اليمن: من زمن الأمل الى زمن المطاردة.. قصة طبيبة تركت صنعاء تحت تهديد الفتاوى والاختطافات
يمن فيوتشر - خاص الأحد, 14 ديسمبر, 2025 - 06:08 مساءً
اليمن: من زمن الأمل الى زمن المطاردة.. قصة طبيبة تركت صنعاء تحت تهديد الفتاوى والاختطافات

[ مستشفى الثورة بصنعاء ]

قبل أعوام قليلة، كانت الدكتورة سمر عبد الحافظ (37 عامًا) تحلم بزمن أفضل من زمن الطبيبة الفرنسية كلودي فايان (1912-2002) التي كتبت مذكراتها الشهيرة "كنت طبيبة في اليمن" عن بلد مفتوح أمام الطب والمعرفة والإنسان.
دخلت سمر عالم العمل الإنساني وهي تعتقد أنها ستعيش نسخة أكثر عدالة من ذلك الزمن. اكتشفت لاحقًا أن البلد انزلق إلى زمن آخر تمامًا، زمن تقوده فتاوى مجهولة الاسم، ورسائل واتس آب تحريضية، وقرارات سلطوية تجرّم اللقاحات وتنظيم الأسرة، وتحول الطبيبات والعاملات في المنظمات إلى متهمات جاهزات للاحتقار والابتزاز.

في نهاية هذه الرحلة القاسية، غادرت سمر صنعاء مع ابنتيها على عجل، بعد عشر سنوات من الصمود في العاصمة زمن الحرب. تركت وراءها برنامج العيادات المتنقلة الذي كان يحمل الأمل إلى القرى النائية، وبرامج تحصين الأطفال، ومسارات تدريب للكادر الصحي انتقل محتواها من لغة العلم إلى معجم الشبهة والرقابة والمنع.

هنا شهادة إنسانية ممهورة باسمها، يفتح سردها سؤالًا مؤلمًا لرفيقتها الفرنسية من بعيد: "أي الزمنين كان أشد قسوة، كلودي، زمنك أم زمننا؟"

 

*من حلم الطب الإنساني إلى سياسة تجويف المجتمع*

بدأت قصة سمر مع منظمة إنسانية طبية تعمل في المناطق البعيدة عن المستشفيات. كانت، كما تقول، "مليئة بالسعادة والحماس" وهي ترى ما تعلمته في قاعات الدراسة يتحول إلى رسائل صحية بسيطة عن رعاية الحوامل وحديثي الولادة وتنظيم الأسرة، تعتمد على بروتوكولات دولية وأخرى صادرة عن وزارة الصحة الخاضعة لسلطة الأمر الواقع.

في البداية، بدت العراقيل مفهومة نسبيًا؛ معاملات ثقيلة، تصاريح بطيئة، اشتراطات إدارية من سلطات صنعاء. ظنت الطبيبة الشابة أنها خلافات شخصية بين مسؤولين وجهات أخرى. منذ 2017 تقريبًا، تبيّن أن كل ذلك كان نواة سياسة ممنهجة لا سوء تنسيق.

تقول سمر إن العراقيل تحولت إلى "منهجية منظمة تستهدف تطويع المنظمات لتقديم الدعم فقط للمقربين من سلطة الأمر الواقع وإبعاده عن بقية المجتمع". والهدف العميق لهذه السياسة، كما تصفه، كان إفقار الناس وتعميق حاجتهم، تمهيدًا للسيطرة عليهم عبر بوابة المساعدات وتوزيع الاستحقاقات.

مع مرور الوقت، بات واضحًا أن المطلوب ليس تنظيم العمل الإنساني، وإنما تجويف دوره. ما كان يفترض أن يكون "حارسًا إنسانيًا" يراقب الوضع المعيشي والصحي، جرى تدجينه، ثم التضييق عليه، ثم دفعه إلى مغادرة الساحة في كثير من المناطق.

 

 

*وزارة صحة تحت وصاية الفتوى*

داخل صنعاء، لم تعد وزارة الصحة، غير المعترف بها، مؤسسة فنية تحتكم إلى أهل الاختصاص، كما تروي سمر. تحولت تدريجيًا إلى كيان مُدار من رجال دين وسياسيين نافذين "لا يفقهون شيئًا في الطب ويعتمدون في قراراتهم على آرائهم الشخصية والدينية بدلًا من الأسس العلمية."

النتيجة المباشرة كانت قرارات تحظر وسائل تنظيم الأسرة وتستهدف برامج الصحة الإنجابية، وصولًا إلى تحريم لقاحات أساسية مثل لقاح شلل الأطفال في مناطق واسعة، بناء على فتاوى منسوبة إلى دعاة دينيين. اختفت لغة المؤشرات والأدلة، وحلت مكانها عبارات عن "مؤامرة لإعقام الأطفال" و"مشاريع غربية لنشر الرذيلة" عبر حبوب منع الحمل ووسائل تنظيم الأسرة.

تستعيد سمر مفارقة الأرقام والفتاوى معًا. عام 1992 كان معدل وفيات الأطفال 122 وفاة لكل 1000 مولود حي في اليمن. بفضل "برنامج التحصين الموسع" انخفض الرقم عام 2006 إلى 78.2 وفاة لكل 1000 مولود حي. هذا الانخفاض لم يشفع للعلم أمام الخطاب العقائدي الجديد. على مكتبها، طُلب منها أن تشطب بند دعم حافز اللقاحات من عقود المشاريع. تقول: "شعرت وكأنني ارتكب جريمة لست فاعلها، الغصة كانت تشد على حنجرتي وأنا أمسح بند اللقاحات للأطفال والأمهات الحوامل من أوراق يفترض أنها وجدت لحماية حياة الطفل والأم ."

منذ 2020 تصاعدت الحملة بشكل أوضح. سُوقت معلومات مضللة تزعم أن لقاحات الأطفال تسبب العقم وتضعف القدرة على الإنجاب. رُبطت هذه الادعاءات بخطاب ديني يقدم نفسه بوصفه حارس الهوية والعقيدة. إضفاء القداسة على الشائعات حول اللقاحات جعلها أقوى من النصائح الطبية في مخيلة قطاعات واسعة من الناس.

لم تمر سنوات طويلة حتى بدأت تقارير دولية ومنظمات صحية تتحدث عن عودة أمراض سبق أن اختفت تقريبًا، بينها شلل الأطفال والحصبة، مع التأكيد على أن أكثر من 80% من الأطفال المصابين بالحصبة لم يتلقوا اللقاح اللازم.

 

 

*استهداف النساء.. من اتهامات الرذيلة إلى قيود السفر*

لم تقتصر الهجمة على برامج التحصين والصحة الإنجابية، فانتقلت إلى النساء العاملات في المجال الإنساني نفسه. فجأة، وجدت سمر وزميلاتها أنفسهن في قلب حملات منظمة على منصات التواصل ورسائل الواتس آب.

وصلت إلى هاتف والدتها رسالة من خالها في محافظة جنوبية، يحثها على إقناع سمر بترك العمل مع إحدى المنظمات والعودة إلى المستشفى كما كانت سابقا. كتب أن بيئة العمل "لم تعد آمنة" للعاملات. ولم يكن هذا رأيًا فرديًا. بالتوازي، انتشرت رسائل أكبر نطاقًا تتهم المنظمات بنشر "الرذيلة" وتشجع المجتمع على مقاطعة الموظفات، وتربط بين حصولهن على رواتب بالدولار وبين "الخيانة للدين والوطن والشرف."

تصف سمر كيف صارت العاملات في المنظمات "الحلقة الأضعف" في مجتمع محافظ شمالًا وجنوبًا. وتراوحت الاتهامات بين وصفهن بالعاهرات والجواسيس و"خارج الأخلاق والدين". وهو خطاب لم يبق حبيس المنابر المتشددة أو منصات جماعة واحدة، ليجد صداه داخل كيانات اجتماعية متعددة، حتى في مناطق خارج سيطرة الحوثيين.

ثم ترجمت سلطة الأمر الواقع التابعة للمتمردين الحوثيين هذا المناخ إلى تعليمات ملزمة. مُنعت النساء العاملات في المنظمات من السفر بين المحافظات دون محرم. خلال التدريبات، فُصلت الكوادر الصحية الذكورية عن الإناث، رغم أنهم يعملون في المرفق نفسه. وتمت مراجعة محتوى الدورات أكثر من مرة، مع حظر كلمات "الصحة الإنجابية" و"حقوق المرأة" و"حقوق الطفل" و"الصحة الجنسية"، وصولًا إلى منع أي تدريب مرتبط بهذه المجالات في بعض المرافق.

في مرحلة لاحقة، فُرض قرار يمنع سفر النساء العاملات في المنظمات الإنسانية إلا بتصريح من السلطات. إلى جانب المنع، رافقتهن أوصاف أخرى: "جواسيس"، "نساء غير محترمات" و"كافرات". تحت هذا الغطاء، جرى اقتحام مقرات منظمات، واختطاف موظفين وموظفات، وإغلاق برامج، ما انعكس مباشرة على الفئات الأكثر هشاشة التي كانت تعتمد على تلك الخدمات الطبية والإغاثية.

 

 

*العيادات المتنقلة.. جسر الأمل الذي انقطع*

كانت العيادات المتنقلة واحدة من رموز العمل الإنساني الذي آمنت به سمر في بداياتها. مشاريع ممولة من جهات مانحة مختلفة، تجوب الشمال والجنوب للوصول إلى آلاف الأشخاص في قرى نائية ومناطق فقيرة. هناك، كانت الأدوية الأساسية لعلاج الأمراض المزمنة تتوفر عبر هذه العيادات في بلد تعاني كثير من مناطقه من غياب البنية الصحية والإمكانيات العلاجية.

تصف سمر تلك العيادات بأنها "جسر أمل" للنساء الحوامل اللاتي يجدن في زيارتها فرصة نادرة للحصول على متابعة الحمل وخدمات الصحة الإنجابية، وللأطفال الذين يحتاجون إلى لقاح أو دواء أساسي، ولمن يعاني من اضطرابات نفسية مزمنة يعيش أصحابها على هامش الزمن ولا يلتفت إليهم أحد.

مع تشديد القيود ومنع التصاريح وعرقلة برامج تنظيم الأسرة والتحصين، تآكل هذا الجسر. تقول سمر "كل ذلك انتهى الآن وصار من الماضي". لا تتحدث هنا عن برنامج إداري جرى استبداله، وإنما عن مساحات كاملة من الحق في الصحة اختفت من حياة الناس، وتركت خلفها فراغًا صحيًا وإنسانيًا كبيرًا.

 

 

*بين فتاوى الإنجاب وسجون النساء*

تشرح سمر المنطق الذي ساد خلف الكواليس. لم يكن منع تنظيم الأسرة مجرد اجتهاد ديني معزول، وإنما جزء من رؤية أوسع ترى في زيادة عدد الأطفال في ظل ظروف الحرب "مخزون قوة بشرية" يمكن استخدامها في الصراع مستقبلًا. وترافق الحديث عن "عدوان عسكري خارجي" مع خطاب يحث على تكثير النسل وتقديمه كفعل مقاومة، مقابل تصوير برامج الصحة الإنجابية بوصفها هجومًا غربيًا على المجتمع اليمني وانحرافًا عن "المسار الديني".

في هذا السياق، يصبح التحكم في جسد المرأة وقرارات الأسرة الصحية نقطة ارتكاز للسلطة. من يسيطر على قوت المجتمع، كما تقول سمر، يسيطر أيضًا على تركيبته السكانية، وعلى قيمه وحدود الأخلاق المسموح بها، وعلى شكل المستقبل نفسه. ويتحول الأفراد إلى أدوات داخل لعبة أكبر، حيث تبقى حياتهم الشخصية وصحتهم أسيرة أجندات سياسية وعقائدية مغلقة.

بالنسبة لسمر، لم تعد القصة نظرية حين وصلتها التهديدات مباشرة. قيل لها بوضوح إن الاستمرار في مشاريع الصحة الإنجابية والصحة الجنسية وتنظيم الأسرة يعني انتظار زنزانة مظلمة. في مجتمع يعتبر المرأة التي تدخل السجن "فقدت هويتها"، كان هذا التهديد أكثر من كافٍ كي يجعل كل دقة على باب شقتها شبيهة بحكم إعدام يقترب.

 

 

*ساعات الوداع الأخيرة من مدينة صمدت فيها عشر سنوات*

تروي سمر إن قرار المغادرة لم يكن لحظة رومانسية تحمل حقائب ودموع مطار فحسب. هو قرار وُلد من تراكم الخوف وتسارع الاعتقالات وإغلاق المنظمات. رأت أن المسار يتجه إلى قمع ممنهج لا يترك مساحة للالتفاف أو المراوغة. شعرت أنها محاصرة بين احتمالين قاسين: التوقف عن العمل في المجال الذي منحته حياتها، أو البقاء في مواجهة خطر الاعتقال والمصير المجهول لها ولابنتيها.

"لم أتخيل أبدًا أن وداعي لصنعاء سيكون بهذه البساطة "القاسية" تقول. مدينة احتضنت صبرها وعملها عشر سنوات في ظل الحرب، تحولت في شهورها الأخيرة إلى مرادف للخوف وكوابيس الليل. الساعات الأخيرة قبل المغادرة كانت، كما تصفها، "ثقيلة كجبل". كانت تمشي بعينيها على زوايا منزلها كمن يودع أجزاءً من روحه، وتنتظر في كل لحظة خبرًا سيئًا أو طرقًا عنيفًا على الباب.

ثم جاء الخروج. لم يكن تدوينًا بطوليًا لبطلة تلوح بيدها في مطار مفتوح، لكنه ممر ضيق تشكل من صدفة وسلسلة من الأشخاص الذين سهلوا لها مغادرة المدينة مع أسرتها. تقول: "لم أرد مغادرة صنعاء أبدًا. غادرتها حين أجبرت على المغادرة، حين فقدت إحساس الأمان وتوقفت كل المشاريع التي عملت عليها لسنوات."

 

 

*بين زمنين وسؤال واحد مفتوح*

في حالات كثيرة، تروى قصص العاملين في المنظمات الإنسانية عبر بيانات رسمية أو تقارير تقنية. شهادة سمر عبد الحافظ تعيد هذه القصص إلى مكانها الطبيعي: حكاية امرأة حاولت أن تمارس الطب في واحد من أكثر سياقات العالم هشاشة، واكتشفت أن معركتها ليست فقط مع الفقر والمرض، وإنما مع سلطة طارئة تسعى إلى تفكيك المجتمع واختطاف جسده وروحه معًا.

تكتب سمر اليوم من زمن المنفى، متسائلة بصوت مرتجف يختلط فيه الحنين بالمرارة: "أيتها الفرنسية فايان، كنتِ طبيبة في اليمن (منتصف القرن العشرين) زمن مرحلة تتشكل ومجتمع يتوق للتحرر، ولاحقًا زمن انطلاق الجمهورية ستينيات القرن الماضي. أنا كنت طبيبة في المنظمات الإنسانية زمن جماعات مسلحة تتحكم بوزارة الصحة والفتوى واللقاح وجسد المرأة... فأي الزمنين كان أكثر قسوة، كلودي؟"

سؤال لم يعد ممكنًا طرحه على كلودي التي رحلت مستهل الألفية الجديدة عن 90 عامًا، لكنه مطروح على مجتمع دولي يشاهد انهيار الطب والحق في الصحة تحت سطوة البنادق والفتاوى، وعلى يمنيين ويمنيات اضطروا إلى مغادرة مدنهم كي ينجوا بأنفسهم من بلد كان يفترض أن يحمي حياتهم.
الطبيبة سمر، وهي تحمل شهادة البورد من المجلس العربي للتخصصات الطبية، والتي حلمت أن تكون شريكة في نشر الوعي الصحي "بطرق سلسة حتى في المناطق النائية"، تجد نفسها اليوم شاهدة على زمن قررت فيه سلطة انقلابية أن تلغي اللقاحات برمتها من العقود، وأن تنزع كلمات "حقوق المرأة" و"الصحة الإنجابية" من القواميس، لتسلم حياة جيل بأكمله لأمراض كان يمكن الوقاية منها. وتجسد شهادتها، بما يتجاوز مجرد حكاية شخصية، مرآة بلد يُدفع قسرًا إلى الخلف، فيما العالم ينظر إليه من بعيد تحت عنوان بارد اسمه "الأزمة اليمنية".


التعليقات