تحليل: تحول القوة في النظام الدولي.. الحوثيون نموذجاً لصعود الفاعلين غير الحكوميين
يمن فيوتشر - موديرن ديبلوماسي- بوتري مايانغ ريمبولان- ترجمة خاصة الاربعاء, 03 ديسمبر, 2025 - 12:09 صباحاً
تحليل: تحول القوة في النظام الدولي.. الحوثيون نموذجاً لصعود الفاعلين غير الحكوميين

 

يُظهر هجوم الحوثيين على السفن التجارية في البحر الأحمر أنّ الاستراتيجيات اللامتماثلة باتت من أكثر العناصر إرباكاً للمشهد الأمني الدولي، وغالباً ما تكون أكثر فاعلية من القوة العسكرية التقليدية التي تمتلكها الدول. فعمليات هذه الجهات غير الحكومية لا تعطل مسارات التجارة العالمية فحسب، بل تكشف أيضاً عن ثغرات جوهرية في بُنية الأمن البحري الدولي. وتمثل هذه الظاهرة تحولاً كبيراً في طبيعة الصراع المعاصر، إذ لم تعد الحرب حكراً على الدول، وأصبح بإمكان الفاعلين غير الحكوميين إعادة تشكيل الحسابات الاستراتيجية العالمية بكلفة منخفضة للغاية. وتجادل هذه المقالة بأن عمليات الحوثيين تعكس إخفاق النموذج الأمني التقليدي، وتبرز الحاجة الملحّة لفهم التهديدات غير النظامية بوصفها عاملاً حاسماً في ديناميات الجغرافيا السياسية المعاصرة.

ويرتكز نجاح الحوثيين على توظيف استراتيجيات لا متماثلة تجمع بين انخفاض التكلفة وارتفاع القدرة على المناورة وتأثير استراتيجي كبير. وعلى خلاف حركات التمرد في القرن العشرين التي اعتمدت تكتيكات حرب العصابات، رفع الحوثيون مستوى التهديد عبر استخدام طائرات مُسيّرة انتحارية وصواريخ باليستية وأنظمة استطلاع منخفضة التكلفة. وتُوجَّه هذه الأسلحة الرخيصة نحو سفن تجارية تُقدَّر قيمتها بمليارات الدولارات. فعندما تتسبب طائرة مُسيّرة واحدة فقط في إلحاق الضرر بسفينة تجارية أو تهديدها، تجد عشرات الشركات العالمية نفسها مضطرة إلى تغيير مسارات النقل، وزيادة تكاليف الخدمات اللوجستية، ومواجهة مخاطر اقتصادية واسعة النطاق.

وتعمل الاستراتيجيات اللامتماثلة على تجنب مصادر قوة الخصم الأساسية، واستهداف نقاط تجعل تلك القوة بلا جدوى. وهذا ما يحدث في البحر الأحمر، إذ تصبح قدرات السفن الحربية الحديثة عديمة الفائدة عندما يأتي التهديد من طائرات صغيرة يصعب رصدها ويسهل استبدالها، كما يشير بايليس وويرتز (2016).

وتكشف محدودية قدرات القوات البحرية لدى الدول الكبرى في التعامل مع هذه الهجمات عن مشكلات عميقة في العقيدة الدفاعية التقليدية. فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة وبريطانيا نشرتا أساطيل قتالية متطورة، إلا أن هجمات الحوثيين ما تزال مستمرة وتُصيب أهدافاً استراتيجية. وقد صُممت أنظمة الدفاع لدى القوى الكبرى لمواجهة تهديدات بين الدول، لا لمواجهة هجمات غير نظامية يشنّها فاعلون لا يخضعون لالتزامات دبلوماسية ولا يمتثلون للمعايير الدولية. وتزدهر التمردات الحديثة عبر استغلال الثغرات المؤسسية وضعف جاهزية الدول للتعامل مع ديناميات صراع تتغير بسرعة. ويُعد الحوثيون مثالاً واضحاً على ذلك، إذ يعملون في منطقة رمادية لا تغطيها الأطر الدفاعية التقليدية (كيلكولين، 2009).

وتنبع القوة الاستراتيجية للحوثيين ليس فقط من إمكاناتهم العسكرية، بل من قدرتهم على استغلال الترابط الاقتصادي العالمي. فمسار قناة السويس – البحر الأحمر يعد أحد أهم ممرات النقل اللوجستي في العالم، وأي اضطراب فيه ينعكس فوراً على سوق الطاقة العالمية، وسلاسل الإمداد الأوروبية والآسيوية، وتكاليف الخدمات اللوجستية في مختلف قطاعات التجارة الدولية. وعلى الرغم من أن هجمات الحوثيين محدودة من الناحية المادية، إلا أن تأثيرها النفسي هائل. فعند وقوع هجوم واحد، تسارع عشرات الشركات الدولية إلى إعادة تقييم مسارات الملاحة الخاصة بها. ويُعد هذا الخوف أكثر تأثيراً على الاقتصاد من الأضرار المباشرة التي تلحق بالسفن المستهدفة.

وفي السياق الاستراتيجي، أدرك الحوثيون أن خلق حالة من عدم اليقين يمثل سلاحاً استراتيجياً منخفض التكلفة وعالي الفاعلية.

علاوة على ذلك، لا تُعدّ عمليات الحوثيين مجرد تحركات عسكرية بحتة، بل تُشكّل جزءاً من ديناميات جيوسياسية أوسع في الشرق الأوسط. فهم يؤدون دور فاعلين غير حكوميين وأدوات في صراعات إقليمية، ولا سيما في التنافس بين إيران والسعودية والولايات المتحدة. ومع ما يتلقونه من دعم تقني ولوجستي من دول داعمة مثل إيران، يتحول الحوثيون إلى عنصر ضمن استراتيجية إقليمية أشمل، الأمر الذي يطمس الخط الفاصل بين استراتيجيات الدول والجهات غير الحكومية. وتمثل الهجمات على السفن التجارية وسيلة فعّالة للضغط على القوى الكبرى دون تحمّل المخاطر السياسية التي ترافق عادةً العمل العسكري المباشر.

ويكشف انخراط الفاعلين غير الحكوميين في بنية الصراع الحديث عن أن المفهوم التقليدي للأمن الدولي لم يعد كافياً. فقد بُنيت عقيدة الأمن البحري العالمي على افتراض أن التهديد الرئيسي مصدره دول منافسة، بينما تأتي اليوم أعظم التهديدات من جماعات لا تمتلك قوات بحرية رسمية، ولا تسيطر على أراضٍ ذات سيادة، ولا تخضع لأي مساءلة أمام المجتمع الدولي.

وبينما تظل الدول منشغلة بالتهديدات التقليدية، تتمكن جماعات مثل الحوثيين من التحرك بسرعة ومرونة وفاعلية، مستغلة كل فرصة متاحة. ولهذا السبب بات الاستقرار الدولي أكثر هشاشة، رغم التطور التكنولوجي المتسارع في القدرات العسكرية لدى القوى الكبرى.

وتبرز أزمة البحر الأحمر الحاجة إلى تحوّل جذري في النموذج المعتمد للأمن العالمي. فلم يعد بإمكان الدول الاعتماد على الردع بين الدول بوصفه الركيزة الأساسية للأمن. وهناك حاجة إلى نموذج جديد يجمع بين مكافحة الطائرات المُسيّرة، وتأمين سلاسل الإمداد، والدبلوماسية الإقليمية، وسياسات تثبيت الاستقرار على الأرض. ومن دون مقاربة متعددة الأبعاد، ستظل الدول عالقة في ردود فعل قصيرة المدى بدلاً من تبنّي استراتيجيات طويلة الأمد.

وفي نهاية المطاف، لا تُعدّ هجمات الحوثيين في البحر الأحمر مجرد إرباك للتجارة الدولية، بل هي إنذار بأن النظام الأمني العالمي يشهد إعادة تموضع جوهرية. وتُظهر الحجج الواردة في هذه الورقة أن الاستراتيجيات اللامتماثلة قوّضت احتكار الدول للقوة، وكشفت افتقار البنى الأمنية الدولية للجاهزية في مواجهة التهديدات غير النظامية. وإذا ما أخفقت الدول في تحديث نماذجها، فإن مستقبل الاستقرار العالمي سيصبح خاضعاً بدرجة متزايدة لفاعلين لا تربطهم أي التزامات دولية، ولا يخضعون لقواعد الحرب، وقادرين على تعظيم تأثيرهم بأدنى تكلفة. إن العالم يدخل حقبة استراتيجية جديدة، ويُعدّ البحر الأحمر دليلاً واضحاً على أن هيمنة الدول لم تعد الركيزة الأساسية في حروب العصر الحديث.

ادناه رابط المادة من موقعها الأصلي: 

https://moderndiplomacy.eu/2025/11/30/the-houthis-and-the-rise-of-asymmetric-strategy-war-is-no-longer-the-monopoly-of-states/


التعليقات