لشمس الدين مهاجراني الشاب الأمريكي من أصل إيراني قصص كثيرة يرويها، بعضها فريد، عن أسباب تعلقه باللغة العربية الفصيحة وإصراره على تعلمها.
أهم تلك الأسباب جده وقدوته الذي يقيم في قلبه أبدا، والذي كان قبل الثورة الإيرانية أستاذ الفقه واللغة العربية وكان حافظا للقرآن والشعر العربي والفارسي، قال: "كنت أراه وهو في مقهى في لندن يتحدث بلغة عربية رفيعة كما لو كان في ندوة إلى جلسائه من إيرانيين وعرب وأتراك، كان أهم قدوة لي في الحياة."
شيء عميق يربط شمسا بالشرق الأوسط ويأمل أن تقربه اللغة العربية من أهله، لذلك قرر دراستها دراسة أكاديمية أولا في جامعة فيرمونت الأمريكية ثم في العالم العربي وهاهو الآن يقيم في مصر للسنة الخامسة على التوالي، فأين وصلت مع العربية؟ سألتُه.
بدأ شمس (الاسم الذي يحب أن ينادى به) دردشتنا قائلا: "أنا برضو درست.." وكان يلقي بين الجملة والأخرى عند مخاطبتي كلمة "حضرتك" بلكنة مصرية خالصة وهكذا كلما استرسل في الحديث انتبه إلى أن هذه المفردة أو تلك من العامية المصرية فيتوقف ويعتذر ثم يعيد صياغتها باللغة العربية الفصيحة، وقد فهمت منه بعد ذلك أن اللهجات، كما سماها، هي أكبر تحد واجهه في تعلم العربية خاصة ذلك "التأرجح بين العامية والفصحى والانتقال من واحدة إلى الأخرى في الحديث، ما يضطرني إلى خلق مكانين في دماغي وحد فاصل بين الاثنتين في آن. وأنا في هذه المقابلة أحاول الكلام بالفصحى لكن العامية المصرية تتدخل في كلامي، زي ما حضرتك شايفة! "
أكثر من لغة
بيثاني أميرة بيرتش طالبة أمريكية وتدرس اللغة العربية في مصر أيضا منذ خمس سنوات مع شمس وعدد من الطلبة من جنسيات مختلفة، قالت لي إن "التنوع الثقافي للطلاب يساعد على فهم ثقافة المكان وبالتالي على دراسة العربية." وتعتبر بيثاني أميرة إقامتها خلال طفولتها في الجزائر والمغرب أين درست قليلا من العربية، وحبها للعرب هو السبب الأساسي وراء حبها للغة ورغبتها بتعملها، فقد ألفت أذنها الأصوات العربية منذ الصغر ما سهل عليها فهم اللغة عندما قررت دراستها بشكل رسمي بعد ذلك. ضحكت بيثاني أميرة وأنا أسألها إن وجدت بعض الأصوات العربية غريبة مثل العين والخاء، وقالت إن "كثيرا من زملائها الطلبة يستصعبون فعلا بعض الأصوات والحروف ولكن، تضيف، لكل لغة أصواتها الغريبة وهذا جزء من ثرائها، وهو من أعجب الأشياء بالنسبة لي."
يجد كثير من الدارسين الأجانب للغة العربية صعوبة مشتركة تسمى العامية، مثلما حدث لشمس لكنه أدرك شيئا جعله يتحمل هذه الازدواجية: "في أمريكا نتعلم الفصحى لأن كل العاميات تأتي منها، وقد تنبهت بعد خمس سنوات من دراسة اللغة العربية مثلا بأن كلمة عايز في العامية المصرية تأتي من عاز والعوز في الفصيحة.." فهل المصرية مستمدة من العربية حقا؟
هذه النظرية ينقضها كتاب وباحثون مصريون مثل سامي حرك صاحب كتاب "نتكلم مصري" الذي يقول إن العامية المصرية لغة كاملة لها مائتان وأربع وعشرون قاعدة جذورها تعود إلى اللغة المصرية القديمة، بل إن المصريين اليوم يتحدثون بالطريقة نفسها التي كان يتكلم بها أجدادهم قدماء المصريين".
ومن مظاهر ذلك مثلا أن الحروف اللثوية وهي الثاء والذال والظاء ليست موجودة في اللغة المصرية القديمة وهذا يفسر حسبه غيابها في لسان المصريين اليوم فينطقون الثعلب تعلب والذئب ديب، معتبرا علاقة المصرية بالعربية الفصحى علاقة جناسية، أي تتشابه اللغتان مع بعضيهما في اللفظ وتختلفان في المعنى. وللكاتب نظرية واسعة في استقلال المصرية كلغة عن العربية وفي تأثير مصر الناعم على الجوار الذي استمر لآلاف السنين ما يفسر، حسبه، وجود ألفاظ ذات أصل مصري قديم في لسان العرب قاطبة.
ترسل بعض الجامعات الأجنبية مثل البريطانية والأمريكية طلبتها الذين يدرسون اللغة العربية إلى بلدان عربية كي"يتشربوا اللغة" ويطوروا مهاراتهم في بيئتها الحقيقية، وهو ما درجت عليه جامعة برمنغهام البريطانية مثلا، لكن المشرفين الأكاديميين لاحظوا بأن طلبتهم يعودون إلى جامعاتهم متحدثين عامية البلد الذي يذهبون إليه.
قالت الدكتورة أنيسة داودي أستاذة اللسانيات والترجمة في جامعة بيرمنغهام لبي بي سي، وهي التي تشرف على إرسال طلبة اللغة العربية إلى مصر والأردن والمغرب للدراسة إن طلبتها يرجعون بلهجات مختلفة وهذا طرح مشكلة في توحيد المفاهيم عند التدريس وقد وجدوا الحل في العامية المصرية باعتبارها أكثر عامية منتشرة في العالم العربي.
وذكرت الدكتورة داودي بأن جامعة برمنغهام كانت قبل الأزمة السورية ترسل طلبتها إلى سوريا أيضا معتبرة إياها أحسن بلد عربي في تعليم العربية. يعود الطلبة إلى جامعتهم بقصص مدهشة وأحيانا مضحكة، تقول الدكتورة داودي مثل تلك الطالبة التي ذهبت إلى المغرب وعادت بحنين إلى رائحة العشب عند قصه، وذلك الطالب الذي دخل مطعما في مصر، وكان حديث عهد بالبلد فطلب دجاجا بالفصحى، وتفاجأ بأن النادل بدل تلبية طلبه ينفجر ضاحكا ويسأله "قول تاني؟" والطالب يكرر جملته ثم يعود النادل ويسأله مرة أخرى "قول تاني؟" والطالب المحرج يكرر الإجابة نفسها إذ لم يكن يعرف غير الفصحى لطلب الدجاج، ما جعل كل من في المطعم يضحك عليه.
هذا الموقف لم يكن حالة معزولة، فكثير من الطلبة يتحدثون عن الحرج الذي يصيبهم بسبب رد فعل العامة من الناس عندما يخاطبونهم بالفصحى. وتعترض الدكتورة داودي على تسمية العامية لهجة والفصحى لغة، وتقول إنه تقسيم يعود إلى 1957 وقد أكل الدهر عليه وشرب ولا ترى للعربية الفصحى إلا حسنة فريدة هي توحيد الأقطار العربية. معتبرة الحرص على تهميش العامية وجعل الفصحى في المركز حرص أصحاب السلطة على السلطة، حتى تبقى في يد النخبة دون العامة، مستشهدة "بعالم الاجتماع الفرنسي، بيير بورديو، الذي يقول إن اللغة تكتسب سلطة رمزية، وإلا تضيف "لماذا تعتقدين أن قوى عظمى مثل الولايات المتحدة وبريطانيا تريد نشر اللغة الإنجليزية في كل العالم؟".
فجوة كبيرة
تسمى الجزائر في العامية الجزائرية "دزاير" والجزائريون "دزيرية" أو "دزيريين"، والمغربي لا يقول أحبك بل يقول "نبغيك" أو"كنبغيك"، ولا يقول التونسي اشتقت إليك بل يقول "توحشتك"، وكلها كلمات مشتركة في هذه الدول الثلاث ومنها كثير مثل شْكون (من) وعْلاش (لماذا) والهدرة (الكلام) والقائمة تطول.
وهذا ليس الاستثناء بل القاعدة، فلكل شعب عربي عاميته الخاصة التي يشترك في كثير من مفرداتها مع جيرانه المباشرين، مثل عاميات أهل الخليج وعاميات أهل الشام. بل إن العودة إلى خارطة العالم العربي لن تكون كافية لحساب عدد اللغات والعاميات المحكية التي تنافس لغة الضاد في لسان العرب، فالاعتماد مثلا على عدد الدول العربية للقول بوجود اثنتين وعشرين عامية لن يكون دقيقا، إذ يجب حساب لغات رسمية أخرى اعتمدتها بعض الدول مثل الأمازيغية في الجزائر والمغرب واللغة الفرنسية في جيبوتي واللغة الصومالية في الصومال واللغة القمرية والفرنسية في جزر القمر إضافة إلى لغات شعبية ولغات الأقليات مثل آزناك والمهرى والقبطية والآشورية والكردية والآرامية والنوبية وغيرها.
يقول د. محمد رياض العشيري الباحث في اللغة العربية "نحن في العالم العربي لدينا لغتان، لغة نستعملها في حياتنا اليومية، في البيوت والأسواق ونعبر بها عن أنفسنا وحاجاتنا هي العامية. ولغة نتعلمها في المدرسة هي اللغة العربية الفصيحة، والفجوة بين اللغتين كبيرة."
وبينما يتطور العالم ومن فيه تبدو العربية عاجزة عن المسايرة. ففي عالم الروبوت والميتافيرس والهولوغرام أين الكلام العربي مثلا؟ يقول العشيري إن "مجامع اللغة العربية لا تساير ما يحدث." هذا العام مثلا دخلت 150 كلمة جديدة قاموس لاروس الفرنسي وفصلت الأكاديمية الفرنسية في أمر كلمة كوفيد الذي قررت أنها كلمة مؤنثة، تاركة الباب مواربا أمام تذكيرها ومشيرة إلى أن الاستخدام الشائع هو ما سيفصل. أما نجمة الكلمات المضافة إلى قواميس أوكسفورد الإنجليزية هذا العام فهي كلمة Vax وهي مختصر لكلمة فاكسين وتعني اللقاح التي تداولها الناس مع مشتقاتها الكثيرة هذا العام بأكثر من 72 مرة مقارنة بالعام الماضي، وهكذا يمكنك أن تقرأ في قاموس أوكسفورد مشتقاتها أيضا مثل كلمة anti-vax وهي صفة الأشخاص الرافضين للقاح أو المعارضين له.
وتفتقد المعاجم العربية هذه المحاكاة للواقع بل إن العربية تصبح أحيانا لغة غريبة عن العربي وغير مفهومة أمام مفردات مثل "لا أبالك وأبيت اللعن"، التي تدرس في الشعر العربي. بل إن كثيرا من العرب لا يفهمون كلمات أبسط موجودة في القاموس مثل ازدرد أو بان. ويشير العشيري إلى قصيدة كعب بن زهير الشهيرة "بانت سعاد التي يقول فيها: بانَت سُعادُ فَقَلبي اليَومَ مَتبولُ * مُتَيَّمٌ إِثرَها لَم يُجزَ مَكبولُ - وَما سُعادُ غَداةَ البَينِ إِذ رَحَلوا *إِلّا أَغَنُّ غَضيضُ الطَرفِ مَكحولُ. فبانت هنا ليست بمعنى ظهرت وتجلت ولكن من البيْن أي فارقت وهجرت."
هل يجب تدريس العامية للناشئة؟
وجود لغتين في لسان العربي وحياته أنجب صراعا عربيا عربيا، بين فريق ينتصر إلى اللغة العربية ولا يريد غيرها في المدراس ووسائل الإعلام والخطابات السياسية الرسمية وغيرها، وفريق يريد مطابقة المدرسة مع الواقع ولا يرى للعربية من فائدة عملية في حياة الناس. وإذا كان لابد من عنوان لهذا الصراع فقد يكون السؤال التالي: هل يجب تدريس العامية للناشئة؟ وأي عامية يجب تدريسها؟
واجه المدافعون عن إبقاء اللغة العربية الفصيحة لغة التعليم الوحيدة في الجزائر سنة 2015 وزيرة التربية حينها نورية بن غبريط عندما انتشر خبر عن نقاش داخل وزارة التربية حول إدراج العامية في السنوات الأولى من التعليم الأساسي لمساعدة التلاميذ الصغار على تحقيق انتقال ناعم من لغة البيت والشارع إلى لغة المدرسة. وكان السؤال الذي تحدى به هؤلاء وزارة التربية هو: أي لهجة تريدون تدريسها؟ هل هي لهجة أهل الجزائر العاصمة، أو لهجة أهل قسنطينة (في الشرق) أو لهجة أهل وهران (في الغرب) فلهجات الجزائريين كثيرة بل إن لكل ولاية من الولايات الثمانية والخمسين لهجة خاصة بها تختلف في بعض مفرداتها ونطقها عن اللهجات الأخرى. وانتهى الجدل والاعتراض بعد نفي الوزيرة "الإشاعة".
سنة 2016 أصدرت مؤسسة زاكورة لتنمية الدارجة في المغرب أول قاموس للعامية المغربية، كخطوة أخرى لمديرها نور الدين عيوش في الدفاع على تدريس العامية في المدارس، وصرح حينها بأن "إصدار القاموس يفرضه تطور الدارجة التي تستخدم في الصحافة والأدب ووسائل التواصل الاجتماعي."
أما في مصر فإن الدعوة إلى استخدام العامية تعود إلى القرن التاسع عشر كما جاء في كتاب "تاريخ الدعوة إلى العامية في مصر" للدكتورة نفوسة زكريا سعيد. وقد بدأت هذه الدعوة بالانتشار، حسب الكاتبة، عن طريق الكتاب الأجانب منتصف القرن التاسع عشر قبل أن تبدأ باستقطاب أنصار لها من المصريين الذين زاد عددهم مع ازدهار حركة التمصير التي تضمنت تمصير اللغة العربية أيضا.
و لتدريس العامية مدافعون كثر في المنطقة يستدل بعضهم بتصريحات مسؤولين أمميين وتقارير مثل نتائج "المبادرة العالمية المتعلقة بالأطفال خارج المدارس" التي أشرف عليها معهد اليونيسكو للإحصاء واليونيسف والتي اعتبرت أن "برامج التعليم القائمة على لغة الأطفال في البيت تحظى بمستويات عالية من المشاركة والنجاح والمتعة إلى جانب مشاركة الأهل ومستويات أدنى من إعادة الصفوف والتسرب، خاصة بين الفتيات. فالمدرسة التي تستخدم لغة يفهمها الأطفال تسمح للتلاميذ بالمشاركة وإثبات معارفهم."
الدين والجنس
انتشرت اللغة العربية في العالم العربي بفضل الدين، فالقرآن منزل بهذه اللغة والرسول محمد عربي اللسان، وكل التراث الفكري والقانوني والاجتماعي والتاريخي الإسلامي نقل على مر القرون باللغة العربية، ومازالت كتب الفقه التي ألفت في القرون الأولى من مجيء الإسلام تقرأ بل وتدرس لأبناء اليوم.
كما أن لغة الصلاة التي يمارسها المسلم خمس مرات في اليوم عربية ومطلوب منه أن يحفظ آيات من القرآن لأغراض العبادات. هذا وحده يفسر أهمية هذه اللغة في حياة الناس واستمرارها ويفسر أيضا استهجان كتب يكسر أصحابها المحظور. الأديب الجزائري أمين الزاوي مثلا يكتب باللغتين العربية والفرنسية وقد قال في أحد تصريحاته إنه "في كل مرة أكتب رواية بالعربية، يخيفني القارئ العربي والقارئ بالعربية. إنه قارئ يخلط ما بين الأدب بوصفه نتاجا ينتمي للمخيال والتحليق والفانتازيا، والكتب الفقهية الشرعية الباردة التي تنتمي إلى باب الممنوع والمسموح."
أما الكاتبة السورية، سلوى النعيمي، فقد تعرض كتابها "برهان العسل" الذي يجمع بين الرواية والدراسة عن المتعة الجنسية عند العرب والمسلمين للمنع بعد صدوره سنة 2007 في سوريا وعدد من الدول العربية، ذلك أن بطلة الرواية تتحدث بصراحة عن رغباتها واستمتاعها بالجنس وتستعمل المفردات الصريحة مبتعدة عن التلميح ساردة الكلمات الإباحية في اللغة العربية "التي سطا عليها العرب ومنعوها بل واعتبروها دخيلة على اللغة." حسب الكاتبة.
وقد تعرض الكاتب المصري، أحمد ناجي، أيضا للمحاكمة بسبب مشهد جنسي في فصل من روايته "استخدام الحياة." وفي مقابلة للكاتب مع الإعلام المحلي، نقل رد القاضي على سؤاله عن محاكمته النصوص الإبداعية قائلًا: "الأدب يجب أن يكون جميلًا ويعزِّز الأخلاق العامة. أمَّا نصوص أحمد ناجي فهي ليست أعمالًا فنِّية لأنَّه لا يستخدم أية استعارات مجازية". أكثر من ذلك يبدأ ناجي مشهده الجنسي الصريح "باللغة العربية الفصيحة وينهيه بالعامية بلهجة ثقيلة أو بأسلوب حديث" كما ذكر. وهنا يشير كثير من الكتاب إلى غياب الاهتمام ورد الفعل على أي رواية "جنسية" أو "إباحية" مكتوبة بلغة أجنبية وإن كان كاتبها عربيا.
هوية جامعة
يعدد بعض المواطنين العرب الذين تحدثت إليهم من دول مثل العراق وموريتانيا والبحرين ولبنان أسباب ضعف اللغة العربية في بلدانهم من بينها العزوف عن قراءة الكتب والمجلات بالفصحى، وسائل التواصل الاجتماعي التي تستخدم فيها العامية، الإعلام الذي ضعفت لغته وتخلي بعضه عن الفصحى أصلا، واهتمام الناس بتعليم الانجليزية واللغات الأجنبية على حساب العربية سواء من باب الوجاهة أو الحاجة حيث يسود الاعتقاد بأنه لا يوجد للعربية مكان في سوق العمل وغيرها من الأسباب. لكن المختصين يعودون إلى سبب واحد، التعليم.
المشكلة تقول د. هنادا طه أستاذة كرسي اللغة العربية في جامعة زايد بدولة الإمارات العربية المتحدة: "هي التعليم، وفي إعداد المعلم وفي المناهج."وأضافت أن "مستوى كثير من الطلبة الذين يأتون إلى درسها سيء، والسبب يعود إلى أنظمة تعليمية كاملة تحتاج إلى تغيير جذري، أنظري إلى من يوجه لدراسة اللغة العربية والعلوم الشرعية، إن أكثرهم من أصحاب أضعف النتائج لأن أصحاب أحسن العلامات يوجهون إلى تخصصات أخرى.." أما الحل فتراه "في تغيير طريقة تدريس اللغة، يجب أن تكون قادرة على مخاطبة الجيل الجديد، فاللغة العربية التي نقرؤها في الصحف ليست هي لغة القرآن ولا لغة الشعر الجاهلي، يجب تبسيط قواعد النحو فهي لم تبسط منذ أيام واضعها."
وواضع قواعد النحو هو الشاعر أبو الأسود الدؤلي بطلب من الخليفة علي ابن طالب، حسب الروايات، وسمي النحو بهذا الاسم لأن عليا حين بين للدؤلي أقسام الكلام قال له: "انح على هذا النحو وقس عليه". ومازال بيت شهير لأبي الأسود الدؤلي يتداوله الناس حتى اليوم من كل الطبقات ويفهمونه بالمستوى نفسه، وهو البيت القائل: لا تنه عن خلق وتأتي مثله * عار عليك إذا فعلت عظيم.
رغم اختلاف الدكاترة أنيسة داودي، وهنادا طه ومحمد العشيري حول من يجب أن يوضع أولا العربية أو العامية يتفقون جميعا على أهمية اللغة العربية باعتبارها أداة جامعة، فهي عنوان هوية الإنسان العربي يقول العشيري وعليه " إذا أردنا الحفاظ على تلك الهوية من الضروري الحفاظ على اللغة العربية."
الحل: منطقة وسطى؟
دعت الدكتورة هنادا طه إلى استخدام كلمات بسيطة مشتركة بين الفصيحة والعامية في السنوات الأولى من الدراسة كحل لأزمة اللغة. وهذه دعوة تتناغم مع وجهة نظر د أحمد زنيبر، الكاتب المغربي وصاحب كتاب "صنعة لَكْلام - دراسات في الشعر الملحون بالمغرب" الذي يتناول فيه الشعر الشعبي المعروف بالملحون من خلال أعمال شعراء شعبيين مغاربة، لإبراز هذا النوع من التراث وأهميته الثقافية والاجتماعية للبلد.
زنيبر أستاذ لغة عربية ومولع بالشعر الملحون، وقد دعا إلى تدريسه في المدرسة ذلك أن "لغته هي لغة الناس، يعبر عن حياتهم وحاجاتهم من جهة وهو أيضا يستخدم نفس أدوات الشعر الفصيح في تعبيره" كما قال لي، مضيفا "أن شاعر الغزل في الملحون مثلا يصف المرأة ويتغزل بها كما يصفها ويتغزل بها الشاعر الفصيح، بعذوبة قد تفوق الشعر الفصيح أحيانا."
ومن أمثلة ذلك قصيدة المرسول التي نظمها الحاج أحمد الغرابلي والتي تقول: أنا الفاني وانا لهميم (المهموم) // وأنا الملسوع بليعة لغرام وتنكاله (تنكيله)// أنا الي سري باح للورى بعد الكتمان // أنا العاشق وأنا السقيم // وأنا الي جرحني البين..إلى آخر القصيدة التي لا تحتاج معظم أبياتها إلى ترجمة إلى اللغة الفصيحة.
وليس الأمر محصورا في شمال أفريقيا الذي ينتشر فيه هذا اللون، بل هو لون موجود في الوطن العربي بمسميات أخرى، مثل الشعر النبطي في شبه الجزيرة العربية وقول الشاعر: "يا طير بلغ صاحبي كان تلقاه * يا طير عن فرقاي ياما نهيته // يا طير عقبه مقعد الطيب عفناه * والهم بين ضلوع صدري طويته.."
وفي الشام واليمن والسودان وكل بقاع العالم العريي، ولا يمكن الحديث عن شعر العامية دون التوقف عند الشاعر العراقي مظفر النواب صاحب الأعمال الشعرية الكثيرة بالعامية العراقية والفصحى والذي يعتبر بعض النقاد بأن شعره الشعبي تفوق جمالا على شعره الفصيح، وهاهو يفيض عذوبة وهو يلوم لوم محب معذب حبيبا بادل المحبة بالقسوة والهجر في قصيدة ياريحان، قائلا: "ﻣﻦ ﻳﻮﻡ ﻃﻴﻔﻚ ﻫﺠﺮ ﻧﻮﻣﻲ ﻣﺎ نمت// ﺣﻨﻴﺔ ﻳﺎ ﺟﺬﺍﺏ ﻣﻨﻚ ﻣﺎ ﺷﻔﺖ// ﻣﻦ ﻇﻨﻲ ﻛﻀﻚ ﺑﺎﻟﺤﻠﻢ//ﻋﻨﺒﺮ ﻓﺤﺖ //ﻣﻦ ﺭﺩﺕ ﺃﺟﻴﺴﻚ ﺟﺴﺖ ﺭﻭﺣﻲ//ﻭﻓﺮﻓﺤﺖ.."
ورغم محلية مفردات القصيدة التي يستعصي على المتلقي خارج العراق فهمها إلا أن صورها تصل إليه كاملة، ذلك أن العامية على محليتها قريبة ما يكفي من رصيد العربية عند غير العراقيين كي تلمسهم معانيها، فهل يكون هذا الشعر حقا المنطقة الوسطى التي يمكن للعامية والفصيحة أن تلتقيا فيها دون تنافر؟
#يمن_فيوتشر