منذ استقلال السودان 1956، كان انقلاب عبود 1958 بداية الانحراف عن المسار الديمقراطي، وكان الرد انتفاضة أكتوبر الشهيرة 1964.
منذ الاستقلال السلمي والديمقراطي، كانت الانتفاضات الشعبية هي التعبير الجذري والعميق عن الإرادة الوطنية والشعبية السودانية التي تكررت منذ أكتوبر 1964، وأبريل 1985، وحتى سقوط البشير 11 أبريل 2019، وانتفاضات غيرها كاثرة لم يكتب لها النجاح.
مثَّلَت الانقلابات العسكرية -قومية كانت، أو إسلامية- الثورة المضادة، والارتداد عن الحرية والديمقراطية والعدل الاجتماعي والتطور والحداثة والتنمية وبناء السودان الجديد.
انتفاضة 19 ديسمبر 2018، والتي انقلب عليها ذراعا البشير: البرهان، وحميدتي- لا تزال مشتعلة حتى اليوم.
تجارب الانتفاضات الشعبية المتواصلة منذ أكتوبر 1964، كانت دائمًا ما تُواجه بتحالف القوى التقليدية في الأحزاب السياسية: المهدية، والختمية، والإسلام السياسي (جماعة الجبهة الإسلامية القومية أخيرًا).
يطرح الميثاق أولوية إسقاط الانقلاب، ورفض أي دعوات للتفاوض، كما رَسم أسس بناء السلطة الانتقالية، وهياكل الحكم، وسن الدستور، وتأسيس المفوضيات العديدة- اللبنات الأساس للدولة الانتقالية.
كان العسكر دائمًا هم القوة والاحتياط للثورات المضادة في السودان، وكثيرًا ما يُستدعون من قبل القوى التقليدية للانقضاض على الديمقراطية؛ كما حدث عام 1958 عندما استدعى رئيس الوزراء حينها عبدُالله خليل العسكرَ للاستيلاء على السلطة، وهو نفس ما عمله النميري عندما استدعى جماعة الجبهة الإسلامية القومية لمواجهة التيار التقدمي والديمقراطي، وشن الحرب في الجنوب، ومواجهة التمردات الكاثرة.
مأزق القوى التقليدية وحلفائها العسكر محاولةُ فرض هُوية واحدة، وإلغاء التنوع في بلد ومجتمع أساس وجوده التنوع والتعدد، وخياره الديمقراطي هو الأساس منذ مؤتمر الخريجين في ثلاثينيات القرن الماضي.
المفكر والباحث حيدر إبراهيم، يرى أنّ "السودان بلد شديد التعقيد، عصيّ على الفهم والتنبؤ؛ بحكم التناقضات والمفارقات التي لازمته منذ النشأة؛ فقد خضع السودان باستمرار، ومن دون تغييرات جذرية لِلُعَب التاريخ، وضرورات المكان؛ الأمر الذي حد قدرته على التجديد، وولوج الحداثة، وبقي السودان أسيرًا لثنائية الحديث، والتقليدي المبثوثة في كل مكونات الواقع السوداني؛ لذا ظل التحدي الأكبر الذي يواجه السودان هو بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة تحقق الوحدة الوطنية بإرادة عقلانية للتنوع الثقافي، مع تحقيق تنمية عادلة ومتساوية". (المستقبل العربي، عدد 423).
تنحية البشير جانبًا لم يكن انقلابًا ضد البشير، وإنما هو في حقيقة الأمر تهيؤ من قبل أهم أركان حكمه لمواجهة انتفاضة 19 ديسمبر 2018؛ فالبرهان- قائد القوات البرية، وبعدها المفتش العام في الجيش، وحميدتي- قائد قوات التدخل السريع (الجنجويد)، هما الذراع العسكرية للبشير، وكلاهما مسؤولان عن جرائم الحرب في دارفور، كما أنهما مسؤولان عن مذبحة المعتصمين أمام مقر الجيش، وهم بالمئات، وكان قبول مجموعة نداء الحرية لاقتسام الحكم معهما بداية الالتفاف على الانتفاضة؛ وهو نفس ما تكرر في الانقلابات العسكرية في السودان، وانقسام التحالف الوطني الذي تشكل عام 2009 من 17 حزبًا كرر -للأسف الشديد- تجارب الأحزاب التقليدية؛ فهذه القوى عندما تعجز عن حل معضلات الثورة الوطنية الديمقراطية، أو الإجابة عن أسئلة الأزمات الاقتصادية الاجتماعية الثقافية، وقضية السلام، سواء مع الجنوب أو في دارفور- تلتجئ إلى العسكر متحالفةً معهم.
كان مصير المتحالفين مع البرهان وحميدتي من جماعة نداء الحرية والتغيير المعتقلات، وحُمِّلوا وزر الأزمات التي يتحمل الجيش والقوى التقليدية وحدهما صناعتها وحراستها.
ظلت انتفاضة ديسمبر متصاعدة، ويعود إليها الفضل في إخراج رئيس الوزراء الدكتور عبدالله حمدوك، ووزراء الحرية والتغيير من السجون.
للأسف، لا يزال رهان بعضهم على تكرار التجربة مع عسكر البشير، أما تجمع المهنيين، وتنسيقيات لجان المقاومة، وهي تواصل الانتفاضة المتصاعدة، فقد طرحت أخيرًا ميثاقًا، وحددت شروط التوقيع عليه، والجهات المحددة المطلوب انضمامها. ولعل تجارب القوى المدنية منذ أكتوبر 64، وبالأخص أنموذج التحالف الوطني الأخير- قد أجبرت تنسيقية لجان المقاومة المنتشرة في غير مدينة سودانية على وضع الضوابط في الانضمام، والتوقيع على ميثاق تأسيس سلطة الشعب.
يطرح الميثاق أولوية إسقاط الانقلاب، ورفض أي دعوات للتفاوض، كما رَسم أسس بناء السلطة الانتقالية، وهياكل الحكم، وسن الدستور، وتأسيس المفوضيات العديدة- اللبنات الأساس للدولة الانتقالية.
ويتناول الميثاق تفاصيل قضايا الحكم؛ مركزًا على العدالة الانتقالية والجنائية كضمانة أساس للانتقال السياسي عبر مخاطبة جذور الأزمة، وربطها بعملية السلام، ويشترط لمفوضية العدالة الانتقالية القومية أن تتشكل من خبراء قانونيين ومتخصصين من أهل الخبرة والكفاءة والنزاهة، وإجراء تحقيقات في الجرائم والنزاعات المختلفة، ويعطي الميثاق لهذا الأمر الأولوية، ويتناول قضايا السلام الشامل والمستدام الذي تتولاه مفوضية السلام المكونة من ذوي الكفاءة والنزاهة وأصحاب الاختصاص، ويطالب بإصلاح الأجهزة الأمنية والعسكرية، وإصلاح المنظومة الحقوقية والعدلية، ويأتي على إصلاح الخدمة المدنية، وتغيير اللوائح والقوانين المتعلقة بها، وإصلاح وبناء المجتمع المدني والاقتصاد، والرؤية التنموية، والعلاقات الخارجية، والسيادة الوطنية، كما يتناول الحقوق والحريات؛ مشددًا على احترام المواطنة دون تمييز مفصل بسبب العرق أو الدين أو الثقافة أو الجنس أو اللون أو النوع أو الوضع الاجتماعي أو الاقتصادي أو الرأي السياسي أو الإعاقة أو الانتماء الجهوي أو غيرها؛ وهي تفاصيل مهمة؛ لأنها تعبر عن طبيعة التكوين المجتمعي السوداني، والإرث الوبيل للقوى التقليدية والإسلام السياسي، كما يضع الميثاق ضوابط لصياغة الدستور والانتخابات، ويخلص إلى القول: "بهذا نتطلع إلى العمل مع رفاقنا في لجان المقاومة في شتى ربوع البلاد، وكل القوى النقابية والمنهية، والأجسام المطلبية، والأحزاب السياسية، وجميع قوى الثورة الحية في السودان لـتأسيس الديمقراطية وترسيخها، واستكمال مهام الثورة". وأخيرًا ذُيّلَ الميثاق بالقوى المطروح عليها الميثاق للتداول والتطوير والتوقيع.
الانقلابات العسكرية منذ عبود، مثّلت قطعًا مع المسار الديمقراطي، وارتدادًا عن الإرادة الشعبية العامة في بناء دولة سودانية ديمقراطية، وتحقيق السلام الشامل والدائم في السودان، لكن الانتفاضة كانت هي الرد الشعبي والقومي.