دمشق: صحفيون بأسماء مستعارة
يمن فيوتشر - رصيف22-مستعار الشاطر: الأحد, 16 يناير, 2022 - 01:30 مساءً
دمشق: صحفيون بأسماء مستعارة

[ رصيف22 ]

في بداية مشواري الصحافي، كنت مستعدّاً للقتال بشراسةٍ من أجل تزييل اسمي أسفل المادة الصحافية، أو أعلاها؛ لعلّي أكسب نصيباً من الشهرة الزائفة، كمكافأةٍ على عملٍ أدّيته بأمانةٍ ومهنية، لكن عندما تعرّضت للتوقيف من قِبل أحد القطاعات الأمنية في دمشق، أدركت للمرة الأولى أن استخدام اسمٍ مستعارٍ لإخفاء اسمي الحقيقي، ليس عيباً، أو انتقاصاً من ذاتي؛ بل هو عين العقل، أو أقصى ما يصل إليه الإنسان من حكمةٍ، في بلادٍ تقف على كفّ عفريت متقلّب المزاج. إنها القراءة العميقة للأوضاع السياسية والاجتماعية، أو لنقل اللعبة الخطيرة التي علينا أن نتقنها بأسرع وقتٍ، قبل أن نخرج منها مهزومين، أو نخسر فيها أحد أعضائنا الحيوية على الأقل.
كانت الزيارات الخاطفة غير المرحّب بها للأجهزة الأمنية والشرطية إلى المؤسسة الصحافية، واعتقالها زملاء وزميلات، من دون أيّ سببٍ، وبغرض الترهيب، دافعاً متجدداً كي أختار اسماً صحافياً غير اسمي، يحمل روحي، أو شيئاً من ذاكرتي، ولا يحمل إطلاقاً ما يدلّ على شخصيتي الفيزيائية.
ذات مرةٍ، أخبرت أستاذي في المهنة، بأن بعض الموضوعات الخطيرة، يصعب تناولها من دون أن تتعرّض حياتي للخطر، خاصةً إذا نُشرت في مؤسسات صحافية خارجية، ومعارضة للنظام السياسي، فردّ بحدّةٍ زائدة: إذاً، الجأ إلى اسمٍ مستعار، فأجبته بجوابٍ التقطته من إحدى الورشات الصحافية حول الأمر: لكنني سأخسر اسمي، وشخصيتي المهنية.
نشرت وسائل إعلام عربية تحقيقاتٍ استقصائيةً مهمةً مؤخراً، تكشف قصصاً من أساطير الفساد الملحمية عن تجارة المخدرات المزدهرة، وعن التهرّب الضريبي لمسؤولين كبار في بلادٍ يغرق سكّانها تحت خط الفقر... لكن صورة معدِّ التحقيق لم تظهر، وتحت اسم الصحافي، دُوِّنَت العبارة الآتية: "اسم مستعار". في الحقيقة، لا يمكن لهذه القصص أن تظهر إلى العلن، لولا أن صحافيين نشروها بأسماء مستعارة، مضحّين بأبسط حقوقهم.
لسنا أشباحاً كما يظنّ بعض القرّاء. نحن كائنات بشريّة حيّة تتنفّس الأوكسجين، وتشرب الماء، وتتناول الطعام. كائنات عاقلة تفكّر، وتمتلك أحاسيس ومشاعر متنوعة. نحن أحياء في العالم الواقعي، نأخذ حيّزاً من المكان، ونملك بطاقاتٍ شخصيةً تعريفيةً عليها اسمنا الأوّل، وكنيتنا، واسم الوالد، واسم الأمّ، ومحل الولادة، وتاريخها، ولون العينين، والوجه، والعلامات الفارقة إن وُجِدت. بطاقة برقمٍ وطنيٍّ مميّز عن بطاقات الآخرين في البلاد.
نمارس أعمالنا اليومية الروتينية؛ نحتسي القهوة، ونشاهد التلفاز والأفلام، ونقرأ الكتب والروايات، ونتسوق ونشتري حاجيات منازلنا، ونحضّر الطعام، ونطبخ أحياناً، أو نشتري الوجبات السريعة، وننظّف المنزل، ونغسل الأواني والملابس. أما ما ننشره من تقارير ومقالات صحافية، فهو تعبير عن ذواتنا المسحوقة، وعن رغبتنا المهنية القصوى في نقل الحقيقة، والكشف عن الفساد المالي والإداري والأخلاقي، ونلجأ إلى الأسماء المستعارة لأنها تخفي هويّاتنا عن أعين أجهزة المخابرات في بلادنا، ونشعر بأنها تحمينا من بطش السجّان، وسوط الجلاّد. إنها وسيلتنا الدفاعية كي لا تلمس المقصلة رقابنا، وكي لا يلتفّ حبل المشنقة حولها. هل ذكرت كلمة "رقبة"؟! حقاً إن هذه الكلمة مرعبة، اقشعرّ لها بدني، وارتعشت يداي، وأنا أكتب المقال.
علينا أن نحتمي خلف أسماء مستعارة، لأنها أشبه بدرعٍ واقٍ، ربما يمنع عنا رصاصة قنّاص مختبئٍ وراء نافذةٍ، في بناءٍ مرتفعٍ يطلّ على الشارع الرئيس، حيث أمرّ عادةً. على الأقل، يخفّض الاسم المستعار هواجس الرعب التي تسكن مخيّلتي من سيارةٍ مسرعةٍ في داخلها ملثّم يحمل مسدساً كاتماً للصوت، وفي جعبته هاتف لا سلكي متّصل بغرفة عمليات في مكان ما، في العاصمة.
نختفي خلف أسماء مستعارة، لأننا متيّقنون بأن التهم جاهزة، والمحاكمات الصورية جاهزة أيضاً، والزنازين الفردية التي حوّلتها الجرذان والفئران منذ عقودٍ، إلى ملاذاتٍ آمنة معدّة مسبقاً؛ زنازين لا تصلها أشعة الشمس الساطعة، ومملوءة برائحة البول والعرق، وخلايا الجلد البشري المتعفّن. ولا أدري إذا كانت الأكفان ذات الأقمشة الرديئة جاهزةً أيضاً.
هل علينا أن نكتب أسماءنا الحقيقية، كما تقتضي الأعراف المهنية والبطولة؟ لكن مهلاً، ماذا عن أمّي المسنّة التي تنتظر عودتي بعد كل يوم عمل؟ من سيعتني بها خلال فترة غيابي؟ من يضمن ألا ينفطر قلبها على ولدها، عندما يُسجن، أو يُعتقل، أو ربما يغتاله أحد الجبناء من أجل موضوع صحافي مؤلفٍ من ألف كلمة، أو أقل؟ إذاً، علينا أن نفكّر جدياً في أن رمي النفس إلى التهلكة، لن تقابله مكافأة نهاية الخدمة المجزية، ولا حتى من الوسيلة الإعلامية التي نكتب لها. وربما لن تلتفت المنظّمات الحقوقية إلى صراخك أو ألمك، ولن يضمّد أي طبيب جراحك النازفة، كما لن يتكفّل أيّ معالجٍ نفسي باستقبالك لعامٍ واحدٍ مجاناً، بعد الخروج من الاعتقال التعسفي، لأنه ببساطة كثيراً ما يختفي صحافيون لأسابيع أو أشهر، من دون سابق إنذارٍ، وكأنّ ثقباً أسود ابتلعهم، أو نفّذوا تحت تهديد السلاح إلى عالمٍ مواز. ربما لن يعلم أيّ شخصٍ في هذه المعمورة بما حدث، ونحن نعيش في بلادٍ شبه منعزلة، تحكمها شريعة الغاب، وظروف الحرب الطارئة، ومزاجيات أثرياء الحرب، ومحدَثي النعمة، لا القوانين، ولا النواميس، ولا الأخلاق.
تُرى هل سينقص شيء إذ قُتل صحافي؟ في الحقيقة لن يتغيّر الكثير، سيضيفون رقماً جديداً فحسب، إلى مئات آلاف القتلى الذين قضوا في الحرب العبثية. وربما تُعنى منظمة دولية ما بتدوين اسم الصحافي بجوار عشرات الزملاء والزميلات الذين سقطوا في البلاد، طوال مدّة الحرب. هل يمكن أن يحدث أسوأ من ذلك؟ نعم، ستختلف المؤسسات الصحافية السورية في تصنيف هذا الصحافي المغدور، وهل هو مؤيد أم معارض للنظام؟ وهل هو إسلامي، أم علماني؟ وهل هو اشتراكي، أم رأسمالي؟ باختصارٍ، معنا أو ضدنا؟
إنّ أقصى ما أحلم به الآن، هو أن أعيش في بلادٍ لا تُعدّ فيها الصحافة جريمةً، ولا الصحافيون مجرمين، وأن أغمض عينيّ بعد نشر مادة صحافية مهمة، من دون أن أشعر بالخوف، ولو لمرةٍ واحدةٍ في حياتي. وحتى يتحقق هذا الحلم، لن نكون إلا صحافيين خلف أسماء مستعارة.


التعليقات