كانت فرنسا أول دولة حديثة تُكرّس الفصل بين الدين والدولة رسميا، وهو نموذج يكاد يكون فريدا عالميا حتى اليوم، وقد جاء هذا القانون برغبة من رئيس الحكومة حينها إميل كومب المعروف بـ"الأب الصغير كومب" وبدفع من النائب أريستيد بريان، مستندا إلى محطات مفصلية في التاريخ الفرنسي: الحروب الدينية، صراع التنوير ضد الظلامية، الثورة الفرنسية، قضية دريفوس، وصعود الأفكار الجمهورية والاجتماعية.
•جذور الصراع بين الدولة والكنيسة
في ظل النظام الملكي الفرنسي القديم، تمتعت الكنيسة الكاثوليكية بامتيازات واسعة وكانت شريكا أساسيا للسلطة السياسية، غير أن ثورة 1789 قلبت هذا التوازن: أُمِّمت ممتلكات الكنيسة وأُجبر رجال الدين على أداء قسم الولاء للجمهورية، شهد القرن التاسع عشر استمرار التوترات رغم توقيع اتفاقية الكونكوردات عام 1801 مع البابا بيوس السابع، والتي حافظت على مكانة مهمة للكاثوليكية إلى جانب البروتستانتية واليهودية، ومع قيام الجمهورية الثالثة، اعتُبرت الكنيسة عائقا أمام تحديث المجتمع، ما جعل الصدام معها حتميا.
•قضية دريفوس.. الفضيحة التي سرّعت القطيعة
عام 1894، حُكم ظلما على الضابط اليهودي ألفريد دريفوس بالخيانة، القضية انقسمت حولها فرنسا إلى دريفوسيين ومدافعين عن الجيش، بينما وقفت الكنيسة في صف التيار القومي المناهِض لدريفوس، وساندت خطابا معاديا للسامية، هذا الانحياز الصارخ صدم الجمهوريين ودفعهم للقول إن النفوذ السياسي للكنيسة يهدد الديمقراطية وقيم العدالة والمساواة.
•أريستيد بريان.. مهندس القانون التاريخي
انتخب المحامي والصحفي والاشتراكي المعتدل، أريستيد بريان، نائبا سنة 1902، ورغم تردد الحكومة في فتح ملف العلمانية، شكّل بريان لجنة برلمانية لبحث مقترحات الفصل بين الدين والدولة، واعتبارا من مارس 1905، قاد واحدا من أطول وأكثر النقاشات "جدلا ونشاطا" في تاريخ البرلمان.
•قانون 1905: "قانون حرية لا مواجهة"
سعى بريان إلى نهج التوافق بدل المواجهة، وتجنّب خطاب الصدام وركّز على مفردات الحرية والمسؤولية والتعايش، قائلاً: "لا نضع قانونا ضد الأديان… بل نضع قانونا للحرية".
الهدف كان ضمان حرية الضمير والمساواة أمام الدولة، دون اضطهاد لأي معتقد ديني.
•1906 جرد الممتلكات يتحول إلى دماء
رفضت الكنيسة الكاثوليكية تطبيق القانون، واعتبرت جرد ممتلكاتها لإسنادها إلى جمعيات دينية "إهانة للمقدسات"، واندلعت صدامات في عدد من المناطق، كان أخطرها حين قُتل المواطن جيري غيسيل في كنيسة بوشيب شمال البلاد.
•مواجهة مفتوحة مع الفاتيكان
في فبراير 1906، أصدر البابا بيوس العاشر منشورا يدين القانون ويصفه بـ"الخطأ الخطير" وقُطعت العلاقات الدبلوماسية لسنوات، ولم تُستأنف إلا عام 1921.
•استثناء ألزاس-لورين
لم يُطبّق القانون في ألزاس-موزيل التي كانت تحت الحكم الألماني آنذاك، وبعد عودتها إلى فرنسا عام 1918، احتفظت بنظامها المحلي المستند إلى الكونكوردات، ولا يزال رجال الدين فيها يتقاضون رواتبهم من الدولة حتى اليوم.
•من "الفصل إلى "العلمانية"
لم يرد لفظ "العلمانية" في قانون 1905، ما ورد كان فصل الدين عن الدولة، غير أن المادتين الأولى والثانية منه كرّستا مبدأ حياد الدولة تجاه الدين، ومنعتا تمويله أو ممارسته داخل المؤسسات العامة.
أما إدراج "العلمانية" في الدستور، فجاء لاحقا عامي 1946 و1958: "فرنسا جمهورية غير قابلة للتجزئة، علمانية، ديمقراطية واجتماعية".
•المدرسة.. في قلب الجدل رغم غيابها عن نص 1905
كان إصلاح التعليم قد بدأ قبل صدور القانون بسنوات عبر قوانين جول فيري (1882 و1886) التي جعلت التعليم غير ديني، مجانيا وإلزاميا، لذلك لم يتضمن قانون 1905 سوى إشارات بسيطة للتعليم، لكنه بقي الساحة الأكثر حساسية في تطبيق العلمانية.
•العلمانية ومواجهة التحديات المعاصرة
مع توسّع التعددية الثقافية والدينية، خاصة منذ الثمانينيات، تصاعد الجدل حول الرموز الدينية في المدرسة والفضاء العام، وتبلور ذلك بقانون 2004: حظر الرموز الدينية "الظاهرة" في المدارس الحكومية، وبعد اعتداءات 2015: يوم وطني للعلمانية وتعزيز التربية على القيم الجمهورية، وفي عام 2020 أكد اغتيال أستاذ التاريخ صامويل باتي أن المدرسة باتت في مرمى التطرّف، فيما شدد قانون 2021 الرقابة على الجمعيات الدينية وتمويل دور العبادة.
اليوم، لا تزال العلمانية محور نقاش مستمر في فرنسا، بين من يراها ضمانة للحريات ومن يعتبرها تُستغل أحيانا لاستهداف ممارسات دينية محددة.