تقرير: هل تصبح الأسماك غذاءً نادرًا في سواحل عدن؟
يمن فيوتشر - صالح المحوري الإثنين, 23 سبتمبر, 2024 - 05:51 مساءً
تقرير: هل تصبح الأسماك غذاءً نادرًا في سواحل عدن؟

[ AFP ]

عاد عبد الرحمن محمد من سوق السمك في مديرية الشيخ عثمان شمالي عدن خالي الوفاض إلى أطفاله، بعد فشله في شراء حتى أرخص أنواع الأسماك، إذ قفز سعر ربطة سمك "الباغة" التي كانت في متناول الجميع إلى 10 آلاف ريال يمني (ما يزيد عن 5 دولار أمريكي)، وهو رقم غير مسبوق في العملة المحلية.
كانت "الباغة" (القرفة الهندية Ndian mackerel) أحد أكثر أنواع السمك التي يعتمد عليها البسطاء في عدن، قبل انهيار العملة المحلية، وخروجها عن متناول الكثيرين في المدينة الساحلية التي تطل على سواحل البحرين العربي والأحمر، المعروفة بثروتها السمكية الوفيرة.
لم تقتصر الأزمة على "الباغة" وحدها؛ فأسعار مختلف أنواع الأسماك تشهد ارتفاعًا غير مسبوق، مما أدى إلى تراجع الطلب من المواطنين، خاصة من ذوي الدخل المحدود والمتوسط.

*غلاء لا يُطاق*
أتكأ (محمد المنصوري) على جدار اسمنتِ قديم بالقرب من سوق الأسماك في مديرية الشيخ عثمان، وعاد إلى الوراء ليُقدم مقارنة خاطفة حول تغير الأوضاع الاقتصادية وضعف القدرة الشرائية للمواطن في الأعوام السابقة والحالية.
المنصوري وهو على مشارف العقد السابع من عمره ومتقاعد من وزارة الدفاع، قال لـ"يمن فيوتشر" إن سمك "الديرك" أو "الكنعد" (Scomberomorus commerson) كان في قائمة الأسماك التي تُطهى غالبًا على موائد الأكل، قبل أن يصبح الحصول عليه صعبًا هذه الأيام مع وصول الكيلو الواحد منه إلى 24 ألف ريال يمني (12,6 دولار أمريكي).
وأشار، إلى أن هذا النوع من الأسماك، الذي يعد الأفضل في السواحل اليمنية، رغم تصديره إلى الخارج سابقًا، إلا أنه كان متوفرًا في السوق المحلية بأسعار مناسبة، بفعل انتظام عمليات التصدير وخضوعها للرقابة وتحسن الوضع المعيشي للمواطنين، وهي نتائج فعلية لقيمة العملة المحلية آنذاك ووجود مؤسسات فاعلة، ما لم يعد موجودًا الآن.
ويتقاضى المنصوري راتبًا يُقدر بـ40 ألف ريال يمني؛ ما يعني احتياجه إلى أكثر من نصفه لشراء كيلو من الديرك، وهي مهمة شاقة بالنسبة له؛ إذ يُعيل أسرة مكونة من 7 أبناء، وسط ضغوط تلبية احتياجاتهم اليومية التي ترنحت مع تصاعد أسعار المواد الغذائية الأساسية.
"أغلب الناس أصبحت تعاني من شراء أقل أنواع السمك من حيث الجودة، دون الحصول على أسعار مناسبة ورخيصة، وحتى قليلة الجودة منها أصبحت تُباع بأسعار مرتفعة جدًا"، قال.

*أسباب الغلاء*
يعرض عشرات البائعين في سوق السمك بالشيخ عثمان أنواعًا متعددة من الأسماك، لكن القلة يمكنهم الشراء بسبب الارتفاع الجنوني في الأسعار. وقد يُشاهد ازدحامًا كبيرًا للمواطنين في هذه الأسواق، دون ارتباطه بالقدرة الشرائية، إذ عادة ما يعودون إلى منازلهم خاليي الوفاض.
وتتفاوت أسعار الأسماك بشكل كبير، إذ يتصدر إلى جانب "الديرك"، سمك "السخلة" (السكل أو الكوبيا Rachycentron canadum) القائمة، حيث وصل سعر الكيلو الواحد من "الديرك" إلى 24 ألف ريال، وهو رقم يعادل راتب أحد المتقاعدين المدنيين، فيما يصل سعر "السخلة"، إلى 20 ألف ريال للكيلو، وفق آخر تحديث في قائمة الأسعار، (منتصف سبتمبر/أيلول 2024). 
ويرجع ارتفاع أسعار هذين النوعين إلى قيمتهما الغذائية العالية، وزيادة الطلب عليهما، بالإضافة إلى تصدير كميات كبيرة منهما إلى دول الخليج، ما يقلل من المعروض في السوق المحلية.
تحتل أسماك "الثمد" (التونة Thunnini) المرتبة الثالثة، بسعر يبلغ 14 ألف ريال للكيلو، تليها أسماك "الباغة" إلى جانب "الجحش" (الشعور Lethrinus nebulosus). وتصدر وزارة الثروة السمكية نشرة يومية بأسعار الأسماك، لكن الأسعار الفعلية في السوق عادةً ما تكون أعلى بكثير جراء غياب الرقابة، إلى جانب ارتباطها بأسعار العملات وحركة السوق.
من ناحية أخرى، يعزو الصيادون هذا الارتفاع إلى التكاليف الباهظة التي يتحملونها أثناء رحلات الصيد، إلا أن (سعيد سالم)، الذي يعمل في مهنة الاصطياد منذ 20 عامًا، لا يعيد ارتفاع الأسعار إلى التكاليف المتزايدة لهذه الرحلات، مثل الوقود والصيانة، فقط، بل يعيدها أيضًا إلى احتكار بعض الجهات شراء الأسماك بهدف التحكم بالسوق.
"الصيادون لا يمرون بأفضل أوضاعهم خلال فترة الغلاء، إذ تكلفهم رحلات الصيد الكثير من الأموال التي تغطي تكاليف الوقود والصيانة، وبالتالي فهم يضطرون لبيع الأسماك التي يستخرجونها بمبالغ تكفي لتأمين الربح المقبول من عملية الاصطياد مع تغطية تكاليف رحلات الصيد"، يقول لـ"يمن فيوتشر".
عاد سعيد إلى الوراء، وواصل، "الأوضاع الحالية تأتي في صالح الصيادين ذوي الإمكانيات، كقوارب الصيد الكبيرة، والقدرة على توفير تكاليف الوقود والصيانة وغيرها، لكنها تعد وبالًا على الصيادين الصغار نتيجة عدم القدرة على مواجهة التحديات المادية، وهو الأمر الذي أدى إلى تخفيض رحلات الصيد".

*تحديات وغياب الاستدامة*
مصدر مطلع في وزارة الزراعة والري والثروة السمكية، رفض الإفصاح عن اسمه، تحدث للمنصة عن "عديد الأسباب أدت إلى هذا الغلاء المستمر"، مشيرًا إلى "أحد أبرزها، قلة المعروض من الأسماك نتيجة ضعف الإنتاجية، العائد إلى التغيرات المناخية التي أدت إلى هجرة الأسماك من مناطق صيدها التقليدية."
تابع المصدر حديثه، موضحًا كيف أن التغير المناخي يؤثر بطرق غير متوقعة، "أحيانًا يأتي التغيير إيجابيًا وأحيانًا سلبًا، وفي حالتنا، خلق بيئة طاردة للهائمات النباتية والحيوانية، وهي الغذاء الرئيسي للأسماك"، إلى جانب "ارتفاع درجات الحرارة، زيادة ملوحة المياه، وانخفاض نسبة الأكسجين المذاب في المياه، كلها عوامل أثرت بشكل مباشر على وجود الأسماك."
لكن التغير المناخي لم يكن العامل الوحيد. أشار المصدر إلى أن زيادة عدد القوارب وغياب الضوابط التي تنظم نشاط الصيد، أدت إلى استنزاف المخزون السمكي، "عدم الالتزام بالمعايير، مثل فتح وإغلاق المواسم وصيد الأسماك الصغيرة باستخدام الشباك ذات الفتحات الصغيرة، يؤدي إلى استنزاف الموارد."
وأضاف بحسرة، "كما أن هناك فرصًا لم نستغلها بالشكل الأمثل، فالموارد الموجودة في أعالي البحار لم يتم استغلالها بشكل كافٍ، جراء ضعف القدرات الفنية لقوارب الصيد التقليدي التي لا تستطيع الوصول إلى الأعماق الكبيرة أو المسافات البعيدة."
وانتقل بالحديث إلى ظاهرة أخرى قال إنها أكثر تعقيدًا، إذ "تسيطر المصانع والمعامل على أفضل الأنواع، بالإضافة إلى تصدير الأسماك إلى البلدان المجاورة. هذه الأمور جعلت الوضع أكثر سوءًا."
وتكمن واحدة من الحلول، كما يقول المصدر، في تغيير نمط الاستهلاك المحلي، بالتركيز على الأنواع الأرخص مثل الباغة والساردين، لكنه أشار بحزن إلى أن حتى هذه الأنواع لم تعد متاحة بالأسعار المناسبة، "فمصانع الطحن بدأت تستحوذ عليها أيضًا".
"في الأيام القليلة الماضية (بداية سبتمبر/أيلول 2024)، وصل سعر ربطة الباغة – وهي واحدة من أكثر الأنواع طلبًا – إلى 10 آلاف ريال. والسبب؟ التصدير ومصانع الطحن، التي جعلت حتى الأسماك الرخيصة ترتفع أسعارها"، مختتمًا حديثه بالتساؤل: "هل تم التفكير في إنشاء هذه المصانع بناءً على دراسات جدوى اقتصادية حقيقية؟ أم أنها بُنيت لزيادة المعاناة على المستهلك اليمني؟"

*تحديات وزارية*
في 19 فبراير/شباط 2023، أصدر وزير الزراعة والري والثروة السمكية القرار رقم 4 لسنة 2023، قضى بإيقاف تصدير منتجات الأسماك والأحياء المائية الطازجة من كافة المنافذ البرية والبحرية والجوية للجمهورية. وشدد القرار على ضرورة تنفيذ هيئات المصائد السمكية في المحافظات الساحلية لما ورد فيه، مع متابعة دقيقة لمستوى التنفيذ والتنسيق مع الجهات المعنية.
في 12 أغسطس/آب 2024، أصدر الوزير قرارًا آخر (رقم 23) يمنع إنشاء مصانع لطحن الأسماك، ويوقف العمل بالمصانع القائمة في محافظتي حضرموت والمهرة، شرقي البلاد.
ورغم القرارات، ظل التنفيذ على أرض الواقع محدودًا، خاصة فيما يتعلق بمنع تصدير الأسماك. 
مصدر مسؤول في وزارة الزراعة والري والثروة السمكية أوضح لـ"يمن فيوتشر" أن الوزارة تسعى لزيادة المعروض المحلي عبر وقف التصدير، إلا أن الفساد وسوء الأوضاع الأمنية في المنافذ البرية والبحرية والجوية يعيقان التنفيذ الفعّال، إلى جانب ضعف قوة إنفاذ القانون.
أضاف، "تعاني الحكومة من تحديات متشعبة، ووزارة الزراعة والري والثروة السمكية ليست استثناءً"، مشيرًا إلى أن "الوزارات غالبًا ما تتصرف بردود فعل إزاء المشاكل التي تواجهها، في ظل غياب خطط عمل واضحة أو الالتزام بها". 
وأكد أن العمل وفق استراتيجيات مزمّنة، مع تحديد أولويات وبرامج شهرية وسنوية، يعد أمرًا ضروريًا، إلا أن غياب هذه المعايير يدفع القطاع للعمل بشكل يومي أو أسبوعي دون توجه طويل الأمد.
كما أشار المصدر إلى أن دمج الوزارتين (الزراعة والثروة السمكية) خلق إرباكات إضافية نتيجة لعدم استكمال الهيكل التنظيمي المناسب. 
ورغم وجود مشاريع ممولة من قبل منظمات دولية ودول مانحة بجهود الوزير سالم السقطري، إلا أن تلك المشاريع تأتي وفق سياسات الجهات الممولة بدلًا من التوافق مع استراتيجية القطاع.
وعبّر المصدر عن قلقه بشأن ضعف الاهتمام بمصائد الأسماك، حيث ينبغي أن تكون هذه المصائد محور اهتمام الوزارة لضمان الاستغلال الأمثل للموارد السمكية واستدامتها، موضحًا أن "تدهور الهيئة العامة لأبحاث علوم البحار يعمق هذه المشكلة، إذ تلعب الهيئة دورًا حيويًا في تقديم دراسات علمية لتحديد كميات المخزون المسموح اصطياده وتوقيته".

 *مستقبل غامض!* 
في ظل هذه التحديات المتشابكة التي تعصف بقطاع الأسماك في عدن، يبدو أن مستقبل هذا المورد الحيوي بات مهددًا بفقدان استدامته. التغيرات المناخية، غياب الضوابط الفعّالة، واستنزاف المخزون السمكي، بالإضافة إلى الضغوط الاقتصادية المتفاقمة على المواطنين، كلها عوامل تجعل الأسماك، التي كانت جزءًا لا يتجزأ من حياة اليمنيين اليومية، تقترب من أن تصبح سلعة نادرة وباهظة الثمن.
الحلول الجذرية والإرادة السياسية أصبحت ضرورة ملحة لتفادي تراجع قدرة المدينة الجنوبية على توفير الأسماك، في مفارقة قد تجعل الأسماك، رغم وفرة البحر، نادرة على موائد سكان السواحل.


التعليقات