اليمن: التنقل سيرًا على الأقدام في المحويت
يمن فيوتشر - خيوط- فوزي المنتصر: الاربعاء, 10 أغسطس, 2022 - 12:31 صباحاً
اليمن: التنقل سيرًا على الأقدام في المحويت

منذ عقود، وما يزال الحلم الذي يراود العديد من سكان المناطق والقرى الجبلية، في مديريات محافظة المحويت (شمال غربي صنعاء)، المتمثل في شق طريق لسير المركبات إلى قراهم، باقيًا تتوارثه أجيالٌ بعد أخرى، وإن كانوا يُدركون حجم التهميش والإهمال اللذَين يرجحون من خلالهما فقدانَ تحقيق ذلك الحلم، حاضرًا ومستقبلًا، كما فقده سابقوهم، خلال العقود والأنظمة الماضية التي تعاقبت حتى اليوم.

ويؤكّد كثيرٌ من سكان مناطق وقرى مديريات محافظة المحويت، أنّ حياتهم أصبحت قاسية بسبب انعدام الطرق الواصلة إلى مناطقهم، الأمر الذي ضاعف من معاناتهم في ظل اعتمادهم على طرق سير وعرة غير صالحة للتنقل والاستخدام، ولجوئِهم إلى السير على الأقدام لقطع مسافات طويلة تزيد على ساعتين من الزمن، وبدائل غير مجدية وصعبة وشاقة لنقل احتياجاتهم من الغذاء والماء، مثل: استخدام "الحبال"، أو حمل الأشياء وجالونات الماء على الأكتاف والرؤوس. 
ولم تحظَ محافظة المحويت بأي اهتمام، وكان دائمًا حضورها شبهَ مغيبٍ، مقارنة بالمحافظات الأخرى، على مستوى المشاريع التنموية، عدا اهتمام محدود تركّزَ في بعض المديريات، وشمل المدن والقرى ذات المواقع الجغرافية المستوية، تاركة خلفها سكان قرى جبلية لا تحصى، يتجرعون أسوأ صنوف المعاناة، جراء انعدام أبسط الخدمات العامة، المتمثلة في طريق سيارة تصل إليهم.
إذ تتركز أكثر تلك القرى الجبلية، التي ما زالت تتسول خدمة الطريق، في المديريات الجبلية الواقعة غربي المحافظة؛ مديرية بني سعد، ومديرية حفاش، ومديرية ملحان. كما تتصدر تلك المديريات الثلاث قائمة القرى الجبلية المهمشة، والمحرومة من أبسط الخدمات، بما فيها الطريق، الذي يُعدّ شريان الحياة، ما يجعل سكانها يعيشون أسوأ نتائج وكوارث الإهمال والتهميش المجتمعي والسياسي على امتداد التاريخ اليمني.

 

أُسَر في طي النسيّان
لا تقتصر تلك المعاناة، بأوجهها المتباينة، وإن كان سببها واحدًا؛ يتمثل في شق طريق، على بضعة قرى وأسر معدودة، بل المأساة تتجاوز حدود القرى والعزل والمديريات، لتشكل أزمة ومشكلة اجتماعية، تؤرق آلاف الأسر، في عموم المحافظة.

وترصد "خيوط" التي استطلعت الأوضاع في مديريات محافظة المحويت، معاناة 25 منطقة وقرية في مديرية واحدة فقط، وهي "ملحان" من عدم وجود أي طريق ترابي أو أسفلتي للتنقل، فيما يقدَّر عدد الأسر التي تقطن هذه المناطق والقرى بأكثر من 1100 أسرة؛ ما يعني أنّ أفراد تلك الأسر، في تلك المديرية، يعانون جميعًا من مشقة وتبعات عدم وجود طريق، فضلًا عن المعاناة الإجمالية، الناجمة عن ذلك، لدى جميع الأسر في عموم مديريات المحافظة.
كما أنّ هناك قرى جبلية، في مديريات مختلفة في المحافظة، لم يتم تضمينها ضمن البيانات الإدارية عن مركز الإحصاء والمعلومات، الصادرة في 2004، حسب آخر إحصائية سكانية. منها على سبيل المثال، لا الحصر، قرى في مديرية بني سعد، تنتمي لعزلة واحدة، وهي عزلة بني سباء، وأما القرى فهي قرية جلحة، وقرية الدحاشيش، وقرية السهلة، وهذه القرى المذكورة جميعها لم تصل إليها الطريق حتى اللحظة. ما يؤكّد أنّ هناك قرى كثيرة ما زالت مهمشة ومستبعدة من ذكرها في أي بيانات حكومية سكانية، فضلًا عن وصول خدمة الطريق.

 

معاناة تفوق الوصف
يتجرع سكان تلك القرى يوميًّا، للوصول إلى قراهم، أسوأَ مرارة عيش، لعدم وجود طريق يمكنهم من نقل احتياجاتهم، وخدماتهم الأساسية بسهولة، وهو ما يجعلهم يضطرون إلى حملها ونقلها، مهما كان حجمها وثقلها، أو ما يترتب على نقلها من مخاطر على حامليها، نظرًا لقساوة الطبيعة وصعوبة التضاريس الجبلية. 
أحمد صالح (43 سنة)، يشعر بأسى شديد لعدم وجود طريق لقريته، الواقعة في عزلة العسوس، مديرية ملحان (غربي المحافظة)، يقول لـ"خيوط": "نواجه أشد المعاناة في كل تفاصيل حياتنا؛ بسبب انعدام طريق تصل إلى قريتنا، ولا أعتقد أنّ هناك معاناة أشد ممّا نعانيها نحن في هذه القرية، إلا سكان القرى الأخرى التي لا تجد طريقًا بعد، مثلنا". ويسترسل في حديثه، أنه وغيره من سكان القرية، يجدون صعوبة في نقل كل خدماتهم، واحتياجاتهم الأسرية، خصوصًا أنّ قريتهم تبعد مسافة كبيرة عن أقرب سوق يقصدونه لشراء احتياجاتهم المعيشية منه، إذ يتجرعون معاناة تصل إلى ما يقرب من ساعتين مشيًا على الأقدام للوصول إلى هذا المكان.
كما أنّ حدة هذه المعاناة، جراء انعدام طريق سيارة للقرى الجبلية، تفاقمت خلال الحرب. يقول بشير حسن (35 سنة)، أستاذ تربوي، وهو من سكان مديرية بني سعد، إنّ انعدام طريق سيارة إلى قرى كثيرة في المديرية، يشكّل حاليًّا أحد أكبر أنواع المعاناة التي يتكبد مرارتها يوميًّا عددٌ لا يحصى من سكان هذه المناطق.
ويوضح حسن، في حديثه لـ"خيوط"، أنه خلال السنوات الأخيرة الماضية من عمر الحرب الدائرة في اليمن وتداعيتها المختلفة، كتغير مواسم الأمطار، وندرتها، والتغير المناخي بشكل عام، وما نتج عنها من انعدام أو شحة المحاصيل الزراعية، وشحة مياه الشرب- كشف حجم ومأساة المعاناة الناتجة عن انعدام طريق مركبات إلى القرى لمحاولة الصمود في وجه هذه المتغيرات، التي لم يعهدها سكان القرى قبل سنوات.
 فضلًا عن أنّ سكان تلك المناطق والعزل والقرى، يصارعون من أجل الحصول على احتياجاتهم الغذائية والماء من مناطق ومراكز بعيدة جدًّا، ومشكلة عدم وجود طريق فاقمت هذه المعاناة لتصل إلى أوجِها.
ويعبر حسن عن استيائه من هذا الوضع، بالقول: "كل احتياجاتنا، من غذاء وماء واحتياجات أو خدمات أخرى، في ظل الوضع الراهن، ننقلها على الأكتاف أو على رؤوس النساء، لمسافات طويلة وشاقة"، إضافة إلى أنّ هناك قرى في بني سعد، وفي ملحان، ما زالوا يستخدمون الحبال لنقل احتياجاتهم. 

 

انتظار الموت 
يشهد سكان القرى تلك المحكومة بدائرة العزلة عن المجتمع، نتيجة انعدام طريق، تسهل تنقلهم ونقل احتياجاتهم، أسوأَ أوجه المعاناة اليومية التي لم تستثنِ أي أحد أو أي ظرف معيشي معين، في جميع شؤون حياتهم، ما يعني أنها تبدو أكثر مأساوية عند الأحداث الطارئة كالمرض. 

يقول فواز القبلة (34 سنة)، وهو من سكان قرية القبلة في مديرية ملحان، إنه عند المرض أو نقل الحالات الحرجة، مثل إنقاذ شخصٍ ما تعرَّضَ للتسمم، أو إنقاذ غريق قد فقدَ عملية تنفسه، وبحاجة إلى نقل طارئ إلى أقرب مستشفى أو مركز صحي- يدركون حجم هذه المعاناة ومأساويتها، والوجع الحقيقي الذي يشعر به الجميع، عندما يرون حالة مرَضية تموت ببط أمام أعينهم أو يسمعون صراخ متألمٍ من حدة الوجع، في حين يكون اللجوء إلى نقل هذه الحالة أو المريض بالنعش فوق الأكتاف، محاولةً تأخذ وقتًا كبيرًا جدًّا، ويتعرّض المريض خلالها لمضاعفات كثيرة، ما قد يجعله يفارق الحياة وسطَ الطريق قبلَ الوصول إلى أقرب مركز طبي.
وغالبًا ما ينقل المريض في تلك القرى إلى أقرب ممرّ أو طريق سيارة محمّلًا على النعش (سرير يحمل عليه عادة الموتى)، حسب أقوال الأهالي في ملحان لـ"خيوط"، رغم المخاطر الكبيرة التي يمكن حدوثها للمريض ولحامليه، خصوصًا أنّ الطريق الجبلية التي يسلكونها أثناء نقل المريض مترجلين، ضيقةٌ وتتخللها نتوءات وانحدارات جبلية خطرة على الجميع، ليس على المريض فقط؛ ما يجعل عددًا كبيرًا من الأسر يُهمِلون مرضاهم أو يلجَؤُون إلى استخدام عقاقير عشوائية، دون توصيف طبي، يتم جلبها من دكاكين تبيع العقاقير دون وصف طبي، ما قد يضاعف -في الأغلب- حالة المريض.
في السياق، تشكو الحاجّة زهرة حمود، خمسينية، تنتمي لمديرية حفاش، من الإهمال والتهميش الذي تعاني منه مناطقهم وقراهم، إذ إنّ المريض الذي لم يعد قادرًا على أن يحمل نفسه ويمشي إلى أقرب مشفى أو عيادة، يبقى في الفراش، كما أنّ المنطقة النائية التي تقطنها، حسب تأكيدها، أصبحت خالية من الشباب والرجال الذين كانوا قبل سنوات يبادرون إلى حمل أي مريض على النعش إلى المشفى أو طريق المركبات، والذين دفعتهم الظروف المعيشية الصعبة للهجرة إلى المدن.

 

مطالبة دون جدوى
يقول محمد أحمد (60 سنة)، من منطقة السهلة في بني سباء التابعة لمديرية بني سعد، في حديث لـ"خيوط"، إنه منذ عقود وسكان مناطق ومديريات المحويت يطالبون السلطات المحلية والجهات المختصة بالمشاريع التنموية وشق الطرق إلى مناطقهم وعزلهم، لكن لا فائدة، وعادة ما تُواجَه مطالبهم بوعود سرعان ما تتلاشى بشكل سريع. 
من جانبه، يذكر منصور الهبكة، من سكان الروضة في ملحان أنه كان هناك أمل في إيصال الطريق إليهم في ثمانينيات القرن الماضي، وذلك عندما شقت التعاونيات، التي كانت نتاج مشاركات مالية مجتمعية كبيرة، تنفذها الحكومة- الطريقَ إلى الكثير من القرى في ملحان وفي غيرها. ويستدرك، ولكن للأسف، وقعنا نحن في هذه القرى نتيجة لخلاف بين الجهات المنفذة، وما زلنا نتجرع نتائج هذا الخلاف إلى اليوم.
كما أنّ هناك بعض مناطق المحافظة تبنّت مشاريع ذاتية لشق الطرق، بمبادرات مجتمعية، لكنها تعرّضت للخراب وأصبحت غير صالحة للسير، جراء سيول الأمطار. كما يظل أغلب السكان المحليين في هذه المناطق النائية غير متمكنين من الإقدام على تنفيذ أي مبادرات ذاتية في هذا الجانب نتيجة للوضع المعيشي المتدهور الذي يقاسونه، إضافة إلى صعوبة البيئة الجبلية التي تتطلب إمكانيات وآليات شق كبيرة.


التعليقات