أُعيدت رباب المضواحي إلى السجن كما تُعاد الأشياء المسروقة إلى خزائن اللصوص. رئيسة قسم المعلومات في المعهد الديمقراطي الوطني (NDI) لم تُمنح سوى استراحة قصيرة من جدران الزنزانة، مجرد فتحة ضوء خاطفة سمحت لها بتوديع والدتها الراحلة. ساعات معدودة، ثم أُغلقت البوابة الحديدية مجدداً، وكأنها لم تخرج أبداً، وكأن الحزن الذي حملته معها كان تهمة أخرى تستوجب العقاب.
لم تكن وفاة والدة رباب مجرد حدثاً عابراً في سيرة الألم. كانت مرآة تعكس وجوه الآلاف من الأمهات والآباء الذين انتُزع منهم فلذات أكبادهم، خُطفوا من بيوتهم، من أحلامهم، من حيواتهم، وأُلقي بهم في سجون بلا نوافذ. اختُصر كل الفقد، كل العجز، كل الأنين في تلك اللحظة التي أعادوا فيها رباب إلى زنزانتها، وكأن الموت وحده لا يكفي.
لكنّ هناك ألماً لا يُحكى، لا لغة تقدر على حمله. ذلك الألم الذي ينهش أرواح الأمهات والآباء حين يموت أبناؤهم المعتقلون خلف القضبان، وحيدين، بلا وداع كما ينبغي، بلا أيدٍ تمسح أجبنتهم للمرة الأخيرة. في السجون، لا أحد يموت وحده، بل تموت معه كل ملامحه التي عرفها أحباؤه.
كانت صدمة، لكنها لم تكن مفاجأة. الموت في السجون الحوثية ليس حدثاً، بل تقويم تتكرر صفحاته بشكل دوري. هذه المرة، كان أحمد باعلوي عامل الإغاثة في برنامج الأغذية العالمي، الشاب الذي عمل لخدمة الجوعى. اعتقلته جماعة الحوثي تعسفياً في كانون الثاني/ يناير 2025، واحتُجز في سجن في صعدة؛ معقل الحوثيين شمال اليمن، حتى أُعلن عن وفاته الشهر الماضي. لكن أحمد لم يكن الأول، فقبله آخرون، أبرزهم هشام الحكيمي مدير قسم السلامة والأمن في منظّمة “إنقاذ الطفل”، الذي سُحب إلى المصير نفسه. مات هشام في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أثناء الاعتقال. هل كان التعذيب؟ هل كان الإهمال الطبي؟ أم كان كلاهما معاً، في مزيج قاتل تتقنه السجون الحوثية؟ لا فرق. في النهاية، النتيجة واحدة: أسماء تُمحى، أجساد تُرمى، وأهل يتلقّون العزاء بدلاً من العودة.
في حزيران/ يونيو 2024، شنّت جماعة الحوثي حملة اعتقالات واسعة، كأنها تمارس هوايتها المفضلة: اقتناص الأصوات الحرة، حصار الأمل، كتم الأنفاس. كان من بين المعتقلين رباب المضواحي، لم يكن هناك سبب سوى أنها تعمل في منظّمات المجتمع المدني.
مرّت الأيام، الشهور، ووالدة رباب تنتظر. لكن الانتظار في اليمن ليس مجرد وقت يمضي، بل هو تعذيب بطيء. لم ترَ ابنتها قبل أن تموت، لم تلمس يدها، لم تسمع صوتها. ماتت وهي تحمل في قلبها صورة عالقة، ابنة خُطفت إلى المجهول ولم تعد. والمأساة؟ هذه ليست الحكاية الأولى.
كم من أب مات قهراً؟ كم من أم وأب رحلوا وابنهم أو بنتهم لا يزالون في السجون تعسفياً؟ كلما تكرر الفقد، كلما أصبح الألم أكثر ألفة، كأن هذا الوطن لم يعد يعرف سوى الفجيعة. لكن النساء في اليمن لا يعرفن الاستسلام. أمهات وزوجات، ناشطات ومناضلات، لم يتعبن، لم يصمتن. يخرجن إلى الشوارع، يقفن بوجوه متعبة، بأصوات مبحوحة، يطالبن، يصرخن، يرفعن صور أحبّائهن، وكأنهن يرفعن أرواحهن نفسها.
من هذا الألم، من هذا الجرح الذي لا يلتئم، وُلدت رابطة أمهات المختطفين في عام 2015. لم تكن مجرد منظّمة حقوقية، بل صرخة جماعية، شهادة حيّة على أن المأساة لن تُنسى، وأن الأصوات، مهما حاولوا خنقها، ستظل تتردد، حتى تنهار السجون.
الرابطة لا تكتفي بتوثيق الخطف والإخفاء القسري، لا تكتفي بعدّ الأسماء، بتسجيل الوقائع. لا… الرابطة تضيء مصابيحها في أكثر الأماكن وحشة، ترفض أن يكون النسيان مصير من غيّبتهم السجون. إنها لا تصرخ فقط، بل تبني شبكات مناصرة مع المجموعات الحقوقية، تحشد الجهود في أروقة مكاتب الموظّفين الدبلوماسيين، تطرق أبواب قادة القبائل وشيوخها، تقتحم الصمت في لقاءات السلطات وأطراف النزاع. في الداخل، في الخارج، في كل مكان يمكن أن يصل إليه الصوت، هناك من يطالب، من يصرخ: أين هم؟ لماذا لا يزالون خلف الجدران؟ من منحهم الحق في سرقة حيواتهم؟
لا كلل، لا ملل، لا توقُّف. لأن العدالة ليست شعاراً، بل هي مطلب محفور في صدور الأمهات، في عيون الآباء، في قبضة كل من رفض أن يكون الظلم قدراً. تريد الرابطة محاكمة الجلادين، معاقبة الخاطفين، كشف المجرمين وتعويض الضحايا. لأن الألم لا يُعالَج بالصمت، بل بالمحاسبة، لأن الوجع لا ينتهي إلا حين يُفتح باب السجن الأخير، حين يعود آخر مخفي، حين يُقال أخيراً لمن تسببوا بهذا الخراب كله: لن تُفلتوا من العقاب.
833 حالة خطف واحتجاز خلال عام واحد. 833 حياة اقتُلعت وأُلقيت في سراديب السجون. كان تقرير رابطة أمهات المخطوفين لعام 2024 أقرب إلى مرثية طويلة، سردية من الألم والإخفاء والتعذيب، قائمة بأسماء غاب أصحابها خلف الجدران العالية.
754 حالة وحدها تتحمّلها جماعة الحوثي، 308 منها اعتقالات جماعية. 51 حالة بيد قوات الحزام الأمني، التي تدرّبها دولة الإمارات وتسلّحها، 16 حالة بيد الحكومة اليمنية “المعترف بها دولياً”، 12 حالة بيد القوات المشتركة. لا فرق في النهاية، الجميع متورّط، الجميع يملك سجناً، الجميع يُجيد فن الاختفاء القسري.
103 أشخاص تبخروا. لا رسائل، لا مكالمات، لا أثر. وحدها العائلات تعرف ماذا يعني أن تكون إنساناً بلا وجود، مجرد ذكرى تتحرّك في أذهان الأمهات اللواتي يترقّبن عودة مستحيلة. 84 حالة على يد الحوثيين، والبقية موزعة بين أيدٍ اعتادت على الإخفاء. التعذيب؟ إنه ليس تفصيلاً عابراً، بل ممارسة يومية، لغة التخاطب الوحيدة في السجون. 58 حالة وثّقتها الرابطة، 38 منها بيد الحوثيين، 9 بيد الحزام الأمني، 6 بيد الحكومة، 5 بيد القوات المشتركة. لكن هذه الأرقام ليست مجرد أعداد، إنها أجساد مكدّسة، صرخات انطفأت، جلود تمزّقت تحت سياط لا ترحم. ستة أشخاص لم يخرجوا أبداً. لا لأنهم محكومون، بل لأنهم ببساطة ماتوا. ماتوا تحت التعذيب، ماتوا تحت وطأة المرض والإهمال.
31 أيار/ مايو 2024، بدأت المأساة من جديد. خلال أسبوعين، اقتحم الحوثيون البيوت والمكاتب، كمن يبحث عن شيء فقده، لكنهم لم يكونوا يبحثون، كانوا فقط يأخذون. لا حاجة إلى التبرير، لا حاجة إلى سند قانوني، لا حاجة إلى أي شيء سوى القوّة. 13 موظّفاً في الأمم المتحدة، 50 آخرون من منظّمات المجتمع المدني، كلهم خُطفوا وسط الصمت، وسط العجز.
الزنازين امتلأت. ثلاثة فقط خرجوا، مجرد فتات رموه ليبدو الأمر أقل قسوة. موظّف من الأمم المتحدة، اثنان من المنظّمات غير الحكومية، لكن ماذا عن البقية؟ لا أحد يعرف عنهم شيئاً. ثم جاء 23 كانون الثاني/ يناير 2025. جولة أخرى، موجة أخرى من القمع الأعمى. ثمانية موظّفين أمميين آخرين اختفوا، كأن الأرض ابتلعتهم. الجميع محتجزون من دون تهم، من دون محاكمة، من دون محامين، من دون حتى رسالة واحدة تطمئن أهلهم.
“التحدّيات التي تعصف باليمن اليوم هائلة… ولعلّ من أبرزها، التقلّص المستمر للفضاء المدني، بخاصة في المناطق الواقعة تحت سيطرة أنصار الله”، قالها المبعوث الأممي هانس غروندبرغ، لكن الكلمات وحدها لا تكفي لوصف الخراب.
يقول: “إن الاعتقالات التعسّفية التي استهدفت موظّفي الأمم المتحدة، والمجتمع المدني، والسلك الدبلوماسي، والقطاع الخاص، إلى جانب الفاجعة المتمثلة في وفاة زميلنا في برنامج الأغذية العالمي أثناء احتجازه، تكشف عن تنامي المخاطر وتقلّص المساحة المتاحة لمن يسعون الى دعم اليمنيين”، كأنه يتحدّث عن ألا أحد خارج دائرة القمع، الجميع هدف، الجميع قابل للاختفاء في غمضة عين. لا تُطرح الأسئلة، لا تُقدَّم التبريرات، فقط يُقتادون.
للأسف، مع الوقت الأسماء تُنسى… إلا الأمهات اللواتي لا ينسين أبداً.