تقرير: "العيدية" وجبر الخواطر العائلية
يمن فيوتشر - خيوط- سمية الصريمي: السبت, 13 أبريل, 2024 - 02:03 صباحاً
تقرير:

تعدّ العيدية أو ما يطلق عليها (العَسْب) أو (العوادة)، واحدةً من أهم طقوس الأعياد في اليمن، نظرًا لرمزيتها الاجتماعية والدينية؛ إذ عادة ما ترتبط بزيارة الأقارب وصلة الأرحام، وفرصة قيّمة لتقديم المساعدات المالية للأقرباء وأسر الأصدقاء بقالب يجنّبهم الشعور بحرج تلقي العون.
مع انبلاج فجر يوم العيد، تصدح المآذن بالتكبيرات، فيما تتصاعد روائح العطور والبخور من المنازل، تدشينًا للبهجة، واحتفالًا بفرحة إتمام شهر رمضان، إذ يُسرع المصلّون لارتداء ملابس العيد، وتأمين أوراقهم النقدية بفئاتها المختلفة استعدادًا ليوم حافل ومكتظ بالزيارات وتوزيع النقود لعدد كبير من الأطفال والنساء.
فيما يترقب الأطفال انتهاء صلاة وخطبة العيد بفارغ الصبر، لتلقي العيديات المرتقبة من أهاليهم وأقربائهم وأصدقاء عوائلهم، في هذا الوقت تكون النساء في منازلهن قد استعدن لاستقبال الأقرباء، وجهّزن أنواع العصائر، والمكسرات والكعك، لاستقبال الزوّار والمعايدين، الذين بدورهم يغدقون عليهن بالعيديات (مبالغ مالية)، عادة ما تتفاوت حسب أعمار النساء ودرجة قرابتهن بالشخص المعايد.
وهذه العادات، بحسب الوكيل المالي والإداري للهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية، أحمد البيل، تمثّل روح المجتمع اليمني، مضيفًا: "المجتمع اليمني، مجتمع مترابط ومتكافل بشكل كبير جدًّا، هذه الروح هي محصلة ثقافية لحضارات عريقة ممتدة منذ آلاف السنين، إذ جرت العادة أن يعطي رجال العائلة بامتدادها، قريباتهم -خاصة المتزوجات منهن، بمن فيهن ميسورات الحال- مبالغَ مالية، واستمرّ هذا الوضع حتى عصرنا هذا".


أعياد باهتة
ولأنّ العيدية من أهم الطقوس المعتادة في مناسبة كالعيد، وبالتزامن مع الوضع الاقتصادي السيئ الذي تمر به البلاد، بات من الصعب على الكثير من الرجال الاستمرار في أدائها، وجبر خواطر أطفال ونساء العائلة، كما كان سائدًا في الوضع الطبيعي.
"العيد فرحة يخالطها الهمّ"؛ هكذا بدأ الأربعيني، خالد أنور، حديثه لـ"خيوط"، وأضاف خالد: "ذهبَت بهجة العيد، وتحول مجيئه إلى عبء، عوضًا عن كونه وقتًا مخصصًا للسعادة ولمّ شمل الأسر". ويتابع خالد: "ينتهي العيد بالنسبة لي، بعد صلاة العيد مباشرة، إذ أقف عقب الصلاة حائرًا بين الذهاب لتهنئة أخواتي وعمّاتي وخالاتي بيد خالية، أو الاكتفاء بالاتصال بهن ومعايدتهن عبر الهاتف؛ خياران كلاهما مرّ".
"خيوط" أجرت استبيانًا على عينة بلغت 54 مستبانًا، أظهرت نتائجه أنّ 96.4% من اليمنيين الذين تم استطلاع آرائهم، يرون أنّ العيدية أصبحت عبئًا ثقيلًا لا يستطيعون تحمله، في ظل الأوضاع المعيشية الحالية.
في السياق، يقول أستاذ علم الاجتماع، محمود البكاري، لـ"خيوط": "أقحمت العديد من العادات الدخيلة، على عادات اجتماعية أصيلة كان وجودها بمثابة عقد اجتماعي وأخلاقي يحافظ على تماسك المجتمع، ويضمن تفاعله مع نفسه ومع محيطه، لكن فرض العادات الوافدة والتعامل معها كضروريات، ضرب المجتمع في الصميم، وضخم متطلباته، بسبب المبالغة في المظاهر، والتفاخر بتفاصيل تعكس حالة من الرفاهية الخداعة في مجتمع تقول الأمم المتحدة إنّ 21 مليونًا منه يحتاجون للمعونة؛ بسبب نقص الغذاء، وغياب الرعاية الصحية، والافتقار للبنى التحتية".
ويرى البكاري أنّ التخلي عن التفاخر والمبالغة أثناء المناسبات، مراعاة لظروف الناس هو السبيل لإنعاش روح التكافل والترابط كما كان قديمًا، فالأصل في الشيء هو ما يتضمنه في جوهره من قيم، وليس ما قد يظهر في السطح.
نقيب الصحافيين اليمنيين الأسبق، الكاتب عبدالباري طاهر، تحدث لـ"خيوط" عن الأثر النفسي الذي تتركه العيدية في النفوس، قائلًا: "للعيدية مردود نفسي ووجداني، يفوق بكثير الأثر المادي الظاهر في السطح، فهي تعزز من الترابط والودّ بين الأسر، وتوثق روابط الجيرة والقرابة".

 

اختفاء مؤقت
إنّ أكثر ما يميز العيد في اليمن، هو الزيارات المتبادلة بين الأقارب، وبالنسبة للأغلب فإنّ العيد هو اللمّة والأجواء العائلية، غير أنّ هذه الزيارات تتقلص تدريجيًّا لصالح الانكفاء على الذات، بسبب تردّي الوضع المعيشي وضيق الحال لدى الكثيرين، الأمر الذي قد يحرمهم من تلك اللمّة عندما يتخلفون عن أداء العيدية كونها أحد أهم طقوس العيد. وبحسب الاستبيان، فإنّ 21.4% من الرجال الذين تم استبانتهم يحتجبون عن زيارة أقاربهم تجنُّبًا للإحراج، فيما يفضّل ما نسبته 42.9% معايدةَ الأقارب عبر الهاتف فقط.
طاهر علّقَ على هذه النتائج بالقول: "حين لا يتمكّن الفرد من زيارة أهله وأقاربه صباح العيد، تفاديًا للخجل من عدم القدرة على إعطاء العيدية للنساء والأطفال، يفقد العيد قيمته، ويتحول ليوم باهت، منزوع من أسمى معانيه".

 

تصالح مع الوضع
على الجانب الآخر، تقدّر النساء الوضع المادي الراهن، فأصبحت الغالبية منهن لا يعولن كثيرًا على العيدية. سناء محمد، شابة في أواخر العشرينيات، تتحدث لـ"خيوط"، قائلة: "أشعر بحرج، عندما آخذ العيدية من أقربائي؛ لأني أعلم المعاناة التي يقاسونها".
في الصدد، يتحدّث معاذ المطري، وهو خال لثلاثة عشر طفلًا وعم لخمسة آخرين، يقول لـ"خيوط": "أستدين مبلغًا من المال قبل العيد، حتى أتمكن من معايدة أخواتي وأطفالهن، وأطفال إخوتي، اعتدت على ذلك، لدرجة أني أفضّل أن أختفي، على أن أذهب دون نقود"، ويضيف مازحًا: "أتمنى لو كنتُ طفلًا".
غَيَّرَ الصراع الدائر، بعضَ تقاليد المعايدة، إما لضعف الحال أو للظروف الأمنية التي قد لا تساعد بعضهم على الانتقال من منطقة إلى أخرى. 
وبرغم ميل بعضهم للاحتجاب بسبب الظروف المعيشية المتعسرة، فإن هناك آخرين يحبذون المواجهة والاعتذار عن عدم مقدرتهم على أداء العيدية، بلغت نسبتهم 35.7%، وفقًا للاستبيان الذي أجرته "خيوط".

 

غسيل أموال 
وعلى الرغم من الثقل الذي تشكّله العيدية على عاتق الرجال، فإنّ وسائل التواصل الاجتماعي تعج بالتندر على ما أسموه بغسيل أموال العوادة، في إشارة الى إيثار المرأة لزوجها، ودفع كلِّ ما تحصّلت عليه هي وأطفالها له، فيما قد يكون أنفق لتوه عيدية لنساء أقربائه، ما يجعل من هذا العطاء يمر في حلقة تدويرية.
والعيدية عادة إسلامية سنوية، يزداد حضورُها في أول أيام عيد الفطر، ويعود أول ظهور لها -وفقًا لمصادر تاريخية- إلى العصر الفاطمي في مصر، حيث كان الخليفة المعز لدين الله يحاول استمالة قلوب شعبه في مستهل حكمه بتقديم النقود لهم وإدخال السعادة إلى نفوسهم، وبالرغم من أن بعضهم اعتبر هذا التصرف مجرد دعاية سياسية، فإنّ بعضًا آخر يرى أنّ الخليفة الفاطمي هو أول من سنّ هذه العادة منتصف القرن العاشر.
كما تتنوع العيدية في الدول العربية؛ منها ما يأتي على شكل حلوى أو هدية، أما في اليمن فإن العيدية لا تأتي إلا مبلغًا من المال، اعتاد الأجداد والآباء على تقديمها للأطفال والنساء، احتفاء بالعيد، حتى صارت عرفًا تتوارثه الأجيال.


التعليقات