لم يكن كثيرون من أبناء منطقة ريفية بضواحي محافظة تعز، يعرفون بوجود الشابة العشرينية "نجود" بسبب ما فرضت عليها الأسرة من عزلة اجتماعية تامة، واحتجازها في غرفة صغيرة داخل المنزل منذ طفولتها.
وفي ظروف الاحتجاز الصعبة، التي كانت العائلة تجبرها خلالها على البقاء عارية أو شبه عارية، حتى لا تتمكن من الهروب من المنزل، أو الظهور أمام الناس، لٌفت حياة نجود في طي الإهمال، وعاشت معاناة منسية مريرة، وصلت في بعض الأحيان إلى نسيان تقديم الطعام والماء لها، خاصة بعد وفاة والدتها، وهي ما تزال في الثالثة عشر من عمرها.
ولم تدرك "نجود" أن محاولة التمرد على السجن سيكلفها ثمنا باهظا حين قررت كسر الحظر المفروض عليها، والهرب من المنزل بجسدها النحيل شبه العاري الذي ظهر عليه الكثير من علامات الاعتداء الجسدي والضرب.
توفيت "نجود" بعد أن أثارت غضب والدها وإخوتها في ظروف غامضة، دون أن يلتفت أحدا لموتها، كما لم يلتفتوا لحياتها، فلم يكن أحد قادرا على إنقاذها من معاناتها مع مرض ضمور المخ الذي لازمها منذ طفولتها، أو من العنف الأسري الذي جاء نتيجة لشعور رجال العائلة بالخزي والعار من كونها إحدى أفراد الأسرة، كما تؤكد شقيقتها الكبرى "مريم" التي روت حكايتها.
•استسلام وغياب الثقة
يوضح مجيب قحطان عضو الفريق الإعلامي لصندوق رعاية وتأهيل المعاقين بصنعاء انه لا توجد أرقام دقيقة حول أعداد الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة في اليمن، وخاصة بين النساء والفتيات، لأسباب عديده منها عدم تنفيذ مسح تعداد سكاني لشريحة الأشخاص ذوي الإعاقة في اليمن، وغياب قاعدة بيانات ترتبط بشهادة الميلاد لدى مصلحة الأحوال المدنية والسجل المدني ووزارة الصحة العامة والسكان.
وتشير الإحصائيات المتوافرة لدى صندوق تأهيل المعاقين، إلى أن نسبة عدد الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة ارتفع بسبب الحرب إلى 15% من إجمالي عدد السكان، أي ما يقارب 4 ملايين ونصف شخص وفقا لقحطان.
ويرتبط نوع الإعاقة وجنس المعاق، بشكل وثيق بمستوى العنف الذي يتعرض له الشخص ذو الإعاقة، إذ يزيد العنف حسب العوامل المرتبطة بمدى الاعتماد على الآخرين، كما تخضع النساء لتمييز مضاعف في جميع جوانب حياتهن، ويتعرضن للعزلة بمستوى أكبر من الرجال، وهذا ما أقرت به اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، التي أكدت بأن النساء والفتيات ذوات الإعاقة غالباً ما يواجهن خطراً أكبر في التعرض للعنف أو الإهمال أو المعاملة غير اللائقة والاستغلال، سواء داخل المنزل أو وخارجه.
وفي هذا السياق تفتقر اليمن إلى دراسات علمية حول العنف الموجه للأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، إلا أن دراسة" عربية بعنوان "العنف ضد المرأة ذات الإعاقة الحركية والحسية في المجتمع الأردني" خلصت إلى أن النساء ذوات الإعاقة يعجزن عن مواجهة العنف ضدهن بالطريقة الصحيحة، حيث أشارت أكثر ردود الفعل على الضعف، وانخفاض مستوى الثقة بالنفس.
وبينت الدراسة التي اجراها مركز دراسات المرأة بالجامعة الأردنية 2019 أن ردود الفعل لدى المعاقات تمثلت بالاستسلام بنسبة 25.5%، تلاها البكاء بنسبة 22.5%، والصراخ بنسبة 12.7%، والشكوى إلى أحد الأقارب بنسبة بلغت 11.8%، مبينة أن النساء ذوات الإعاقة يقمن بعزل أنفسهن، أو يمتنعن عن تناول الطعام كشكل من أشكال ممارسة العنف ضد الذات، وعدم القدرة على اتخاذ إجراء مناسب على العنف الواقع عليهن.
•الخوف من التنمر
لم تكن "نجود" إلا واحدة من مئات الفتيات والنساء ذوات الإعاقة خاصة الذهنية والحركية، التي اجبرن على العيش في غرف مظلمة، ويتعرضن للعنف الأسري والمجتمعي بشكل يومي، كما هو الحال مع "هيفاء" التي تشهد صحتها تراجعا كبير كل عام.
عانت "هيفاء" منذ ولادتها في صنعاء من إعاقة حركية وذهنية، جعلت الأسرة تعزلها عن المجتمع دون تقديم أي رعاية طبية، مما جعلها تفقد كل وسائل التعافي ومهارات التواصل.
تعتقد أم "هيفاء" أن احتجازها في المنزل، يهدف إلى حمايتها إذ أن خروجها إلى الناس سيتسبب لها بعنف وتنمر مجتمعي لن تستطيع مواجهته، وربما تجلب للعائلة العار إذا تعرضت لاعتداء جنسي، وهي غير قادرة من الدفاع عن نفسها.
صفاء السداوي، مشرفة التدخل المبكر وفصول المبتدئين، والمسؤول الإعلامي بجمعية تنمية ذوي الاحتياجات الخاصة بأمانة العاصمة تؤكد أنه هناك العديد من الأسباب التي تجعل الأسرة تنكر أحيانا وجود فتاة معاقة، وتعزلها عن المجتمع، أبرزها الخوف من التمييز والتنمر من المجتمع تجاه العائلة والفتاة المعاقة، علاوة على أن بعض الأسر تعتقد أن معرفة الناس بوجودها سيجلب الحظ السيئ لأخواتها المقبلات على الزواج، وسيجعل الخطاب يعزفون عنهن خشية من إنجاب أطفال معاقين.
إضافة إلى العزلة التي تفرضها الأسرة على الفتاة المعاقة، والخجل من وجودها، نتاج لغياب الوعي والثقافة القاصرة، وربما الفقر وعدم قدرة العائلة على توفير احتياجاتها، وهذا يستدعي وجود برامج توعوية، وإرشاد ديني، يساهم في تغيير وجهة نظر الأسرة، ويجعلها تقوم بواجبها في دعم الفتاة وتشجيعها، بحسب بهية حسن السقاف رئيسة مؤسسة سلام لمجتمعات مستدامة (PASS).
وتؤكد السقاف، أن العنف تجاه الفتيات ذوي الإعاقة، تقوم به الأسرة والمجتمع من خلال التنمر والإهانة والحرمان من الخدمات، كما تقوم به الدولة من خلال حرمانهن من نصيبهن بالتوظيف التي خصصها القانون، والتقصير في تقديم الخدمات، ويكون له عواقب نفسية، تجعل الفتاة أكثر عدائية لنفسها ومحيطها ومجتمعها.
وتتفق معها السداوي بأن عزل المعاقة عن المجتمع، يؤدي إلى زعزعة الثقة بالنفس، وقدراتها على تحقيق أهدافها، ويولد الشعور بالخوف، والرُهاب من التفاعل مع الآخرين، بالإضافة إلى ضياع فرص التعليم، والاستفادة من الخدمات التي تقدمها المؤسسات المتخصصة.
ولم تتسبب الحرب الدائرة منذ أواخر العام 2014، بزيادة أعداد الأشخاص ذوي الإعاقة فحسب، وإنما أثرت على كافة الخدمات التي كان يقدمها صندوق رعاية المعاقين، وبعد أن كان صندوق رعاية وتأهيل المعاقين، يقدم الدعم لأكثر من 118جمعية ومركز مختص بذوي الإعاقة، لم يعد قادرا إلا على دعم 50 جمعية ومنظمة بسبب انخفاض الإيرادات، كما يؤكد مجيب قحطان.
"تم إنتاج المادة ضمن مشروع غرفة أخبار الجندر اليمنية الذي تنفذه مؤسسة ميديا ساك للإعلام والتنمية"