قراءة نقدية: جذور الثورة المضادة في "فبراير"
يمن فيوتشر - مجلة المدنية-خالد عبدالهادي* الاربعاء, 16 فبراير, 2022 - 10:01 مساءً
قراءة نقدية: جذور الثورة المضادة في

[ الرسم لسعد الشهابي-المدنية ]

2-قوى الثورة في الميزان الثوري

لو أن أحداً تنبأ أواخر 2010 بالثورة لعدته قيادة اللقاء المشترك مجدفا.

قد لا نلقى وصفاً لعلاقة المشترك بالثورة أفضل من أنه وجد نفسه وسط المعمعة ومئات الألوف يفسحون له الممر لبلوغ الصف الأول.

والتوصيف ينصرف إلى قيادة المشترك، أما الأعضاء المنتمون إلى أحزابه خصوصاً الشبان فهم من قدح شرارة الثورة وشكل الغالبية في عداد المحتجين الذين جابوا شوارع تعز وصنعاء خلال أيامها الأولى.

 قاد المشترك العمل السياسي المعارض على قاعدة إصلاح النظام السياسي، وتُحسب له مقاومته لرغبة صالح تنظيم الانتخابات النيابية في موعدها الذي كان مقرراً في أبريل 2009، وتمسكه بشروط لإصلاح قواعد التنافس الانتخابي.

وقياساً بنهج المشترك القائم على إصلاح النظام من الصعب تصور أنه كان ليفكر بالثورة مهما بلغ عدد الأنظمة العربية المتساقطة، إنما كان من شأن ذلك أن يمنحه قوة غير مسبوقة في التفاوض مع صالح وانتزاع موافقات على مطالبه عدا عن تحسينها.

أظهر عجز صالح عن القفز على عقبة المشترك إلى انتخابات منفردة تآكل سلطته وفقده القدرة على الحكم بالقسر كما اعتاد.

وكانت انتخابات الرئاسة في سبتمبر 2006 قد أبانت عن أن عليه لكي يفوز في انتخابات مقبلة، انتهاك القانون الانتخابي بوحشية.

مع أن أحزاب اللقاء المشترك عملت بوحدة سياسية خلال الثورة إلا أن من غير الموضوعي تصنيفها كتلة واحدة لدى الخوض في مفهومها للثورة، وانعكاسه على ممارستها الثورية.

ويفرض عامل حجم التأثير في الثورة، الاكتفاء بعرض لأكبر حزبين في المشترك.

 

الإصلاح 

يندر العثور على أمثلة واضحة لقوى سياسية تندمج في الثورة بكامل ثقلها إنما لغاية موغلة في الإصلاحية مثلما يتحقق هذا في التجمع اليمني للإصلاح عام 2011.

منذ أواخر ستينيات القرن الماضي، نشط الإصلاح خلف واجهات عدة كالجمعيات والمعاهد. في البدء حدد وظيفته في نصيحة الحاكم ثم اختار لنفسه أن يكون ظل النظام، وكلما كانت تعترض الأخير تحديات يتجسم الظل في ذات الأصل وتحديداً في الذراع النظامية القامعة لمعارضيها.

عقب الوحدة انحسر طول الظل قليلاً ليندمج في الأصل بصفة حليف سياسي، ثم دفعت به أزمة الفترة الانتقالية فالحرب الأهلية إلى مرتبة الشريك.

وفي حين لم يكن شريكا الحرب، أفاقا من سكرة النصر العسكري الذي أقصى الاشتراكي وطرد الجنوب من شراكة دولة الوحدة، بوغت الإصلاح في انتخابات 1997 النيابية بشريكه يجس نبضه بنسخة ناعمة من الإقصاء، كلفته بضع دوائر انتخابية ليضمن بها حزب صالح أغلبية برلمانية مطلقة.

رغم تكدر العلاقة جراء ذلك، إلا أن لوظيفة ظل الحاكم جاذبية يعجز الإصلاحيون عن مقاومتها فلم يكتفوا بتجنيد آلتهم التنظيمية والإعلامية في الدعاية لصالح بل أعلنوا الاستئثار به مرشحاً لهم في انتخابات هزلية عام 1999.

لكن ذلك لم يكن ليثني صالح عن السير الحثيث نحو إشباع غريزته في الاستفراد السلطوي فألغى بعد عامين المعاهد العلمية: أضخم مختبر أيديولوجي أنتج للإصلاح عشرات الألوف من الأعضاء الموثوقين خلال ثلاثة عقود.

وعى الإصلاح إثر ذلك اتجاه تحالفهما نحو الافتراق فبدأ يتهجى المعارضة بخجل، موجهاً لومه إلى “لوبي الفساد والفتنة” في المؤتمر، ثم تدرج إلى نقد بطانة الرئيس قبل أن ينقطع حبل رجائه تماماً فيشير بالنقد إلى صالح وينخرط في معارضته ضمن اللقاء المشترك.

ولما تجسدت الأداة الثورية واقعاً ميدانياً في مواجهة النظام صار لا مناص من استخدامها.

الآن، يتعين على الإصلاح قلب ترتيبه السابق: فبعد سنوات ظل خلالها يشخص السوء في لوبي الفتنة المؤتمري والبطانة، سيحصر السوء في صالح بدءاً من 2011 أما باقي رجالاته (بطانته) فسينشر البساط الأحمر لاستقبالهم في الساحات.

اتساقاً مع ذلك، فالثورة كما انعكست في الخطاب الإصلاحي عقاب لصالح على مضيه في الترتيب لتوريث نجله السلطة فحسب.

وفي السياق نفسه، اكتشف الإصلاحيون إجرام صالح يوم مذبحة الكرامة. يبدو هذا الاكتشاف المتأخر متسقاً، فمذبحة الكرامة أولى جرائمه الجماعية والعلنية منذ انتقالهم إلى صف معارضته، أما سوابقه فإما شاركوه فيها أو نظفوا مسارحها.

وسواء جلب نصف النظام إلى الثورة أو اندفع إليها بدون حمولاته الثقيلة فالتصورات الإصلاحية في القضايا الوطنية الكبرى كالمواطنة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وإدارة السلطة والقضية الجنوبية تقترب من رؤية نظام صالح بشأنها.

وقد أتاح مؤتمر الحوار الوطني المنعقد في 2013 فرصة لإظهار تماثل رؤى المؤتمر الشعبي العام والإصلاح في عدد غير قليل من القضايا.

 لكل حزب شخصيته السيكولوجية النابعة من ايديولوجيته وعلاقاته، وليس سهلاً عليه تحرير سياسته العامة من طابعها.

والثورة بما هي انفلات من عقال الاعتيادية، عمل مناقض لشخصية الإصلاح الذي هو بنيان تربوي ودعوي؛ حين يسالم، ينصح الحاكم ويقيم في ظله وحين يغضب ينهج طريق الجهاد لا الثورة، إذ نهج السياسة التربوية يراكم أما الأخيرة فتنسف القديم بلا أسف.

وكذلك هي مغامرة لتنظيم يعدّ مجمع مصالح ضخماً، ينتظم فيها الحانوتي الصغير حتى الملياردير ومنصات الإعلام وآلاف الجمعيات الخيرية ومنابر الإرشاد وعلاقات ناشبة في كل مفاصل الدولة.

وبوصفه حزباً دينياً ففي الثورة جرأة على نقض مبدأ الطاعة قد تلهم أعضاءه احتذاءها داخل الحزب، وهذه فكرة جد مرعبة لقيادته القابضة على شؤونه منذ 40 عاماً على طريقة الإكليروس وإيمانه بأحقيته الشرعية في القيادة حتى النهاية.

وتنطوي الثورة كذلك على طيش عند الإكليروس السياسي الذي أشاد هذا البناء التنظيمي ويعتقد أنه محروس بحكمته، لكنه وجد نفسه مضطراً لطيش ما منه بد لأن تياراً داخل الحزب غدا في وضع شبه مواز وتخطت مصالحه الخطوط التنظيمية الصارمة، ولم يكن لينتظر إذناً للاشتراك في حلم انتظره طويلاً لرد الصاع لصالح.

والحديث هنا عن تيار رأس المال القبلي برمزه حميد الأحمر الذي كان بوسعه خلق متاعب تنظيمية لحزبه إذا تحفظ على الثورة، إلى جانب تيار واسع يؤلفه شبان جامعيون وإعلاميون ونشطاء وسياسيون ألانت الثورة الرقمية والصحافة وموضة الإسلام الليبرالي صلادتهم العقائدية ووسعت آفاقهم.

 فالإصلاح في 2011 لم يعد تلك القطعة الصلبة التي لا يمكن إلا أخذها كاملة أو ردها كاملة كما في تسعينيات القرن الماضي. وشبانه أبلوا حسناً وشكل أعضاؤه رقماً مرتفعاً بين ضحايا الثورة.

من جهة ثانية، في ظل هذا النظام ترسخت مغانم الإصلاح وامتد نطاقها من المدرسة والمعهد فمنابر الإرشاد إلى معسكرات الجيش ما أتاح له فرض صبغته على المجتمع وإيصاد نوافذ التقدم الثقافي والاجتماعي التي كانت شرعتها ثورتا سبتمبر وأكتوبر.

تكاملت كل هذه العوامل لتنتج صورة الإصلاح في الثورة. وقد بدا ضخماً بحق.

وكما في كل ضخامة جوفاء تتمظهر مأساة أفعالها في شكل ملهاة، احتكر أدوات التعبئة الجماهيرية في الساحات بفضل كثرته وموارده وتحالفاته. وعوضاً عن تعبئة ملايين ينتظرون بياناً بالخطوة الحاسمة، تحجم في مقاس مدرب كشافة يوجههم بالتصفيق وتشبيك الأكف وإشهار الإصبع السبابة، أو رفع الأيادي بالضراعة والاشتكاء بصالح إلى القدرة الإلهية.

 إذن، حين احتاجت الثورة دفعاً حاسماً إلى الأمام، أطفأت تعبئة الإصلاح شررها وأحلت محله طابعاً تربوياً، حولها إلى عملية تربوية لإكساب الجماهير، الوجل والطاعة وتمرينهم على الصبر وتلقينهم تعليمات إدارة المخيم.

وبدلاً من إنجاز الخطوات الثورية المتبقية على الواقع تكفل ذلك المخدر التربوي بمحاكاتها على المنصة بأداءات مسرحية مضحكة.

وزاد أن استورد إلى داخلها مسحة الكهانة باستقدام وعاظه الذين ذهب كبيرهم عبدالمجيد الزنداني إلى أن الثورات العربية مجرد إرهاص لعودة الخلافة الإسلامية. وأشاع وعاظ آخرون قصصاً عن رؤى منامية تبشيرية.

بغض النظر عن حجم التأثير العملي لذلك، ففيه إيحاء للمحتجين أن ثورتهم عمل إرادوي قدري ما يعني قدرية نهايته وما عليهم إلا المكوث في المخيمات وانتظارها، عدا عن أنه تهزيل لإرادة العمل الثوري ونفي وعيها.

 تبقى أكبر جنايات الإصلاح على الثورة أنه قائد الحلف الثلاثي الذي برهن خطابه وسياسته على أنه خطط لحصر مفعول الثورة في إزاحة رأس النظام والتواؤم مع سياساته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

وبقدر تضحيات هذا الحلف: البشرية والمادية الكبيرة في الثورة إلا أن سياسته العامة داخلها وخلال الفترة الانتقالية خصبت التربة التي ستنشب فيها الثورة المضادة جذورها.

 

•الاشتراكي

برهنت منظمات الاشتراكي الشبابية في صنعاء وتعز وباقي المدن أنها نابض الحزب والعضو الذي بقي حيوياً في جسمه بعدما انهالت عليه الضربات من كل صوب بلا هوادة.

فعن منظمة الحزب الاشتراكي اليمني الطلابية بجامعة صنعاء صدرت أول دعوة صريحة لإسقاط نظام صالح في بيان لها أعقب سقوط الرئيس التونسي زين العابدين بن علي منتصف يناير 2011.

وشكل الشبان الاشتراكيون بين الطلائع الثورية الشبابية النواة الأشد إصراراً على البلوغ بما بدأوه إلى مرتبة ثورة.

تلقى الاشتراكي ضربات ساحقة كان أعنفها مذبحة يناير 1986 التي جاوزت تحطيم كيانه إلى هز ما كانت مسلّمات حول تجربته برمتها.  ورغم تصدر قضية الديمقراطية المركزية لدروس عميقة كان المفروض أن تقود إليها مأساة الاقتتال الدامي، إلا أن تغييبها عن القرارات التاريخية استمر حتى 1994 حين جردت الحرب الأهلية منصب الأمين العام من الأدوات التي ظلت تغري شاغل هذا الموقع باستبداد القرار الحزبي.

فقرارات كبرى كالطريقة التي انعقدت بها الوحدة وإدارة أزمة دولة مايو ثم الحرب فإعلان الانفصال لم تحسمها مائدة اجتماعات الهيئات الحزبية المعنية بقدر ما حسمتها ارتجالات الأمين العام.

بقيام الوحدة مقرونة بالديمقراطية، تخلى الاشتراكي عن اشتراكيته اللينينية لمصلحة الاشتراكية النيابية، ومع ذلك انساق لنظام انتخابي حرمه من تحويل شعبيته الجارفة في 1993 إلى مقاعد برلمانية.

في 1994 أسدلت حرب صالح وحلفائه الستار على ربيع الاشتراكي النيابي، مسددة ثاني أعنف ضربة لقوته التنظيمية وقاعدته الشعبية التي انكفأت تجرع المرارة بصمت.

ومن بين الأنقاض، نهضت قيادة جديدة لم تختلف مهمتها الأولى عن قائد يقف على أرض معركة مزقت جيشه فيرفع راية ليهتدي إليه جنوده المنهكون والجرحى والمختبئون. وشرعت تلملم الأشلاء.

لأول مرة منذ تأسيس الحزب عام 1978 تعمل قيادته التي تصدرها علي صالح عباد (مقبل) وجار الله عمر وليس في يدها غير السياسة.

ولأول مرة أيضاً منذ حقبة علي ناصر محمد مطلع ثمانينيات القرن الماضي لا تخرج الأفكار من رأس الأمين العام متأهبةً للقتال ولا مصهورة بأنفاس جنرالية تجثم على مزاج المكتب السياسي.

حولت القيادة الجديدة عملها السياسي الأعزل من القوة والمال إلى فرصة لإعادة اكتشاف قوة السياسة وفن التحالفات فقادت مجلس تنسيق المعارضة قبل أن تنضج أخطر أسلحتها السياسية ماثلاً في اللقاء المشترك الذي سيطيش صواب رئيس النظام فيرد بتصفية جار الله عمر.

مجدداً.. طعنة غائرة تغوص في الجسد الاشتراكي باغتيال أكثر ساسته قدرةً على وصل قيادته بجماهيره وأمهرهم نفاذاً داخل تعاريج السياسة وخطوطها الحمراء، المحظورة نظامياً.

ومن حيث لا يتوقع، ألقت الحياة السياسية بين يدي الاشتراكي فرصة ثمينة في ربيع 2007: انتفض ضحايا حرب 94 الواقعون تحت الإقصاء والتمييز السياسي والوظيفي والمشار إلى تاريخهم بالتأثيم والتوبيخ الرسميين.

انطوى صعود الاحتجاجات الجنوبية على فرصة للتوقف عن دفع فاتورة الهزيمة وإلقائها على طاولة النظام وقد ألصقت به الانتفاضة صفة المتهم واضطرته إلى موقع الدفاع.

قدم الحزب دعماً سياسياً وقانونياً وحتى مالياً للحركة الجنوبية الاحتجاجية، لكن في الجانب التنظيمي اتخذت قيادته سياسة اللاوصاية، وفسرتها برفضها فرض وصاية على إرادة المحتجين وتركهم يفرزون قياداتهم في الميدان.

ما أروع حرارة الالتزام النقابي تسري في هذا القرار إلى حد لم يدع للسياسة أثر رائحة!

نشأ عن هذا الزهد السياسي انسحاب إلى الخلف وكف السياسة عن العمل في انتظار ما تقرره المنظمات والزمر الاجتماعية ونزعات ما قبل الوطنية التي بعثتها الانتفاضة من عمق أعماق الماضي.

بعد وقت غير طويل سترتد تبعات قرار اللاوصاية إلى صدر الاشتراكي فتدرجه زعامات الحراك ومجالسه خصماً كسائر خصوم القضية الجنوبية قبل أن تبدأ الاستقطاب داخل منظماته الحزبية بطريقة عدائية وتجريفية، ثم ما لبثت التأثيرات أن طالت نشاط الهيئات المركزية ملقية حوله كوابح إن لم تبتزه.

وامتثالاً لهذا التطور، تعين على قيادة الاشتراكي أن تسير على صراط رفيع، فلا تقرر في القضية الوطنية إلا وقد ضمنت للقضية الجنوبية كفة راجحة.

في هذا المقام، لا مبالغة في القول إن تبني زعامات حراكية أعيد تأهيلها في معامل سياسية إقليمية وشعبوية وماضوية بدائية لخصومة الاشتراكي، طوقه بعقدة ذنب عنوانها دفع الجنوبيين إلى الوحدة وألجم طلاقة أدبياته المعهودة في القضية الوطنية، مع أن بوسع القضيتين التجاور بسلام في نص واحد واستراتيجية واحدة.

وإجمالاً، لولا حيوية فكرة الاشتراكي ومشاربه النابعة من الحركة الوطنية الحديثة لاستحال عليه النهوض والتجدد تنظيمياً وجماهيرياً مقارنة بوفرة الصراعات التي خاضها أو خيضت به خلال ربع قرن فقط (1967- 1994).

لقد ظل وريد الاشتراكي مفتوحاً ونازفاً طوال حقبة حكمه للجنوب، وبقدر ما أقحم المجتمع في تسديد ثمن صراعاته، تسلحت الأمراض الاجتماعية بيافطته لخوض صراعاتها.

يوضح هذا الإيجاز كيف أن حزباً نشأ داخل ثورتين ويصل حبل متين أيديولوجيته بالثورة، استمر نصله الثوري يفقد بعضاً من حدته في كل دورة صراع أو ضربة معادية منذ 1967، ولن يحل عليه 2011 إلا وقد اكتمل ثلمه.

وتجلت عاقبة هذا الحصاد في أن ريادة منظمات الحزب الشبابية في قدح الثورة وتفاني أعضائه وقيادته فيها لم يكفيا لتوجيهها منحى غير ما جرها إليه تحالف القوة والمال والتنظيم.

حتى إن توافرت الفرصة فلا مؤشرات على أن قيادة الاشتراكي امتلكت مبادرة فارقة.

 

•الجيش المنشق وقائده

لم يكمل اللواء علي محسن صالح قائد الفرقة المدرعة الأولى بيان انحيازه إلى الثورة إلا وقد سبقته إلى الساحات هالة من هيرمس(1)  خلعها عليه إعلام المنصات وأسبغ عليها تمجيداً وامتنانا.

وخلال اليومين التاليين بدا كما لو أن تلك الهالة تحظى بواقعية، وهي تجتذب زعماء قبليين وضباطاً في الجيش والشرطة وحتى سياسيين في حزب صالح.

لكن بعد انقضاء أسبوع، أمكن تمييز أن الثورة تقدم لمحسن حماية تفوق الحماية التي ندب جيشه لها؛ إذ في مقابل نشر قواته على أطراف ساحة التغيير، برأه حلفاؤه باسم الثورة عن 33 عاماً ماضية وشرعوا في تنظيف تاريخه وشطب اسمه من جوار صالح.

 شكل محسن العضد الأيمن لصالح طوال سني حكمه والرجل التالي له في تراتبية رجالات النظام الذي اعتلى الحكم عام 1978 على جسر من المؤامرات والوقائع المشبوهة الموشاة بالدم، وسيحكم بهذه الأدوات حتى تصدعه في 2011.

لذلك شكل الانشقاق انعطافة حادة في مسار الثورة والنظام على السواء، وخضة هزت صالح الغريق في دم جمعة الكرامة.

وكان من شأن هذا المنعطف أن يفتح الباب واسعاً أمام مزيد من الانشقاقات، غير أن أدوات صالح بدت ما تزال أشد حدة من أدوات عضده المنشق وبدت خزينته، التي هي خزينة الدولة، تعد بأكثر مما تعد به خزينة محسن الذي سيتحدث لاحقاً عن أنه مدين.

لا خلاف في أهمية انشقاق محسن، ومشروعية الإفادة القصوى من تناقضات النظام وتوظيفها لتفكيكه، إنما الاعتراض على انحدار العرفان الثوري إلى خنوع رعوي، لفرط امتنانه جثا على ركبتيه يؤدي شعيرة الحمد بين يدي العسكرية الوافدة عليه لحاجتها إليه أكثر مما يحتاجها هذا الراكع بذل.

وبدلاً من استيعاب القيادة العسكرية المنشقة بأسلوب “ضعوا البندقية على كتف كيرنيسكي وأطلقوا النار على كورنيلوف”(2) أحلها حلفاؤها مقاماً خولها أن تتخذ هي أكتاف المحتجين حاملاً لبندقيتها كي تطلق النار على صالح.

نقل محسن طريقة عمله التي اتبعها في النظام إلى داخل الثورة، وهي طريقة هدامة تقوم على تسخير العام للخاص، واستقطاب الولاءات بالمال السياسي والوظيفة العامة.

وكما باشر الرجل استقطاب ولاءات إلى الثورة من خارجها، ضخ بقدر مماثل مالاً إلى داخلها لدعم ائتلافات شبابية وتكتلات سياسية، ولا بأس لو أنه اقتصر على تغطية احتياجات المحتجين اليومية، لكنه انطوى على استقطاب، نشأ عنه تفسخ ائتلافات شبابية حولت اهتمامها إلى التنافس على الفوز بحظوته.

في هذا السياق، تبين أن أكثر مديري المؤسسات الذين استقالوا من مناصبهم والمؤتمريين الذين انشقوا والتحقوا بالساحات كانت مواقفهم ديناً على الثورة، سدده الحلف الثلاثي خلال الفترة الانتقالية بإعادتهم إلى مناصب أرفع من سابقاتها.

والأخطر أن نشاط محسن لم ينحصر في اختصاصه العسكري، بل أضحى في غضون أيام قليلة قائداً سياسياً في الصدارة فرأس “المجلس الوطني لقوى الثورة”. والراجح أنه نازع قيادة المشترك في أهم قرارات الثورة.

وفي الجانب الأدبي والدعائي، خصم تقديمه واجهة للثورة قدراً ضخماً من تفوقها الأخلاقي على نظام لم يكن في رصيده نقطة أخلاقية واحدة في البداية، وألقى عليها غلالة من الشك الأخلاقي عند الجمهور المتردد في موقفه من المعسكرين.

فأن يمسي بصفة الرجل الثاني في النظام ويصبح الرجل الأول في الثورة جعلها في أعين كثيرين نهراً هندوسياً يحج إليه الخطاة(3)، وبغمسة واحدة في مياهه يتطهرون من أرجاسهم الماضية.

وسيتضح لاحقاً في قرارات الرئيس هادي بشأن هيكلة الجيش أن محسن وضع حدثه الشخصي فوق الثورة، فارضاً تسمية الحديقة التي افترضها القرار لتحل محل معسكر الفرقة الأولى بيوم انشقاقه (21 مارس 2011) رغم أنه حدث فرعي بين فروع عدة خلقها الحدث المركزي.

بنظرة عامة، توافرت بانتقال محسن إلى الثورة على رأس جيش، القوة التي احتاجها الحلف الثلاثي لترتيب الأولويات الثورية وضغطها في ضوء مصالحه لتبدأ بذلك رحلة ارتدادها المطرد إلى عمل إصلاحي متقزم.

وما تراجع العملية الثورية إلى عملية إصلاحية، ومتعثرة، إلا بطاقة دعوة في بريد الثورة المضادة لتبدأ مسيرتها.

 

•القبيلة

لم تنقسم القبيلة على نفسها خلال تاريخها المعاصر كما انقسمت في 2011. كذلك لم تنقسم على أساس سياسي بهذا الوضوح من قبل.

والثابت أن المواجهة الباردة بين مصالح آل الأحمر وآل صالح خلال العقد الذي سبق فبراير قد هيأت القبيلة في المناطق الشمالية – في الأقل- للانشقاق ورسمت خط الصدع الذي ستكفي صيحة من فبراير لشقه عميقا.

ترتب على انتصار صالح وحلفائه الإسلاميين والقبليين عام 1994 تقاسم الغنيمة الضخمة التي آلت من أصول دولة ما قبل الوحدة في الجنوب. وجاء نصيب زعيم القبيلة عبدالله بن حسين الأحمر وفيراً بالطبع، إذ كان قد برز على رأس صقور الأزمة والحرب.

 لم يفسد الثراء الطفيلي الفاحش أنجال الأحمر الذين اقتحموا الحياة السياسية والبرلمانية مدججين بالسلطة والقبيلة المسلحة والمال السياسي، بل صرف “الشيخ” عن هموم قبائله وأخلده إلى عيش الدعة.

ولم يكن صالح المتوجس بطبعه من أي قامة تطاول قامته ليفوت ذلك، فدعم شيوخاً متوسطي المكانة ونصب آخرين في مناطق حاشد وغيرها، مستغلاً تململ القبائل من أنانية زعامتهم التاريخية وسلوك الأبناء الذين لم يرثوا من تقاليد المشايخ ما يحشد الولاء القبلي حولهم بصلابته القديمة.

مثلما دل توزع ولاءات القبيلة بين أنجال الأحمر وصالح على ضيق القبيلة بزعامتها الأنانية التي تنفرد بالمصالح، كذلك عبر انقسام ولاءات الجيش بين صالح ومحسن عن تمييز كان الأول قد قسم به الجيش إلى قسمين متمايزين بوضوح: أحدهما جيش للدولة غير محدث ومن عسكريين ضعيفي التأهيل، والآخر جيش نخبوي لدائرة صالح الضيقة داخل النظام.

من هذا المنطلق، يجوز إعادة انشقاق الجيش والقبيلة في 2011 إلى منبع واحد هو تضييق صالح لنطاق مشروعه في أسرته وإدارة ظهره لحلفائه التاريخيين.

بل يتعذر، غالباً، فصل موقف عضو ما في التحالف الثلاثي عن سياسة الحلف العامة.

فبدعم قتالي من محسن، قاد الشيوخ الإصلاحيون قبائلهم بريف صنعاء في مواجهة مسلحة مع قوات صالح على هامش الثورة. خاضت قبائل في الحيمة بقيادة ربيش علي وهبان قتالاً ضد قوات من الحرس الجمهوري في معسكر المنار وفرضت السيطرة على مناطقها والطريق الرابط بين صنعاء والحديدة، وفي أرحب قاد منصور الحنق قبائله في مواجهات عنيفة مع ألوية من الحرس الجمهوري تتمركز في قاعدة الصمع.

كذلك اندلع قتال عنيف بين قبليين ولواء من الحرس الجمهوري في نهم.

أما صادق الأحمر وإخوته فتزعموا قبائلهم في مواجهات دامية مع قوات صالح داخل حي الحصبة حيث قصر آل الأحمر.

باستثناء مواجهات محيط ساحة التغيير وقليلاً في الحصبة بوصفها دفاعية اضطرارية، لم تكن بقية المواجهات عنفاً ثورياً تحت إشراف قيادة الثورة السياسية بل شكلت حالة خاصة خارج الثورة، يسهل اتهامها بالتآمر ولم تكن لتدفع الأخيرة إلى طور متقدم بقدر ما كان نجاحها في انتزاع السلطة سيضع مستقبل السياسة تحت رحمة العسكر وحلفائهم.

وحيال ذلك، تبقى ضآلة حصاد الاتفاق الخليجي أهون من نتائج ضربة عسكرية التفافية.

بررت صحافة الإصلاح، المواجهات في نهم وأرحب والحيمة بتصدي القبائل لقوات من الحرس الجمهوري كانت تهم بالانتقال إلى المدن لقمع المحتجين في الساحات. ولن يصمد هذا التبرير في مواجهة نقاش مبدئي إذ كان بيد صالح ما يكفي من قوات الأمن المركزي ومكافحة الشغب والأمن العام إلى جانب قوات الحرس الجمهوري المتمركزة في معسكرها المركزي بحزيز، والقوات الخاصة المعسكرة في عصر.

وقبل ذلك، كانت سلمية الثورة قد فوتت على صالح استخدام القوة، فهي ليست تمرداً مسلحاً يعطي نظامه حق إخماده ولا هي انقلاب حتى يسحقه بمقتضى الدستور.

 يبدو أن فكرة تصفية صالح اختمرت لدى آل الأحمر ومحسن، إثر محاولاته التخلص منهم بقصف ديوان الحمر خلال اجتماعهم مع وسطاء هو من أرسلهم، ثم إطلاق النار تجاه محسن في مقر الفرقة الأولى من مسلحين تخللوا لجنة وساطة أرسلها هو أيضا.

وعلى هامش الثورة، ابتدأ سباق الموت بين الطرفين، وكاد آل الأحمر يحسمونه بضربة الثالث من يونيو الملأى بالأسئلة المفتوحة حول اختراق منظومة الأمن الرئاسي وتفخيخ مسجد الدار الرئاسية بمتفجرات ألقت صالح ومعاونيه تحت النار والشظايا والأنقاض.

ومثل مواجهات ريف صنعاء، كان هجوم المسجد الرئاسي قراراً خارج إرادة الثورة وعلمها، بصرف النظر عن أنه تطور في مجراها العام.

دائماً ما ولد إحساس آل الأحمر بتفوق مكانتهم الاجتماعية على صالح اعتقاداً لديهم بأنهم هم المتفضلون عليه بتثبيته على كرسي الحكم ابتداءً، وأن الامتيازات المخصوصة لهم ما هي إلا حق لهم يجب دفعه وفق القسمة القديمة.

لذلك سنراهم أشد حدة على صالح منذ بدأ يخل بميزان الامتيازات، ووجهوا له رسائل إنذار عدة، فبينما أسس حسين الأحمر مجلس التضامن الوطني في 2008 لتأطير كل المشايخ القبليين في قوة سياسية، رعى حميد “لجنة التشاور الوطني” في 2009 مظلةً لأطياف السياسة المعارضة وخلصت مداولاتها إلى صياغة وثيقة للإنقاذ الوطني.

لم يذعن صالح للتحذيرات الحمراء، فألقوا كل ثقلهم القبلي والمالي والسياسي في فبراير قبل أن يلجئوا إلى الكي بالنار.

ولا تتكلف عناء، معرفة أن هدفهم الأساس في 2011 كان تجريد صالح من السلطة بأي ثمن، وبعدما غدرهم بهجوم مايو الذي كاد يقضي عليهم، صار رأسه هو المطلوب وليحل الطوفان.

خلال الفترة الانتقالية، انغمس حميد في استرداد كل ريال أنفقه في الثورة، مع الفوائد. ولن يلاقي صعوبة بعدما وضع تحالفه على رأس الحكومة شخصاً مطواعاً للغاية.

وإذ راح يسابق الزمن في إتمام ما بدأه، وضع صالح يده في يد حفار القبور الذي سيحفر قبور الثورة وآل الأحمر وسائر عناوين المرحلة، قبل أن يلقي صالح في قبر بلا شاهدة.

 

•الحوثيون

لم يمثل الحوثيون قوة فاعلة في ساحات الثورة باستثناء صعدة التي احتكروا فيها حشد المحتجين بأعداد كبيرة، فيما اكتفوا بخيمة واحدة باسم شباب الصمود في ساحات أخرى.

وإيرادهم ضمن القوى المؤثرة في الثورة راجع إلى الطريقة التي أفادوا بها من فبراير. ورغم أنها طريقة لصوصية أضيف إليها الجحود تالياً إلا أنها تحوي درساً للطيف السياسي الذي عول على المجتمع الدولي نقل السلطة إلى حوزته حتى آخر خطوة.

أفاد الحوثيون من تداعي معسكر الثورة خلال الفترة الانتقالية من جهة وتطلع صالح للثأر من جهة ثانية، واستثمروا فيهما بوضاعة أكثر المرابين جشعاً ولؤما.

في صعدة، حيث معقل الحوثية ومسرح القتال بين مسلحيها وقوات الجيش من 2004 إلى 2010 وبينما الحركة تبسط نفوذها باطراد على مديريات المحافظة الحدودية، انشق النظام.

وفي الانشقاق: هذا المنعطف الذي استقبلته الساحات باحتفالات صاخبة، اشتمت الحوثية فرصتها فأرغمت من تبقى من المسؤولين الحكوميين على مغادرة صعدة وأحكمت سيطرتها عليها. وستكون هذه الخطوة تحديداً بمنزلة وضع أول عجلة لقطار الثورة المضادة على محطة الانطلاق.

لم تكد الحوثية تهضم ما ابتلعته حتى انطلقت إلى الجوف حيث ستخوض قتالاً مريراً مع مسلحي الإصلاح للسيطرة على معسكر للواء المشاة 115. وخلال ثلاث سنوات نوعت وتيرة معاركها التي وسعتها إلى حجة وعمران بين الاحتدام والتهدئة.

ولم يحل خريف 2014 إلا وقد أخضعت العاصمة صنعاء بعدما كانت سيطرت على ما في شمالها حتى صعدة وهجرت آل الأحمر من مركز مشيختهم في خمر، فضلاً عن تهجيرها سلفيي دماج.

صب إخضاع العاصمة في أصيل 21 سبتمبر 2014 أمرّ كأس في حلقوم الوطنية اليمنية طوال تاريخها.

وتقلب رعيلها وأجيال مناضليها غضباً في لحودهم، أما الأحياء فغشيهم ذهول وانكسار عدا المعنيين المباشرين الذين منعتهم حالة الإنكار من استنباط أن هذا الزلزال نتاج الانتهازية السياسية والتهافت على قطف الثمار قبل نضوجها.

وصبيحة اليوم التالي يظهر صالح مبتسماً لأول مرة منذ عزله، وتكفلت ابتسامته الطافحة بالشماتة لتقول ما يلمح إليه عن شراكته في تدبير هذا الانتقام الذي لن يوفر شيئاً مما حققته نضالات الحركة الوطنية خلال نصف قرن.

لكن بينما هو يبتسم لمصوره، كان كائن خفي هو مكر التاريخ يبادله ابتسامة مشبوبة بالمكر.

 فتح سقوط صنعاء الباب واسعاً للدخول في غيهب طويل، ستسفح الحوثية تحت ظلمته نهراً من الدماء وتهد أعمدة الدولة وأواصر المجتمع وبنيان المدن، إضافة إلى ارتدادها بالتقويم الزمني اليمني إلى ماض سحيق.

ورغم سماكة الأصباغ التي يخفي بها النخاسون الإقليميون بشاعة الحوثية لدى تسويقها للعالم، يزداد جوهرها انكشافاً وعودة إلى حقيقة أنه ارتجاع تقيأته أشد العصور السالفة انحطاطا.

 

•المنظمات المدنية

في ظل سيادة غرام دولي بدعم نشاط المنظمات غير الحكومية ترجمةً لاستراتيجية النيوليبرالية بوضع مزيد من سلطة القرار في يد المنظمات، لن تجد المنظمات ورؤساؤها فرصة أثمن من فبراير لعرض أوراق قوتهم أمام الداخل والخارج.

برز خالد الآنسي وتوكل كرمان أكثر وجهين تمثيلاً للمنظمات المدنية داخل الثورة. وللدقة، أكثر مرغوبين عند إدارة المنصة في ساحة التغيير.

وغالباً ما أعطى اهتياجهما على المنصة وأوامرهما لصالح بتسليم نفسه للمحاكمة ثم إعلانهما مجلساً انتقالياً كوميدياً، لمحة مكثفة عن مواهب النشاط المدني في التشبيك واستدرار الدعم واصطياد الجوائز، مقابل تفاهة مردوده في الثورة والسياسة.

ذلك أن ثورات من تلك التي يخلع عليها الإعلام الغربي أوصافاً ناعمة كالثورة البرتقالية تجد المنظمات المدنية فرصة كاملة للتبختر بين صفوفها بحلل الطواويس واستعراض شبكة علاقاتها الخارجية.

أما ثورات خارجة من مفهوم الثورة الكلاسيكي وغير منزوعة الصاعق فيفقد فيها نشاط المنظمات حيلته، ويتنحى جانباً لرصد أعداد الضحايا وترديد عظة اللاعنف، فيما تتساقط منه حلة الطاووس نتفة نتفة.

 لمنظمات المجتمع المدني ونشطائها، خصوصاً الحقوقية، إسهامات فاعلة في فبراير وتوثيق حالات القمع والانتهاكات النظامية بحق آلاف المحتجين، وتبليغها دوليا.

لكن في الموقف النظري من المدى الذي يجب أن تبلغه الثورة والسلطات القديمة التي ينبغي لها تحطيمها، يرتد المنظماتي الذي اشترك في الثورة بفعالية إلى أنقى خصائصه ومنها السهر على حرمة الانتخابات وتجريم المس بنتائجها المعمرة الهرمة وذلك لا بوصفها آلية وصول للسلطة بل كموضوع مركزي ناظم لعلاقة منظمته بالمنظمات المانحة.

في هذا الإطار وعلى سبيل المثال، احتد نشطاء ضد مقترح للحزب الاشتراكي اليمني في 2013 باختيار جمعية وطنية من قوام مؤتمر الحوار عوضاً عن مجلسي النواب والشورى خلال المدة الانتقالية.

ورأى الغاضبون يومذاك في المقترح اعتداء على الإرادة الشعبية.

هكذا تتوهج في عين المنظماتي إرادة الشعب غضة ديمقراطية ما دامت إبهامها مغمسة بحبر الانتخابات المزكاة من المنظمات الخارجية قبل عشرة أعوام، لكن يرين على بصيرته حجاب سميك فتعمى عن رؤية إرادة الشعب التي برزت إلى الساحات قبل عامين بقوة طوفان وغمست جبينها بالدم.

من سخرية التاريخ، أعلنت الثورة المضادة بعد عام ونصف من ذلك الجدل حل البرلمان ذاته، تتويجاً لانقلابها الفاشي، مع فارق أن أولئك المحتدين قبل أشهر عموا هذه المرة عن رؤية الإرادة الشعبية متجسدة في هذا المنحل وفقدوا القدرة على الاحتداد، فضلاً عن الكلام.

وبمقتضى اتفاق شراكة بين الحوثية وعلي صالح في 2016 أعيد إحياء البرلمان فيما كان المحتدون قديماً ما يزالون فاقدي القدرة على الاحتداد والكلام. وأضافوا هذه المرة، الاحترام إلى قائمة ما فقدوه.

 

•الشباب

يجب استحضار مسألة أخلاقية وموضوعية لدى طرق الدور الشبابي في فبراير، وهي وجوب التفريق بين صنفين من الشبان:

الأول، ضحايا الثورة وطلائعها الذين واجهوا بصدورهم العزلاء عصابات الشوارع المسلحة، ونال معظمهم مستويات مختلفة من الأذى الجسدي واللفظي.

في عمق الأرض التي ساح دمهم عليها، غفا حلم كبير خلقته أشواق الذين هجسوا بالثورة دون أن يدركوها، ولما اكتسب الحلم واقعيته وثب بكامل جموحه وبأسه، وقد تصور بملامح أولاء الطلائع وحلّ في قاماتهم.

ولتشهد الشرفات كيف تحول كل شارع جابوه إلى مضمار طراد، تعدو فيه عصابات مدججة بالسلاح خلف عزل إلا من هتاف له رهبة الشبح في قلب الديكتاتور المذعور.

 كانت الصيحات الطالعة من حناجرهم قرعاً مدوياً على أبواب المستقبل الموصدة في وجه شعبهم وإيقاظاً عنيفاً للإرادات الغاطة في بياتها.

عبروا لمحاً كشهب وهاجة، يقتحمون متاريس القتلة بقبضات عارية ويشنقون على الحواجز الأمنية آخر ذرة خوف في نفوسهم، مباهين أساطير الملاحم القديمة بفروسية القرن الحادي والعشرين.

والثاني، شبان نصفهم ممن شهدوا البدايات بحماس وتقدموا الصفوف، لكن ولأسباب عدة من بينها تطور الحس الانتهازي اعترت مواقفهم تقلبات؛ فتارة يؤجرون أصواتهم للجنة الأمنية وطوراً ينفعلون كثوريين أقحاح، وانتهى المطاف بغالبيتهم بعد الانقلاب إلى الاستسلام لنزعات منغلقة وانعزالية أو العودة إلى حظيرة من ثاروا عليهم.

والنصف الآخر ظهروا فجأة داخل الساحات ككتيبة هبط أفرادها بالمظلات وعلى ظهورهم لوازم إنشاء منصات، وكان ذلك إيذاناً بانخراط المشترك رسمياً في الثورة.

وبوضع أدائهم في الميزان، سيتجاوز الدقة قول إن الثورة عنت لهم أشياء أخرى غير ما أنها دورة تدريبية في النفاق السياسي ومسرحة المواقف المملاة عليهم بإتقان على قنوات التلفزة.

فبعيداً عن الرأي العام، يدافعون بشراسة عن أسوأ الممارسات البوليسية داخل الساحات مبرهنين على أنهم إما من سدنة المنصة أو زبانية في اللجنة الأمنية، وحين يطلون على شاشات التلفزة يستعيرون آلية القطط الدفاعية فيضخمون أحجامهم وينغمون أصواتهم على إيقاع خطابة ثورية بمزاعم شتى من قبيل أن الثورة تسير وراءهم وأن أي اتفاق سياسي حولها لا يعنيهم.

وواظبوا على ترديد ذلك بانسجام تام لم ينشزه إدراكهم لكونهم وجوهاً احتياطية للفاعلين الأساسيين، يؤدون دور إذكاء الثورة على قنوات التلفزة وخنقها في الواقع.

اليوم ومن أبراج يرفلون في رفاهيتها متنعمين بثمن ذلك الدور المتواطئ، يطل هؤلاء على قطعة ظلام شاسعة هي وطنهم الذي وزعوا وعوداً فائضة بغسل أحزانه.

ولن يجرؤوا وهم الذين عاشوا دوراً ازدواجياً يورث الانفصام على الإقرار باشتراكهم في كبح تصاعد الثورة ليسهل قيادها. ولشدة كبحها.. دجنت، متيحةً للفاشية صعوداً مريحا.

 

……..

(1) هيرمس: أحد الآلهة الاثني عشر في الميثولوجيا الإغريقية، وهوحامي ساحات الرياضيين اليونانيين وحارس قوافل التجارة والقطعان من اللصوص.

 

(2) نص مشورة ليون تروتسكي لوفد من بحارة اورور زاره إلى سجنه في أغسطس 1917 لطلب مشورته في احتلال قصر الشتاء أم الدفاع عنه ضد قائد الجيش الإمبراطوري الجنرال كورنيلوف الذي عزم الانقلاب على حكومة فبراير برئاسة كيرنيسكي وسحق تحضيرات البلاشفة للثورة. ليون تروتسكي: تاريخ الثورة الروسية، الجزء الثاني، ترجمة أكرم ديري والهيثم الأيوبي، الدار العربية للنشر والدراسات.

(3) نسبة إلى نهر الجانغ الهندي الذي يقدسه أفراد الطائفة الهندوسية، ويحج إليه الملايين سنوياً لاعتقادهم أن مياهه تغسل خطاياهم.

 

*خالد عبدالهادي

صحفي، محرر تقارير سياسية ومقالات رأي في صحيفة الثوري وصحف ومواقع أخرى.

-لقراءة النص الاصلي للمقالة 

https://almadaniyamag.com/ar/2022/02/16/%D8%AC%D8%B0%D9%88%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B6%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%81%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D9%8A%D8%B1-2-3/

-لقراءة الجزء الاول من القراءة النقدية 

https://yemenfuture.net/researches/6870


التعليقات