بينما أفضى انتهاء الحرب التي استمرت 12 يوماً بين إيران وإسرائيل في يونيو/ حزيران إلى شعور عابر بتهدئة إقليمية، تسير الأوضاع داخل اليمن في اتجاه مغاير. إذ يعمل أنصار الله (المعروفون بالحوثيين) على تصعيد حملتهم الداخلية، من خلال توسيع دائرة الاعتقالات وحملات الخطف في المناطق الخاضعة لسيطرتهم، بما في ذلك ذمار والحديدة وصعدة وصنعاء.
وقد تزايد القمع الحوثي منذ أن علّقت الولايات المتحدة غاراتها الجوية في مايو/ أيار، عقب اتفاق تعهّد فيه الحوثيون بوقف هجماتهم البحرية ضد الأهداف الأميركية، وهي عمليات بدأوها في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 دعماً لفلسطين. غير أن الجماعة، ورغم الطابع التهدوي لذلك الاتفاق، استأنفت في 6 يوليو/ تموز هجماتها في البحر الأحمر، حيث أغرقت سفينتين وتسببت في مقتل عدد من أفراد الطواقم. ولاحقاً تعهّد قيادي بارز في الجماعة بمواصلة الحملة.
وتعكس هذه الموجة الأخيرة من القمع حالة القلق المتزايدة داخل قيادة الحوثيين. فقد استهدفت الاعتقالات بالدرجة الأولى أشخاصاً وُجهت إليهم اتهامات بانتقاد الجماعة أو بتداول معلومات حول الخسائر البشرية التي أسفرت عنها الضربات الأميركية والإسرائيلية الأخيرة. وفي هذا السياق، فإن المخاوف من احتمال تجدّد هجوم بري تشنّه القوات الموالية للحكومة اليمنية المعترف بها دولياً دفعت الحوثيين إلى فرض إجراءات داخلية أكثر تشدداً.
وقد هدّد (مهدي المشاط)، رئيس مجلس الحكم التابع للحوثيين، بإنزال عقوبة الإعدام بحق كل من يُتهم بالتعاون مع “قوات العدو”. وفي موازاة ذلك، أفادت تقارير بأن أجهزة الاستخبارات الحوثية صعّدت من حملات الاعتقال، متجاوزةً الإجراءات القانونية في كثير من الحالات، عبر توقيف الأفراد دون مذكرات قضائية.
وبحسب المصادر، فإن الجماعة تلجأ إلى ذرائع قانونية فضفاضة لتبرير توسيع حملتها من المراقبة والقمع، التي تستهدف ناشطين وصحفيين ومواطنين عاديين. بل إن نشاطاً روتينياً عبر الإنترنت، مثل كتابة تعليقات أو مشاركة معلومات أساسية، يمكن اعتباره “خيانة”. وفي إطار هذه الحملة، يُزعم أن الحوثيين فرضوا حظراً إعلامياً شاملاً، وأصدروا تعليمات للسكان في المناطق الخاضعة لسيطرتهم بالإبلاغ عن أي نشاط يُشتبه فيه.
•التحكم في السردية
بعد أن شهدت الجماعة اغتيالات إسرائيلية بارزة استهدفت قيادات رفيعة في حزب الله بلبنان العام الماضي، ومع تنامي التهديدات التي طالت قيادتها خلال الحملة الجوية الأخيرة –التي وسّعها الرئيس الأميركي دونالد ترامب لتشمل قيادات بارزة في صفوفها– اتجهت حركة أنصار الله (الحوثيون) إلى الداخل، جاعلةً من إحكام السيطرة الداخلية أولوية استراتيجية للبقاء.
ولم يعد القمع يقتصر على خصوم محتملين، بل امتد ليشمل شخصيات كانت تُعد حتى وقتٍ قريب من الموالين للجماعة. فخلال الغارات الأميركية في أبريل/ نيسان، أقدم الحوثيون على اعتقال الشيخ القبلي البارز (ناصر عزمان) في بني مطر، إلى جانب مسؤولين كبار من شركة النفط العاملة في ميناء رأس عيسى بالحديدة.
ولتسويغ هذه القيود الواسعة، يزعم مسؤولون حوثيون أن الخصوم الأجانب —وفي مقدمتهم إسرائيل— يسعون للحصول على مواد بصرية لدعم حملات دعائية. وقد وُجّهت تحذيرات صريحة للسكان من تصوير أو مشاركة أي مشاهد متصلة بالصراع. وعلى نحو لافت، أقدمت الجماعة على خطف عشرات الأشخاص عقب نشرهم صوراً للغارات الجوية في صنعاء والمحويت خلال أبريل/ نيسان.
وفي هذا الوضع، تُستخدم تهم التجسس الفضفاضة وتهديدات الإعدام كأدوات لإسكات أي معارضة وللسيطرة على السردية المتعلقة بالحرب. فقد حظرت الجماعة نشر أعداد الضحايا، ويُقال إنها منعت أي نقاش حول خسائرها العسكرية، فيما تواصل إصدار روايات متضاربة بشأن الأهداف التي تعرضت للقصف وحجم الأضرار، منها ميناء الحديدة الذي شهد هجمات متكررة. وحتى الآن، لم يصدر أي اعتراف جزئي بالخسائر سوى عقب الضربة الإسرائيلية التي استهدفت مطار صنعاء الدولي في 28 مايو/ أيار.
وتزداد خطورة الموقف بالنسبة للجماعة اليمنية مع تزايد المخاوف، وفق مصادر قريبة منها، من احتمال تجدد التعبئة العسكرية بقيادة (طارق صالح) –عضو مجلس القيادة الرئاسي وقائد قوات المقاومة الوطنية— خصوصاً على طول الساحل الغربي المطل على البحر الأحمر.
وفي ظل هذه المخاوف من تحركات عسكرية يقودها خصومها، صعّد الحوثيون من حملة القمع ضد أنصار حزب المؤتمر الشعبي العام، الحزب الذي قاده الرئيس الراحل (علي عبدالله صالح) (1978–2011)، والذي ما يزال يحتفظ بفرع نشط في صنعاء. ورغم أن طارق صالح لا يُعد رسمياً عضواً في الحزب، إلا أنه يظل على ارتباط وثيق به ويمارس نفوذاً سياسياً ملحوظاً داخله.
•المراقبة والإكراه
تمتد حملة الترهيب الحوثية اليوم إلى ما هو أبعد من الأجهزة الأمنية الرسمية، إذ باتت تعتمد بشكلٍ متزايد على شبكات غير رسمية ومؤسسات موازية لترسيخ قبضتها. وفي هذا السياق، تشير تقارير إلى أن الجماعة أطلقت ما يُعرف بـ “ميثاق الشرف القبلي”، الذي يعيد توظيف البُنى القبلية التقليدية كأدوات للمراقبة والإكراه. وبموجب هذا الميثاق، يتعيّن على القبائل إعلان الولاء لأنصار الله، والإبلاغ عن أفرادها عند الطلب، والتبرؤ من أي شخص يُتهم بالتعاون مع ما يُعتبر “أعداء”.
كما انتقلت المراقبة إلى الفضاء الرقمي، خصوصاً في المناطق الحضرية. إذ أفاد مصدر يمني مطّلع ومقرّب من الجماعة —طلب عدم الكشف عن هويته— بأن الحوثيين يعتمدون بشكل متزايد على عُقال الحارات لمتابعة الأنشطة عبر تطبيقات مثل واتساب وغيرها من المنصات الإلكترونية. ورغم أن الحملة تستهدف طيفاً واسعاً، إلا أن التدقيق يتركز بشكل خاص على أعضاء حزب المؤتمر الشعبي العام، في انعكاس لتنامي قلق الحركة من مسألة الولاء السياسي واحتمال بروز معارضة داخلية.
وبحسب المصدر ذاته، فإن هذه الحملة يقودها جهاز استخبارات الشرطة الذي شُكّل حديثاً برئاسة (علي حسين بدر الدين الحوثي)، نجل مؤسس الجماعة الراحل وابن شقيق قائدها الحالي عبدالملك الحوثي. ويُتهم القيادي الشاب باستغلال هذه الحملة لتعزيز نفوذه الشخصي، خصوصاً في الحديدة، حيث يُقال إن سلطته باتت تمتد إلى قطاعات حيوية تشمل إدارة الموانئ والطاقة والنقل.
ومنذ تأسيسه في مارس/ آذار 2024، تطوّر هذا الجهاز ليصبح بمثابة جهاز أمني موازٍ يمتلك قوات خاصة ومراكز احتجاز خاصة به، ويعمل كلياً خارج إطار النظام القضائي الرسمي. وقد بدأت المخاوف من النفوذ غير الخاضع للرقابة تتصاعد حتى في أوساط ناشطين ومعتقلين سابقين، الذين وصفوه بأنه “مرعب”. ونتيجة لذلك، يشير منتقدون إلى أن كثيراً من اليمنيين باتوا يتجنبون حتى أبسط أشكال النقد العلني لجماعة الحوثي.
•تصدعات في قبضة القمع
على الرغم من تصاعد القمع، بدأت أصوات معارضة بالظهور من داخل المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين، وأحياناً من داخل الحركة نفسها. إذ يتزايد عدد اليمنيين الذين يتساءلون عن الجدوى الاستراتيجية والكلفة الإنسانية للحملة البحرية المستمرة. ومع تفاقم التداعيات الإنسانية والاقتصادية، يزداد الشك العام حول ما إذا كانت هذه الحملة تخدم فعلاً المصلحة الوطنية لليمن.
وفي خطوة نادرة، أصدرت وزارتا المالية والاقتصاد في صنعاء، إلى جانب لجنة تنسيق العلاقات بين القطاعين العام والخاص، بياناً مشتركاً مطلع هذا العام —سرعان ما جرى سحبه— دعت فيه إلى تحرك عاجل لوقف الغارات الإسرائيلية على المواقع المدنية والتجارية والصناعية. ورغم أن البيان لم يُشِر بشكلٍ مباشر إلى السبب، إلا أنه بدا ضمنياً كأنه يربط هذه الدعوات بهجمات الحوثيين على السفن المتجهة إلى إسرائيل وما أعقبها من ردود انتقامية.
كما بدأت النقابات العمالية في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون بكسر صمتها. فقد أصدرت نقابة مصنّعي الإسمنت في عمران والاتحاد العام لعمال البناء والإنشاءات بيانات علنية تطالب الأمم المتحدة بالتدخل ووقف الغارات. ولافت أن نقابة عمران أعلنت ابتعادها عن الصراع، مؤكدة أنها لا تؤيد أي حزب سياسي، فيما عُدّ ذلك انتقاداً غير مباشر للحوثيين.
ويُزعم أن القلق داخل الحركة يتصاعد أيضاً وراء الكواليس. إذ تُشكل الغارات الجوية المستمرة من قوى خارجية خطراً على كشف نقاط الضعف الداخلية، وإرسال إشارات إلى الخصوم بأن الحوثيين لم يعودوا يمتلكون النفوذ الدولي الذي كانوا يتمتعون به سابقاً. وبشكل عام، يبدو الوضع الراهن أكثر هشاشة، مما يعمّق الشكوك حول مدى استدامة الوضع العسكري للجماعة على المدى الطويل واتجاهها الاستراتيجي الأوسع.
لقراءة المادة من موقعها الاصلي:
https://amwaj.media/en/article/houthi-campaign-of-abductions-and-arrests