يصف رولان بارت اللغة بأنها مؤسسة اجتماعية ونظام قيم في آن، ويستوعب تعبير الخطاب، كما يستخدمه هشام شرابي، حقائق اللغة الموضوعية التي أكد عليها بارت(1). وتشير تلك الحقائق إلى موضوعات في العالم الحقيقي، مثل المستويات المتعددة للتشكل الاجتماعي أو مراحل ذلك التشكل: السلطة السياسية والطبقة الاجتماعية والمؤسسات، إضافة إلى الواقع نفسه.
في ألبومه الموسوم بأغنية "ليش النخيط"، يتحدث الفنان علي حنش عن قصة حب من طرف واحد، وهو يبدو أمرًا معتادًا في الغناء العربي، الذي يدين بوجوده للحب الأحادي والغراميات الفاشلة، غير أنّ الصَّد في الأغنية لا يفصح عن فشل عاطفي بقدر ما يكشف التقسيم الاجتماعي الذي أفرز لغة النخيط وسمّم العلاقات الإنسانية. فيردد في الأغنية "لأهجم عليك في الليل وأنت نايم، وأقبّل الخدّين والمباسم"، ونستشف الغبن الاجتماعي في أغنية لاحقة (على أيش الكِبر): "بتمشي بالمونيكا كأنك مالك المغرب بكله"، وعلى كثرة مكاشفاته للمجتمع والسلطة، فإن أغنية "ليش النخيط" صارت لازمة يرددها اليمنيّون للسخط المتضمن فيها.
يورد الأستاذ أحمد محمد نعمان في مذكراته بأن النخيط، لا يعني ارتفاع حِدة الصوت، أي الصراخ والغضب، بل نبرة الصوت، التي تتعمّد أن تنتقص من المُخاطب(2). فالصراخ هو إعلاء من ذات الفرد على حين أنّ النخيط إلغاء لذات الآخر. فالأول ينم عن انفعال مؤقت على العكس من الثاني الذي يدل على التمايز الجنسي/ العرقي /الطبقي، والذي يشير بشكل أو آخر إلى الانقسام الاجتماعي. فالصراخ، بما هو رد فعل آني، يمثل حالة صحية في الأخير حسب تعبيرات علم النفس، ولكن النخيط، بما هو تعالٍ واحتقار، يكرس الذات المرضية ويمزق الجسم الاجتماعي في علاقته بالاحترام المتبادل والمواطنة المتساوية.
في كتابه عن الفنون الشعبية، يشير البردّوني إلى ظاهرة أخرى في سياق الانقسام الاجتماعي تتعلق بأغاني الريف، حيث يسيطر عليها السخط الطبقي، لهذا حاولت المدينة عن قصد أو غير قصد، الاقتناع بالواقع مهما كان مريرًا، وعبرت عن هذه المحاولة بعدة أشكال كشرطها على العاشق أن يكون قادرًا، كما في هذه الأغنية:
"جبل نقم خضّر وما مطر شي * * مثل الذي يعشق وما معه شي"(3).
مارس الحكم الإمامي التمييزَ العنصري ما يقارب نصف قرن، حيث أنشأ الإمام يحيى نظام فصل اجتماعي بين اليمنيين، فأقام «المدرسة العلمية» لأبناء الهواشم والقضاة، ومدرسة «مكتب الأيتام» لأبناء الخياطين وبائعي الفحم والحطّابين وأصحاب الحرفة اليدويّة كالتجارة والحدادة، أما أبناء الحلاقين والجزارين فقد كانوا مواطنين من الدرجة العاشرة، واستُحدث لاحقًا لفظَي «أبناء الناس» و«أبناء السوق» بحسب محمد أحمد نعمان(4)، وانعكس الاستعلاء في المراكز الاجتماعية وفي لغة الخطاب، حيث شاع استخدام لفظ «يا سيدي» في الشمال، ولم يتلاشَ النخيط بالرغم من تحقيق الجمهورية وانتهاء البُنى والنظم والعقلية الإمامية، إذ استمر قاموس «العيب» ينخر في بنية المجتمع اليمني، حتى لم يعد التعليم أو الفن أو التجارة هو السلم الضامن للارتقاء الاجتماعي، بل اعتبارات أخرى تتعلق بالجاه والحسب والنسب.
*لا تتوقف تبعات التقسيم الاجتماعي عند حدود العلاقات الإنسانية بين الأفراد فقط، بل المجتمع ككل، فالعار والعيب والتحقير والتحريم جزء من منظومة كاملة، وليس مستغربًا أن تقوم الممارسات الإقصائية على خطاب متعالٍ ولغة عنصرية تصعد ببطء وثبات في المجتمع.*
بعد عقدين من انتهاء العهد المتوكلي، كان قد انتشر الغناء الذي ظلّ محرّمًا في اليمن الشمالي، غير أنه بقي عارًا على النساء، كما تخلصت التجارة من حمولة العيب، ولكن بقت العديد من المهن محطّ احتقار، وفي الثمانينيات اتّحدت الذهنية الإمامية التي حرّمت الغناء وصنفت الفنانين كدرجة أدنى في التراتب الاجتماعي، مع الذهنية الأصولية التي استولت على التعليم آنذاك ودرّست في مناهجها أنّ صوت المرأة عورة، لدفع الفنانة "مايسة الكتف" مثلًا إلى الاعتزال نهائيًّا عن الغناء.
لا تتوقف تبعات التقسيم الاجتماعي عند حدود العلاقات الإنسانية بين الأفراد فقط، بل المجتمع ككل، فالعار والعيب والتحقير والتحريم جزء من منظومة كاملة، وليس مستغربًا أن تقوم الممارسات الإقصائية على خطاب متعالٍ ولغة عنصرية تصعد ببطء وثبات في المجتمع. فاللغة والعلاقات الاجتماعية تتحدد وفق منطق السلطة الحاكمة. بالتالي، نجد مع كل اعتقال أو تعسّف جديد، نظرة تتعمد الحطّ من قدر أفراد أو جماعات أو أحزاب.
في صنعاء، اليوم، تتجمع أوهام التفوق العرقي/ الديني والإقصاءات واللغة الاستعلائية التي تستشري كالسرطان يومًا عن يوم، حيث يزداد التوكيد الحوثي على الأفضلية الهاشمية في المناهج والمؤسّسات والفعاليّات، يترافق ذلك مع احتجاز الفنانين واحتقار النساء وتقسيم اليمنيّين إلى "أبناء علي" و"أبناء بلال"، واعتقال الأصوات التي لا تنطلق من الفضاء السلالي، وفي الوقت الذي فقدت فيه كلمة (سيد - MASTER) معناها الفضائحي المحمل بالأخطاء في اللغة الإنجليزية واتخذت أبعادًا أخرى مثل الخبير والمتمرّس، ما تزال تكتسب معناها عبر ثنائية (العبد والسيد) في طبيعة علاقة السلطة مع الفرد في صنعاء.
في قصة «بياع من برط»(5)، للأديب زيد مطيع دماج، عندما يشق البطل «ابن ثوابة» طريقه نحو حياة الاستقرار على الرغم من احتقار أسرته له والمجتمع تجاه من يشتغل بالتجارة بوصفه "حثالة لا أصل له ولا نسب" تحدث الكارثة فيموت ضحية لخلاف القبائل. على إثر هذه النهاية المأساوية لبطل القصة، كتب الشاعر الراحل عبدالعزيز المقالح مستغربًا في مقدمته للمجموعة القصصية، والحقيقة أنها أصدق نهاية تنطلق من الواقع وما زالت تعبّر عنه، ليس لأن موته ترميز دقيق للانقسام الاجتماعي، أو لانتصار القبَلية على كل شيء، بل لأن لغة النخيط والذهنية العنصرية لا تتعافى منها المجتمعات إلا بعد اختفاء جيل أو جيلين على الأقل، والكارثة أنه لم يكد ينقضي الوقت الكافي للتعافي (أو ربما لم يكن قد بدأ بعد) إلا وقد سيطرت نسخة إمامية جديدة في صنعاء، وهي تقترب اليوم، بصورتها الحوثية، من أنموذج أبشع من النازية.
للإطلاع على المادة من موقعها الاصلي زيارة الرابط:
https://www.khuyut.com/blog/why