مقرها الرئيسي في سنغافورة.
و من جهة أخرى، تستمر شركات الشحن الكبرى مثل إيه. بي. مولر ميرسك (A.P. Moller-Maersk) الدنماركية في تجنب خليج عدن وجنوب البحر الأحمر، متخذة طريق رأس الرجاء الصالح بدلاً من ذلك. وقد أدى هذا المسار الطويل إلى زيادة استهلاك وقود السفن وارتفاع التكاليف التشغيلية الإجمالية، مما ساهم بدوره في ارتفاع أسعار الشحن وتحقيق أرباح أعلى.
و على النقيض، بعض شركات الشحن الرائدة الأخرى حافظت على المرور عبر جنوب البحر الأحمر.
و من أبرز هذه الشركات شركة الشحن الفرنسية سي إم إيه سي جي إم (CMA CGM)، التي استمرت في تشغيل خدمة تربط آسيا بالبحر المتوسط عبر المنطقة. و بشكل عام، تحتاج السفن التي تمر عبر باب المندب إلى مرافقة من القطع البحرية الحربية، على الرغم من أن هذه المرافقة لا تتم في كل مرة.
إضافة إلى ذلك، أجبرت أزمة البحر الأحمر بعض المنتجين على إعادة توطين عملياتهم، مما أفاد ذلك بعض الدول. فعلى سبيل المثال، تظهر الأبحاث المرتبطة بهذا التقرير أنه مع زيادة المسافة لنقل البضائع بين أوروبا وآسيا، قرر بعض المنتجين الأوروبيين الانتقال إلى جبل علي في دبي، مما قلل المسافة بتجنب الرحلة الطويلة عبر جنوب إفريقيا.
• ما ينتظرنا في عام 2025:
رغم أن قوات القيادة المركزية الأمريكية (CENTCOM) كثّفت ضرباتها الجوية ضد منصات إطلاق الأسلحة الحوثية ومنشآت تخزينها داخل اليمن منتصف أكتوبر/ تشرين الأول، إلا أن التأثير على القدرات العسكرية للحوثيين لا يزال محدودًا. فمنذ يناير/ كانون الثاني 2024، نفذت قوات التحالف الغربي ما لا يقل عن سبع ضربات على أهداف حوثية في اليمن، كان أحدثها في 9 و10 نوفمبر/ تشرين الثاني، حيث استخدمت لأول مرة طائرات شبحية متطورة من طراز F-35C المحمولة على حاملات الطائرات. و ركزت معظم هذه الضربات على استهداف الأسلحة الحوثية في مراحلها المختلفة قبل الإطلاق، بالإضافة إلى الرادارات الساحلية التي تدعمها. ومع ذلك، استهدفت الضربات أحيانًا مستودعات أسلحة كبيرة، ومخابئ تخزين، وخطوط تجميع.
و في يناير/ كانون الثاني 2024، أعادت إدارة بايدن تصنيف الحوثيين كجماعة إرهابية عالمية مصنفة بشكل خاص، لكن ذلك، وكما كان متوقعًا، لم يؤثر على سلوكهم البحري.
و حول ما إذا كانت الإدارة الأمريكية المقبلة ستُجري تغييرات جوهرية في نهجها تجاه سلوك الحوثيين يعتمد إلى حد كبير على موقفها من أمن الملاحة البحرية وحرية التنقل. و تأمين جنوب البحر الأحمر يجب أن يشمل أيضًا الحلفاء والشركاء الإقليميين لتقاسم تكاليف هذه العملية. وسيتطلب ذلك تحالفات إقليمية قوية ذات تفويضات تشغيلية واضحة لتعطيل خطوط الإمداد الحوثية بشكل أكثر فعالية.
• ما ينتظرنا في عام 2025 لأمن الممرات البحرية:
سيعتمد مستقبل أمن ممرات الشحن بشكل كبير على مستوى التوتر بين إيران والولايات المتحدة وكذلك على استمرار الحرب في غزة. خلال الولاية الأولى لدونالد ترامب، وفي ظل العقوبات الأمريكية الصارمة على صناعة النفط الإيرانية، تم تحميل إيران مسؤولية العديد من الهجمات البحرية في منطقة الخليج العربي. و إذا تبنت الإدارة المقبلة لترامب نهجًا صارمًا مماثلًا ضد إيران، فمن المتوقع حدوث ردود فعل انتقامية في المجال البحري، على غرار ما حدث بين عامي 2018 و2020، ولكن مع احتمال تورط الحوثيين بدرجة أكبر هذه المرة.
و قد تؤدي سياسة إدارة ترامب إلى تقليص صادرات النفط الإيرانية بمقدار يتراوح بين 500 إلى 600 ألف برميل يوميًا بحلول منتصف عام 2025، ما سيخفض صادرات إيران إلى نحو مليون برميل يوميًا من ما يقرب من 1.6 مليون برميل، وفقًا لبيانات قدمتها شركة كيبلر (Kpler) المتخصصة في استخبارات السوق خلال حدث جديد. و في هذا السيناريو، قد تلجأ إيران والحوثيون إلى الرد عبر استهداف السفن، بما في ذلك في مناطق ليست تقليديًا ضمن نطاق عملياتهم.
على سبيل المثال، قد يكثف الطرفان هجمات الطائرات المسيرة ضد السفن التجارية، خاصة تلك المرتبطة بالولايات المتحدة وإسرائيل، في بحر العرب. كما يمكن توقع حوادث بحرية في المحيط الهندي المركزي باستخدام أسلحة بعيدة المدى وسفن أم تُستخدم كنقاط انطلاق لنشر الألغام البحرية أو الطائرات المُسيّرة الجوية أو الصواريخ الجوالة أو المركبات السطحية غير المأهولة (USVs) أو المركبات الغواصة غير المأهولة (UUVs).
و إذا كان الشركاء الرئيسيون للولايات المتحدة في الخليج العربي يسعون إلى تعزيز الاستقرار المستدام بالتوازي مع تركيزهم على التنمية الاقتصادية، وإذا كانت الإدارة الأمريكية الجديدة ترغب في تعزيز السلام في المنطقة بشكل فعّال، فيجب على واشنطن الدفع نحو تعاون وثيق مع الدول الإقليمية مثل السعودية في مجال الأمن البحري والسياسات تجاه إيران.
و سيتطلب ذلك ممارسة ضغوط دبلوماسية، خاصة مع استمرار تحسن العلاقات السعودية-الإيرانية منذ الاتفاق الذي توسطت فيه الصين بين البلدين في عام 2023.
و في الوقت نفسه، إذا كانت إدارة ترامب تخطط للتركيز على سياسة "الضغط الأقصى" ضد إيران، فيجب أن تكون مستعدة للعواقب المحتملة، مع ضرورة الحفاظ على وجودها الإقليمي أو حتى توسيعه لضمان حماية مصالحها وتعزيز الاستقرار.