اليمن: سجينات خارج الأسوار
يمن فيوتشر - سمية الصريمي الثلاثاء, 20 أغسطس, 2024 - 09:54 مساءً
اليمن: سجينات خارج الأسوار

تقضي النزيلة أيامها خلف القضبان، تترقب اليوم الذي تنهي فيه محكوميتها لتغادر أسوار السجن حرة طليقة. لكن بقدر ما يمثل ذلك اليوم نهاية معاناة، إلا أنه أيضًا بداية لمعاناة أخرى أشد قساوة.
في التحقيق، يكشف "يمن فيوتشر" عن سجن من نوع آخر، تُحرم فيه المفرج عنها من حقوقها، وتُمتهن كرامتها بممارسات لا تقف عند حدود التنمر والإهانة، بل تصل حد الاعتداء الجسدي والقتل في أسوأ الأحوال.
قرار الإفراج لم يكن أمرًا خيّرًا بالنسبة لـ"شيماء" - حمايةً للأفراد، الأسماء هنا جميعها مستعارة. فعندما غادرت السجن رفقة أخيها الذي استلمها من إدارة الإصلاحية في العاصمة صنعاء، لم تكن تدرك أن الموت يتربص بها أمام منزلها. وما إن وصلت الفتاة العشرينية إلى الحي الذي تقطن فيه أسرتها، وقبل أن تتمكن من دخول المنزل، سقطت قتيلة برصاصة الأخ، أمام أعين الناس. ثم وقف القاتل ليهتف: "اليوم غسلت شرفي".
عفاف، وهي سجينة أخرى تم الإفراج عنها لاحقًا، تصف صدمتها عند سماعها الخبر: "لم تمضِ ساعات كثيرة منذ أن غادرت شيماء حتى وصلنا خبر مقتلها. شعرنا بالخوف والأسى لما حدث معها، فبعد أن انتظرت طويلًا قرار الإفراج، خرجت لتواجه الموت". 
وكانت المحكمة أصدرت حكم البراءة بحق شيماء، ليُفرج عنها، لكن أخاها لم يعتد بحكم القضاء، ونفذ فيها جريمته.

 *معاناة مزدوجة* 
لم تكن المأساة الوحيدة للسجينة خلود تعرضها للاغتصاب والحمل من أحد أفراد قريتها، بل أيضًا تخلّي أسرتها عنها، وبقائها في السجن خشية مواجهة الناس.
تسرد خلود ما حدث معها، "غادرتُ وأبي إلى صنعاء لتقديم بلاغ، وهناك تم وضعي في الدار حتى أضع مولودي، ليتم نقلي إلى المركزي رغم حصولي على حكم الإفراج. لم يأتِ أحد من أسرتي لاستلامي، فمنعت إدارة السجن إخلاء سبيلي. بقيت ست سنوات في السجن أنتظرهم، لكن دون جدوى".
وصلت قصة خلود إلى إحدى السيدات التي بادرت بالتواصل مع أسرتها وأقنعتهم بالتوقيع على استلامها، "وافقت أسرتي على توقيع الخروج، شرط ألا أعود معهم إلى القرية. مكثت في منزل السيدة التي ساعدتني إلى أن جاء النصيب وتزوجت"، تقول خلود.

 *حبس خارج إطار القانون* 
يشترط مدراء السجون إلزامية حضور أحد أقارب السجينة للإفراج عنها وتسليمها له. والشرط، بحسب المحامي عبد الرحمن الزبيب، "يعد معضلة كبرى تواجه السجينة المنتهية عقوبتها".
يقول: "اشتراط وجود أحد أقارب السجينة للإفراج عنها يعتبر مخالفة قانونية واحتجازًا للحرية"، مشيرًا إلى أنه "يتسبب في بقاء السجينات رهن السجون أضعاف الفترة المحكومات بها".
يضيف الزبيب، "عند نقاش هذا الأمر مع مدراء السجون، يرون ذلك في مصلحة السجينة، وهذا مبرر خاطئ، إذ ليس هناك مصلحة من سجن شخص بعد انتهاء فترة عقوبته".
لا يوجد في القانون اليمني ما ينص على وجوبية حضور ولي أمر السجينة لاستلامها، مع يعني أنه إجراء روتيني يتبعه مدراء الإصلاحيات على الرغم من مخالفته قانون تنظيم السجون اليمني رقم (48) لسنة 1991، بحسب المادة (11) التي تنص على أن يُفرج عن المسجون صباح اليوم نفسه لانتهاء مدة السجن المنصوص عليها في الحكم. 
ويُشرع قانون الجرائم والعقوبات اليمني رقم (12) لعام 1994، وفقًا للمادة (246)، عقوبة الحبس على من قبض على شخص أو حجزه أو حرمه من حريته دون حق قانوني.

 *إقصاء أسري* 
التخلي والترك الذي تواجهه السجينة من عائلتها عادة، لم يكن حالة نادرة عانتها خلود، فالأختان سحر ونهى واجهتا معاناة شبيهة. 
تقول نهى، وهي الأخت الصغرى، إن شقيقتها تعاني من سرطان العظام، اتبعت نصيحة امرأة من جيرانها بالذهاب لقارئة، في إشارة للعلاج الديني بالقرآن لما يُعرف بالمس الشيطاني، وفق المعتقد. 
"كانت أول مرة نذهب فيها إلى القارئة، وتفاجأنا بتطويق السلطات للمكان. ألقوا القبض علينا جميعًا بعدما تلقوا بلاغ اشتباه بالشقة. وعندما وصل الخبر إلى والدي، تبرأ منا دون أن يسمعنا، وتركنا في السجن دون أن يسأل عن حالنا"، تقول نهى.
وبعد أن بقيت الأختان في السجن لسنوات، قرر والدهما الإفراج عنهما، قبل تلقيهما ضربًا مبرحًا بمجرد وصولهما البيت. 
تضيف نهى، "نعيش حياة قاسية، نتعرض للعنف المستمر والتضييق من والدي. يمنعنا الخروج من المنزل، كما يرفض أن تذهب شقيقتي إلى المستشفى لتلقي العلاج".
تقول المحامية أمل الصبري: "تتعرض النساء السجينات اللواتي تنتهي فترة محكوميتهن إلى عنف قائم على النوع الاجتماعي بدرجة كبيرة جدًا"، فيما "لم تُعالج هذه الإشكالية إلى الآن، وهناك قصور في جانب الحماية القانونية والمجتمعية"، وسط رفض "تقبُّل المرأة التي تخرج من السجن حتى إذا ما ثبتت براءتها".
ولأن المعاناة التي تتعرض لها النساء المفرج عنهن كبيرة وخطيرة، "لا بد أن تسعى الجهات المختصة كالسلطات ومنظمات المجتمع المدني لوضع خطط وبرامج خاصة لحماية المرأة المفرج عنها، وبشكل عاجل وسريع"، تقول الصبري.

 *السجن أرحم!* 
تتحدث صفاء عن حياتها مع أسرتها بعد خروجها من السجن، أنها جحيم لا يطاق.
بعد حبس دام ثلاثة عشر عامًا، غادرت السجن مبتهجة بحياتها الجديدة، لكنها صُدمت بالواقع.
"أعيش في عزلة كبيرة، لم أجد القبول من إخوتي وأخواتي. دائمًا ما يذكرونني بأنني كنت سجينة وأنني سببت لهم العار، رغم أنني دخلت السجن في قضية مال ورطني فيها زوجي ورحل. لم أجد من أسرتي الاهتمام والمحبة. أشعر أنني غريبة ومنبوذة. معاملتهم السيئة تجعلني أتمنى العودة إلى السجن"، تقول صفاء.
وما يزيد معاناتها، حرمانها من أبنائها؛ بعدما منعتها أسرة زوجها من رؤيتهم.
تضيف، "كنت أموت قهرًا ووجعًا عندما تزوجتْ ابنتي ولم أتمكن من حضور عرسها. المجتمع قاسٍ لا يرحم".
يرى المعالج النفسي، صخر الشدادي، أن احتياج الخارجات من السجن إلى الدعم النفسي كبير ومهم جدًا. 
"المعاناة التي تواجهها السجينة المفرج عنها خارج الحبس أكبر من تلك المعاناة التي عاشتها داخله. ففي الحبس تتقبل السجينات بعضهن البعض، بينما يتعرضن خارج الأسوار للنبذ والانتقاص، الأمر الذي يعود سلبًا عليهن. فمنهن من تصاب باضطراب نفسي، ومنهن من تصاب باضطراب سلوكي"، يقول الشدادي.
أضاف، "على الجهات المعنية تأهيل السجينة قبل وبعد إخراجها من السجن"، فيما شدد كذلك على ضرورة "تأهيل أسرة السجينة قبل استلامها من الحجز".
لكن صفاء، التي لم تحظَ بأي دعم نفسي، حاولت الانتحار أكثر من مرة، "كنت أتمنى علاجنا نفسيًا حتى نستطيع تحمل الأذى الذي نعيشه كل يوم. للأسف، الخارجة من السجن لا تتلقى أي دعم حتى من الجهات المعنية"، تقول.
وكحال الأختين سحر ونهى، تتعرض غالبية الخارجات من السجن للتعنيف المستمر، ما يجعل السجن بالنسبة لهن ملجأً آمنًا.
تقول الصبري: "جراء ضعف الحماية القانونية للخارجة من السجن، تفضل السجينة البقاء في السجن على أن تخرج لمجتمع لا يتقبلها".

 *بلا حماية* 
تقول رئيسة مؤسسة دفاع للحقوق والحريات، هدى الصراري: "هناك تقصير واضح في أطر الحماية من قبل مؤسسات الدولة التشريعية أو المؤسسات الخدمية في تقديم برامج الحماية والتأهيل والرعاية بعد قضاء مدة العقوبة في مراكز الاحتجاز أو حتى دور الرعاية للسجينات والمعنفات التابعة للدولة".
وأضافت، أن "أغلب الخارجات من السجن لا تتقبلهن أسرهن، وبسبب عدم وجود دور إيواء خاص بمثل هذه الحالات، يواجهن ظروفًا صعبة، كما يتعرضن للانتقام والقتل والتخلي، ويصبح الشارع مأوى لهن، ما يعرضهن لعنف أكبر أو يعدن لارتكاب الجرم مرة أخرى".
وعن الدعم النفسي والتأهيل المهني، تشير الصراري إلى توقّف برامج التأهيل النفسي والتدريب، إلى جانب برامج التمويل للمشاريع المدرة للدخل التي كانت تتولاها فروع اتحاد نساء اليمن بالتعاون مع أوكسفام والبنوك.

حاولت معدة التحقيق التحدث مع فروع اتحاد نساء اليمن في صنعاء وتعز للوقوف على الدور الذي يقوم به الاتحاد في دعم الخارجات من السجن، دون رد.

 *حلول ولكن...* 
المعاناة المعاشة خارج أسوار السجن، إحدى تبعات النزاع المسلح الذي تعيشه اليمن منذ سنوات، والذي ساهم في شح الدعم المقدم من المنظمات الدولية، وبرامج الحماية، ما تسبب بعجز المؤسسات المعنية.
مؤسسة ميسرة التنموية التي سعت إلى إنشاء دار إيواء للسجينات المفرج عنهن، "تعذّر" أمامها "تنفيذ المشروع، بعد أن تم صرف الأرض"، وفق مصدر رفض ذكر اسمه.
أضاف، "رفضت المنظمات الدولية وكذلك الجهات الرسمية من زكاة وأوقاف وقطاع خاص توفير تكاليف إنشاء وتشغيل الدار، الذي كان يهدف إلى إيواء جميع السجينات من جميع المحافظات".


التعليقات