على امتداد التاريخ السياسي لليمن، خضعت بيئة الفضاء المدني لتحديات متعددة في شطري البلاد، وكان المشهد العام يبدو معتماً ومقيد حتى في أوقات ما قبل الحرب، ما يدل على تأثرها بالتقلبات المزاجية للسياسة.
خلال ذلك ظهرت سياقات كثيرة للبيئة المدنية كان أبرزها الشكل المدني في عدن إبان الاستعمار البريطاني لجنوب البلاد، حيث اعتبر نقطة البداية للمجتمع الأهلي في عدن إلا أنه كان محدود وبسيط، رغم استلهام المناطق الخاضعة لحكم الإمامة في شمال الوطن من التجربة العدنية.
أنشأت في عدن جنوب اليمن فترة الاستعمار البريطاني الجمعيات الخيرية والنوادي الثقافية والأدبية والاجتماعية، كان ذلك بمساعدة أبناء المحافظات الشمالية الوافدين في عدن، لترضية الاستعمار الذي يحظر عليهم التمتع بالحقوق التي يتمتع بها المواطنين من عدن كما كان في القانون البريطاني النافذ آنذاك، بحسب دراسة أجرتها مؤخرًا، مواطنة لحقوق الإنسان.
جاء ذلك بعد تحفيز الحركة التعليمية وإنشاء النوادي الخاصة بها والتي بدورها شكلت ضغط على حكومة المستعمرة البريطانية، خاصة مع إنشاء مصافي عدن 1952 وظهور النقابات العمالية وزيادة تدفق الوافدين.
خلال تلك الفترة شجعت السلطات البريطانية على إنشاء الجمعيات الخيرية والنسوية والأندية الثقافية والأدبية، فيما حظرت أي تحرك سياسي، لكن ذلك لم يدم طويلاً فقد عاشت هذه الأندية فرض رقابة ووضع أولويات يجب أن تتبعها، كالاهتمام بالمناسبات الأجنبية حصراً وهو ما أثار غضب هذه الجهات وجعلها تتبنى أفكار قومية كإنشاء جمعية المرأة العربية عام 1956 من قبل نساء عدنيات وهو انشقاق عن أحد الأندية التي أسست من قبل زوجة حاكم عدن.
ومع وجود النقابات العمالية ساعد بقوة باندفاع النوادي والجمعيات الأهلية على خوض غمار السياسة، وهو الأمر الذي صب في صالحها وتوسعت أدوارها الاجتماعية وشملت مجالات كثيرة كابتعاث الطلاب وإقامة الأمسيات الثقافية والسياسية وغيرها من الأنشطة، إضافة لظهور أحزاب وتيارات مناوئة لحكم الإمام يحيى حميد الدين في شمال اليمن قبل أن تجمد السلطات البريطانية هذه الأحزاب.
بدت الحالة المدنية في شمال اليمن الذي كان يعيش تحت حكم الإمامة منذ ثلاثينيات القرن الماضي، ضعيفة مقارنة بالجوار، ما عدا وجود أندية أدبية مشابهة لنوعية الأندية في عدن. كان قد مضى الإمام آنذاك في سحب البساط من تحت أقدام الجميع، كرجال الدين الذين يحظون بثقل اجتماعي وقبلي، وأبناء الأسر القبلية والهاشمية الذين لا ينتمون لنفس أسرته، ورغم القمع الذي بدأ مبكراً من بعد خروج الاحتلال العثماني من شمال اليمن، ظهرت معارضة سياسية قوية ومناهضة للحكم الامامي، كانت أقوى حتى من المعارضة في جنوب الوطن.
مع مرور الوقت وارتفاع حدة المعارضة في الستينات، برزت في المناطق الوسطى والجنوبية من شمال اليمن، جمعيات أهلية كان لها دور ملحوظ بتحسين جودة الحياة العامة بفضل التحويلات النقدية الآتية من المغتربين في دول الخليج، تسببت في ازدهار العمل الأهلي اجتماعيا وثقافياً وتنموياً، استمر ذلك حتى السبعينات مع ولادة دولة جديدة شجعت حينها العمل الأهلي وسعت لتجعل التنمية جزء من عملها.
•ولادة جديدة
بعد ولادة دولة الوحدة اليمنية في مايو/ أيار 1990 شهد المجتمع اليمني حالة من النمو، فازداد معها عدد المنظمات الأهلية بشكل ملحوظ، وأفسح لها النظام آنذاك حيزًا واسعًا، رغم أن هذه المنظمات أخذت الشكل التقليدي للجمعيات الأهلية السابقة أو بنت نفسها على هامشها، وهو ما اعتبرته الدراسة الصادرة من مواطنة لحقوق الإنسان، "خاصية أساسية للمجتمع المدني في اليمن تستدعي الإقرار بأن المجتمع الأهلي قبل الوحدة لم يكن مجرد مرحلة بدائية لمجتمع مدني ذو سمات جوهرية مختلفة، بل هو في قلب المجتمع المدني الحديث ويحيط به من جميع جوانبه".
خلال السنوات الأولى للوحدة اليمنية أتيحت مساحة واسعة للمجتمع المدني، مع توازن القوى الحاكمة، خاصة الحزبين الحاكمين "المؤتمر والإصلاح" اللذان انقلبا بعد حرب 1994 واعتبرا المجتمع المدني عدوهما اللدود والبذرة التي تغذي قوى "الشر والتمرد" في الجنوب بحسب ما كانا يرون. تحولت الحرية المحدودة التي حظي بها المجتمع المدني قبل ذلك إلى استهداف وقمع طال الصحف ومنظمات المجتمع المدني والعمل النقابي، وأغلقت الكثير من الصحف والمنظمات لهذا الداعي، مع أن قبل حرب 1994 سعى الحزبين الحاكمين لاستقطاب المجتمع المدني سياسياً وإنشاء الجمعيات التابعة له لإغراقه والتدخل في شؤونه.
بعد ذلك سعى النظام لإجراء تعديلات دستورية تتيح للمجتمع المدني مزيداً من الحريات، لكن الواقع كان مختلف تماماً، فاستمرت صورة التهميش والقمع مع خذلان المجتمع الدولي للمجتمع المدني في اليمن، لإرضاء النظام السابق ودفعه نحو التنمية والسلام بما أنها دولة حديثة خرجت من حرب أهلية، استمر الدعم السخي واللامحدود دون رقابة على الأموال التي تذهب للدولة من أجل التنمية المستدامة ما شجع الدولة حينها على استبعاد المجتمع المدني من الشراكة.
بعد حراك العام 2011 افسح المجال للمجتمع المدني، وشكلت القوى المدنية ثقل تفاعلي في الشأن الداخلي لليمن، وكانت عنصر فاعل في مؤتمر الحوار الوطني الذي كان يرعاه الفاعلون بحسب المبادرة الخليجية وأسست الحكومة شراكة معه خلال عامي 2013 و2014 ما سمح له في الحديث والتفاعل حول المستقبل السياسي للبلاد.
لكن اعتبرت الدراسة أن " الانطلاقة الجديدة للمجتمع المدني لم تستند في الحقيقة على قاعدة صلبة، بل جاءت في سياق مرحلة انتقالية يسودها الكثير من عدم اليقين، وتتسم بهياكل سياسية هشة وغير متماسكة، وبانعدام الثقة بين الفاعلين السياسيين، وميول واضحة لاستخدام العنف من أجل عكس مسار التحول".
•الواقع الحالي
أفادت دراسة "الفضاء المدني في اليمن.. ديناميات القمع وصور التحدي"، التي أعدتها مواطنة لحقوق الإنسان، إلى أن الأطراف المتحاربة، بعد العام 2014، مارست أشكالاً متنوعة من القمع ضد فضاء المجتمع المدني أثناء النزاع، شملت قيودًا وتدابير إدارية وقانونية، وإجراءات تعسفية، وانتهاكات وأعمال انتقامية من خارج القانون.
وقد أفاد 94.3 في المئة من المشاركين في الدراسة عن تعرضهم بصورة مباشرة للتعسف وقيود وإجراءات عنيفة خلال فترة الصراع، وتضم هذه النسبة جميع مكونات المجتمع المدني.
وعمدت الحكومة المعترف بها دولياً على تبني سلوكها القمعي التقليدي على كل ما هو مدني، مع وجود شراكة هزيلة مع المجتمع المدني، فهي تجدد حبال الصلة لحاجات وسياقات متغيرة بحسب ما تريد.
مزاجية السلطة في التعامل والأخذ من المجتمع المدني يؤكد على أن السلطة الحالية غير متجانسة الأطراف، لم تبتعد كثيراً عن السلطة السابقة التي حولت الفضاء المدني لساحة من ارهاصاتها، وهذا يظهر أن السلطات الرسمية لا تشرّع المجتمع المدني.
أما الأطراف المتنازعة الأخرى، فقد أخذت المجتمع المدني كل منها على منوال صنفته بنفسها، حسب ما تقتضي الضرورة السياسية، فالمجلس الانتقالي الجنوبي يعتبر أن وجود منظمات المجتمع المدني، وجود شمالي متجذر في البنية المجتمعية في الجنوب والمهيمن في كل البلاد.
الحوثيون، أو كما يطلقون على أنفسهم (جماعة أنصارالله) هم أيضاً عمدوا إلى كمش هوية المجتمع المدني وتعويضه بمجتمع بديل مناسب له كسلطة، ويسعون بوتيرة قوية ومتسارعة بإنشاء جمعيات تابعة لهم وجهات تعمل في الجانب الإغاثي "هيئة الزكاة" عوضاً عن المنظمات الإغاثية.
ولجأت الأطراف في البلاد للمحاولة على السيطرة على فضاء المجتمع المدني في اليمن، وتكييفه حسب ما يسعى له كل طرف، وسعت لتقييده بطرق قانونية أو باستغلال نقاط قانونية بأشكال ملتوية للف ذراعه.
•التأثر بالممارسات القمعية
وبحسب الدراسة، تسببت سياسات القمع التي انتهجتها الأطراف المتحاربة، إلى آثار سلبية كبيرة أضرت بالفضاء المدني بصورة واسعة، كنقص التمويل للمشاريع النوعية وتوجيهها للبرامج الإغاثية التي حولت كثير من الجهات توجهها من أجل الحصول على تمويل يعزز من عمل منظماتهم، ما هدد استدامة المشاريع والأنشطة للمنظمات التي قد يتقلص عملها أو يختفي.
إضافة إلى التأثير على أداء المنظمات العاملة ومحاولة وضع الأحجار على طريقها، والتعسف ببعض الإجراءات والمنع والايقاف للأنشطة وغيره بالمقابل هناك منظمات استطاعت أن تستجيب للسلطات الحاكمة التي تتواجد فيها وتعمل معها بمرونة عالية.
لكن ارتفاع العراقيل التي تضعها الأطراف المتنازعة سببت انحسار في اعداد نمو المجتمع المدني خاصة في مناطق سيطرة أنصار الله (الحوثيين)، فيما ارتفعت نسبة المنظمات الناشئة أثناء النزاع في مناطق سيطرة الحكومة والمجلس الانتقالي ومناطق القوات المشتركة.
بحسب الدراسة فإن المنظمات المشمولة في هذه الدراسة أكدت على استقلاليتها عن الأطراف، ووصفت علاقتها بها بالهدوء والاستقرار، ويبين هذا التعايش بين منظمات المجتمع المدني والأطراف أنه هدوء قد مر بمراحل من التباين والنزاع، لكن رغبة المجتمع المدني في تجاوز هذه العراقيل، هي تعبير عن محاولة النأي عن أي صدام قد يضر بعملها.
•العاملون الحقوقيون على مرمى حجر
خلصت الدراسة إلى أن الناشطون والناشطات يعيشون أوضاعًا مقلقة بسبب القمع والتحريض الذين يتعرضون له من الأطراف المتنازعة، ما يجعلهم على مرمى حجر من الأذى لهذه الأفعال، أجبر الكثير منهم على السفر إلى خارج البلاد أو التوقف عن النشاط الذين يقومون به، إيثاراً منهم على أنفسهم لعدم التعرض للأذى.
واعتمدت السلطات المُسيطرة أسلوب قمعي يهدف إلى تقييد تحركات الناشطين اثناء العمل أو حتى للسفر سواء داخل مناطق الجمهورية أو خارج البلاد، من خلال عرقلتها للتحركات الداخلية وعدم تحرك المرأة إلا بمحرم، والأهم من ذلك حرمانهن من حق استخراج وثيقة جواز السفر إلا بوجود محرم.
أما المجتمع فهو الآخر يشكل ضغط كبير على الناشطين مما يدعو العائلات إلى سحب أبنائها، ولا سيما النساء التي تستهدفهن قيود لا نهاية لها تجبر عائلاتهن إلى الرضوخ لضغط المجتمع والسلطات التي تحرض عليهن عن طريق حرمانهن من التنقل بمفردهن أو استخراج جواز سفر كإنسان راشد.
وتنتهي الدراسة إلى أن الفضاء المدني في اليمن مشحون بالقمع والانتهاكات ومحاولات التطويع لصالح السياسات على مدى التاريخ الحديث.
هذه البيئة غير الآمنة للمجتمع المدني والمدافعين الحقوقيين والصحافيين، أثرت على بحرية نظراً للتدخلات المستمرة من الحكومة وأطراف النزاع، على الرغم من أنها سمة قديمة متوارثة في الأنظمة اليمنية واتبعتها الأطراف الأخرى باستماته عالية، جعلت الفضاء المدني يرزح تحت التعسفات والقيود القمعية التي تمارس بحقه، بسبب شعور هذه الأطراف المستمر بخطورة المجتمع المدني على مكوناتها.