وافقت إسرائيل وحركة «حماس»، بوساطة أمريكية، على وقفٍ لإطلاق النار لإنهاء الحرب في غزة، وهو تطوّر يُعدّ خبراً سارّاً للفلسطينيين في القطاع، ويمنح الأمل بأن الحرب —التي أثارت إداناتٍ متزايدة من المجتمع الدولي— قد تقترب من نهايتها.
غير أن هذا الاتفاق يثير في الوقت ذاته تساؤلاتٍ مهمة حول المسار المستقبلي للصراعات الإقليمية، وبشكلٍ خاص ما يتعلق بالمتمرّدين الحوثيين في اليمن.
فالسؤال المطروح هو: كيف ستتعامل الجماعة المدعومة من إيران مع هذه الخطوة نحو السلام؟
هل ستفي بتصريحاتها المتكرّرة وتوقف أعمالها العدائية في البحر الأحمر وحربها الخاصة مع إسرائيل؟
الجواب الموجز هو: نعم، ولكن على الأرجح مؤقتاً فقط.
فقد استمر الحوثيون في مهاجمة إسرائيل حتى اللحظة التي تم فيها التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، ثم أوقفوا هجماتهم منذ ذلك الحين.
لكن الجماعة المسلحة تسعى إلى تصوير ذلك كـ«نصر»، متعهدةً بمواصلة تنفيذ مهمة «حماس» عسكرياً إذا ما قامت الأخيرة بنزع سلاحها، كما تنص عليه بنود اتفاق وقف النار.
ويستخدم الحوثيون هذا الالتزام دليلاً على ولائهم للقضية الفلسطينية، وهي قضية متجذّرة بعمق في فكرهم وأدبياتهم الإعلامية، بوصفهم قوةً رئيسية ضمن ما يُعرف بـ«محور المقاومة» الذي تقوده إيران.
وذلك رغم الفارق العسكري الهائل بينهم وبين إسرائيل، وهو فارق يدفع الشعب اليمني ثمنه الباهظ من استقراره ومعيشته نتيجة الردود الإسرائيلية العنيفة المحتملة.
وينظر الحوثيون إلى انخراطهم في الصراعات الإقليمية كوسيلة لترسيخ سلطتهم وتعزيز نفوذهم الإقليمي خارج حدود اليمن.
فقد أتاحت لهم هجماتهم على إسرائيل وأعمالهم العدائية في البحر الأحمر بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول فرصة لكسب التأييد في العالمين العربي والإسلامي، وبناء تحالفات مع فاعلين غير دوليين في منطقة القرن الإفريقي، إلى جانب حصولهم على دعمٍ وإشادة من جهات مختلفة حول العالم.
كما شكّلت تحركاتهم الإقليمية إحدى استراتيجياتهم لتعويض عجزهم الداخلي عن تقديم الخدمات، وللتغطية على ممارساتهم القمعية بحق اليمنيين.
وحتى لو أعلنوا النصر في حربهم ضد إسرائيل وقرروا وقف الأعمال العدائية مؤقتاً، يبقى من المشكوك فيه أن يتخلّوا عن المكاسب الإقليمية التي حققوها.
إذ يُرجَّح أن يسعوا إلى مواصلة ترسيخ موطئ قدمٍ سياسي وعسكري لهم في المنطقة.
ويبدو أن فترة “التهدئة” الحالية مؤقتة، فالحوثيون ميّالون إلى استئناف القتال متى ما وجدوا ذريعة مناسبة، في انتظار فرصةٍ جديدة تُمكّنهم من الحفاظ على حضورهم ونفوذهم الإقليمي.
الخيارات المحتملة لردّ الحوثيين على وقف إطلاق النار
هناك عدد من المسارات الاستراتيجية التي قد يفكّر الحوثيون في اتباعها للحفاظ على المكاسب التي حققوها بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
إحدى تلك الخيارات تتمثّل في العودة إلى الحرب الداخلية، لما تمثّله من وسيلة لتعزيز نفوذهم داخل اليمن، أو للضغط على السعودية ودول الخليج من أجل العودة إلى مسار السلام الذي ترعاه الرياض.
وقد شرع الحوثيون فعلاً في تحريك قواتهم على جبهاتٍ متعددة داخل اليمن، بعضها دفاعي تحسّباً لهجماتٍ محتملة من القوات الحكومية.
ومع ذلك، فإن العودة إلى الصراع المحلي قد تتيح لهم صياغة سردية سياسية وإنسانية تستثمر في غضب اليمنيين ومعاناتهم، خصوصاً مع انحسار حرب غزة.
إلا أن هذه المقامرة تنطوي على مخاطر كبيرة.
فنتائج الضربات الإسرائيلية، إلى جانب تصنيف الولايات المتحدة للحوثيين كمنظمة إرهابية أجنبية (FTO)، أدّت إلى استنزاف مواردهم وتمويلهم، وتسبّبت في خروج الشركات والمنظمات الإنسانية من المناطق الخاضعة لسيطرتهم بسبب المضايقات المستمرة.
وبالتالي، فإن اتباع هذا المسار قد يقوّض مكاسبهم الإقليمية ويؤدي إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية الهشّة أصلاً في مناطق سيطرتهم.
وتعاني موارد الحوثيين من إنهاكٍ شديد، وهم يسعون اليوم إلى سدّ هذه الفجوات التمويلية، ويبدو أن الخليج يشكّل خيارهم الأول لتحقيق ذلك.
فقبل هجمات حركة «حماس» في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 التي أشعلت حرب غزة، كانت هناك هدنة وشيكة بوساطة سعودية بين الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً والحوثيين.
وكان أحد البنود الأساسية في ذلك الاتفاق حزمةً اقتصادية تعهّدت بموجبها السعودية بتمويل رواتب الموظفين المدنيين والعسكريين في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين لمدة عامٍ كامل، إلى جانب مساهمات أخرى.
وكان من شأن ذلك أن يضخّ سيولةً ماليةً ضرورية في محافظاتهم، ويساهم في تخفيف الضغوط الاقتصادية المتفاقمة التي لا تزال الجماعة تواجهها حتى الآن.
ومع تجميد الحوثيين لذلك الاتفاق خلال حرب غزة، بات بإمكانهم الآن محاولة استعادة تلك المكاسب الاقتصادية المفقودة عبر وسائل الضغط والإكراه.
فمن خلال تهديد أمن البنية التحتية الاقتصادية لدول الجوار، تستطيع الجماعة ابتزاز دول الخليج ودفعها إلى إعادة فتح قنوات التفاوض.
وقد أثبت الحوثيون سابقاً قدرتهم على ذلك —عبر استهداف المنشآت النفطية والمطارات— وهي إجراءات نجحت بالفعل في إجبار السعودية على العودة إلى طاولة المفاوضات.
ومع ذلك، فإن إدراج الحوثيين مؤخراً على قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية يجعل احتمال إحياء مثل ذلك الاتفاق أقل واقعيةً من أي وقتٍ مضى.
كلا الخيارين يقدّمان قيمةً استراتيجية محدودة بالنسبة لداعمي الحوثيين الرئيسيين في إيران، إذ إن أهمية الجماعة بالنسبة لطهران تكمن في دورها كورقة ضغطٍ إقليمية، لا كقوةٍ سياسية محلية بحد ذاتها.
كما أن أيّ تصعيدٍ من هذا النوع قد يُرهق العلاقات الإقليمية الحساسة لإيران، ما يجعل هذا المسار أقلّ جاذبية لطهران في الوقت الراهن.
أما الخيار الثالث فيتمثّل في التصعيد الإقليمي مجدداً.
فالطابع العام للحوثيين يقوم على استغلال التوترات الإقليمية لتوسيع نفوذهم.
ومع سقوط نظام (بشار الأسد) في سوريا في ديسمبر/كانون الأول الماضي، والضربات الكبيرة التي استهدفت حزب الله في لبنان، أصبح الحوثيون أقوى فاعلٍ ضمن محور المقاومة، والحليف الأبرز لإيران في المنطقة.
وقد اعتمدت طهران لسنواتٍ طويلة على أساليب غير مباشرة لمواجهة خصومها، من خلال إثارة الفوضى دون الانخراط في حربٍ مباشرة.
ومع تصاعد الضغوط عليها، يُرجَّح أن تواصل إيران هذا النهج، مستغلةً الحوثيين كأداة استفزازٍ وضغطٍ ميداني لتخفيف الضغط عنها، ودفع أجندتها الإقليمية قُدماً.
أصبح دور الحوثيين ركناً أساسياً في الاستراتيجية الإقليمية الأوسع لإيران، التي توظّف حالة عدم الاستقرار كأداة ضغطٍ جيوسياسي.
ومع ذلك، يبقى المسار الذي قد تتخذه هذه الديناميات غير واضح المعالم حتى الآن.
ويبقى السؤال المطروح إذن: كيف ولماذا قد يعاود الحوثيون الانخراط في القتال؟
توجد بالفعل نقاط دخول واضحة تمكّن الحوثيين من استئناف الأعمال العدائية في البحر الأحمر أو ضد إسرائيل.
فهم يستطيعون اختلاق ذريعةٍ بسهولة —أو انتظار مبررٍ مشروع للحرب (casus belli)— لتصعيد الموقف من جديد.
وقد يؤدّي انتهاء حرب غزة إلى تحويل تركيز إسرائيل والولايات المتحدة نحو طهران، بالتزامن مع العقوبات الأمريكية والبريطانية والأوروبية، الأمر الذي قد يدفع إيران إلى مواجهة هذا الضغط عبر حثّ الحوثيين على استئناف القتال ضد خصومها.
أما بالنسبة لإسرائيل، فإن التهديد الحوثي يختلف عن الحرب في غزة، إذ ترى تل أبيب أن على الحوثيين أن يدفعوا ثمن أفعالهم خلال العامين الماضيين.
وبصفتهم أداةً بيد إيران، فإنهم سيظلون يشكّلون تهديداً مشابهاً لحزب الله، ما يعني —من وجهة النظر الإسرائيلية— أنهم يجب أن يُزالوا كخطرٍ محتمل، وأن إسرائيل لن تسمح باستمرار هذا التهديد.
كما أن رئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو) —الذي دأب على استخدام الحرب لتحقيق مكاسب سياسية— قد يجد في الحوثيين هدفاً مناسباً لعملياتٍ عسكرية إضافية.
وفي هذا الإطار، يشترك الحوثيون ونتنياهو في استراتيجيةٍ واحدة:
استخدام الحرب كأداةٍ لتبرير التمسك بالسلطة والتوسع الإقليمي.
وعليه، فإن احتمال تجدد صراعٍ إقليمي أوسع يبدو في هذه المرحلة هو السيناريو الأكثر ترجيحاً.
ويمكن لكلٍّ من الحوثيين وإيران أن يقدّما أي تصعيدٍ مقبل بوصفه “ردّاً على عدوان” أو “محاولةً لرفع الحصار”، دون الانزلاق إلى مواجهةٍ شاملة ومباشرة.
ومن المرجّح أن يشكّل البحر الأحمر محور هذا التصعيد المحدود والمضبوط، نظراً إلى سهولة وصول الحوثيين إليه، وإلى المكاسب التي حققوها فيه منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
أما بالنسبة لإيران، فإن تشجيع الحوثيين على استئناف القتال قد يخفف الضغوط الخارجية المتزايدة عليها، خاصةً في ظل تشديد العقوبات الدولية واحتمال تصاعد الضربات الإسرائيلية.
وبالتالي، فإن رفع مستوى التوتر عبر الحوثيين يمكّن طهران من مواصلة استراتيجيتها في خوض “حربٍ غير مباشرة” ضد خصومها.
وخلاصة القول: إن وقف إطلاق النار في غزة لا يعني بالضرورة تهدئةً شاملة في المنطقة، بل قد يكون مرحلةً انتقالية تعمل خلالها الأطراف المختلفة على إعادة تموضعها.
أما بالنسبة للحوثيين، فإن التوقف المؤقت عن مهاجمة إسرائيل واستهداف السفن في البحر الأحمر ليس تنازلاً سياسياً، بل واقعاً غير مرغوبٍ فيه فُرض عليهم بفعل الظروف.
ويُرجَّح أنهم ينتظرون ما ستسفر عنه الضغوط المتزايدة على إيران، وكذلك خطوات إسرائيل المقبلة، قبل أن يقرروا تحركاتهم التالية.
ورغم أن الاتجاه الدقيق للأحداث لا يزال غير واضح، إلا أن المؤشرات الحالية تفيد بأن البحر الأحمر سيبقى بؤرة توترٍ رئيسية، في ظل سعي الحوثيين وإيران إلى مواجهة الضغوط من إسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا، مع الإبقاء على مستوى التوتر الإقليمي دون الوصول إلى صراعٍ مفتوح.
لقراءة المادة من موقعها الاصلي: