عندما وصلت (هناء) إلى العمل قبل بضعة أشهر، وجدت "الأدراج والأبواب محطمة، ومديرها محاطًا بعناصر الأمن".
تمت مصادرة أجهزة الكمبيوتر والهواتف والكاميرات والوثائق، واعتُقل مديرها، وفي النهاية تم تجميد الحساب المصرفي للمنظمة.
تعمل هناء في منظمة غير حكومية ممولة من الولايات المتحدة في اليمن، تدعم تمكين المرأة وتدرب الأفراد على حل النزاعات من خلال التفاوض.
لكن الحرب الأهلية في البلاد، التي استمرت لأكثر من عقد وأسفرت عن واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، جعلت حياة العاملين في المنظمات غير الحكومية أكثر خطورة.
خلال الأشهر القليلة الماضية، احتجز الحوثيون 24 موظفًا تابعًا للأمم المتحدة، إلى جانب عاملين من منظمات غير حكومية محلية ودولية أخرى.
وقد زادت موجة الاعتقالات في يناير/ من حجم الخوف، حيث توفي أحد المحتجزين، وهو موظف في برنامج الأغذية العالمي، أثناء احتجازه.
و هذا الوضع جعل عمال الإغاثة يشعرون بأن حريتهم في التنقل أصبحت مقيّدة إلى حدٍ كبير، ما دفع العديد من المنظمات، بما في ذلك الأمم المتحدة، إلى تقليص عملياتها، مما يهدد بجعل حياة الأشخاص الذين دمرتهم الحرب أكثر سوءًا.
قبل عشر سنوات، سيطر المتمردون الحوثيون المدعومون من إيران على أجزاء واسعة من غرب اليمن، بما في ذلك العاصمة صنعاء، بعد أن انتزعوها من الحكومة المعترف بها دوليًا. ومنذ ذلك الحين، شنت السعودية غاراتٍ جوية مكثفة على اليمن –بدعمٍ لوجستي واستخباراتي من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة– في محاولة لمنع الحوثيين من السيطرة على البلاد بالكامل.
و كان مسؤولو الحوثيين هم من داهموا مكتب هناء واحتجزوا مديرها، وهي تخشى من الانتقام في حال قامت بالتحدث علنًا. لذلك، ولضمان سلامتها وسلامة الآخرين الذين تمت مقابلتهم في اليمن، قمنا بتغيير أسمائهم في هذا التقرير.
تعتقد هناء أن الحملة ضد العاملين في المجال الإنساني تهدف إلى نشر الخوف بين الناس، لكن أكثر ما يؤلمها هو رد فعل الجمهور.
وتقول: "عندما تفقدت مواقع التواصل الاجتماعي، كان من المروع أن أجد الناس ينظرون إلينا كجواسيس."
فبعد يوم من اعتقال مديرها، ظلت هناء تتابع شاشة التلفاز بقلق، حيث بثّت قناة موالية للحوثيين ما وصفته باعترافاتٍ بالتجسس، أدلى بها تسعة يمنيين اعتقلوا في وقت سابق من العام 2021، حيث كانوا يعملون في السفارة الأمريكية بصنعاء، التي أُغلقت منذ سنوات.
عندها، أدركت هناء أن الأمور قد تزداد سوءًا بالنسبة لها، خاصةً أنها تعمل في منظمة غير حكومية ممولة من الولايات المتحدة. وهكذا، قررت مغادرة منزلها في شمال اليمن.
و بحلول الوقت الذي وصلت فيه إلى الجنوب، كانت تعاني من صدمة نفسية عميقة. وتقول: "لم أتمكن من الأكل أو النوم لمدة ثلاثة أيام، ولم أستطع التوقف عن البكاء."
الآن، تشعر هناء بالقلق من أن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإعادة تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية قد يدفعهم إلى استهداف جميع العاملين في المشاريع الممولة من الولايات المتحدة.
وبحسب المحامي اليمني (عبدالعزيز)، الذي يتولى الدفاع عن 14 معتقلًا، فإن الحصول على أي دعم بعد الاعتقال يمكن أن يكون غاية في الصعوبة. ويقول إن موكليه محتجزون منذ عدة أشهر، بينهم ثلاثة موظفين في الأمم المتحدة، بينما يعمل البقية لدى منظمات غير حكومية محلية.
ويضيف: "خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الاحتجاز، لم يتمكن موكليني من التواصل مع أي شخص."
و يزداد قلق عبدالعزيز مع استمرار الغموض حول مكان احتجازهم، لكنه أشار إلى أن موكليه تمكنوا مؤخرًا من إجراء مكالماتٍ هاتفية قصيرة مع عائلاتهم. ويقول: "كل مكالمة استغرقت ما بين خمس إلى عشر دقائق."
حاولت هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) التواصل مع الحوثيين لسؤالهم عن معاملتهم لعمال الإغاثة، لكنها لم تتلق أي رد.
و إلى جانب الاعتقالات، تم تعليق المساعدات الإنسانية المنقذة للحياة التي تقدمها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) نتيجة قرار ترامب بتجميد عمليات المنظمة على مستوى العالم، وسط مزاعم تتعلق بالهدر وسوء استخدام الأموال.
و من جانبها، حذرت منظمة هيومن رايتس ووتش (HRW) من أن تداعيات سياسات ترامب والاعتقالات التعسفية التي ينفذها الحوثيون ستكون "مدمرة بكل المقاييس".
وتقول (نيكو جفارنيا)، الباحثة في شؤون اليمن والبحرين لدى المنظمة: "سيكون لذلك تأثير واسع النطاق وجذري على تقديم المساعدات في اليمن."
و وفقًا لمنظمة هيومن رايتس ووتش (HRW)، كانت الولايات المتحدة تموّل حوالي ثلث المساعدات الإنسانية في اليمن، ومعظمها عبر الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID). وبين عامي 2015 و2021، قدمت أكثر من 3.6 مليار دولار، ما جعلها أكبر مانح منفرد للمساعدات الإنسانية في البلاد، وفقًا للأمم المتحدة.
و تحذّر (أمل)، وهي أم لتسعة أطفال، قائلة: "قطع المساعدات سيكون بمثابة حكم بالإعدام علينا." حيث تعيش في مخيم للنازحين داخليًا في شمال اليمن، إلى جانب آلاف العائلات الأخرى.
و حتى عبر الهاتف، يمكن الشعور بالثقل الهائل الذي تحمله على عاتقها. صوتها البطيء مليء بالعاطفة، فقد مضى ما يقرب من 10 سنوات منذ أن فقدت منزلها.
و تتحمل أمل بمفردها مسؤولية إعالة أسرتها الكبيرة، حيث يعاني زوجها من الربو الحاد، ما يجعله غير قادر على العمل. و اضطرت العائلة إلى الفرار من مدينتها في أقصى الشمال مع اندلاع الصراع.
منذ ذلك الحين، ازدادت حياتهم قسوة. فالمخيم، الذي يقع في أرضٍ صحراوية قاحلة، بالكاد يمكن وصفه بأنه مكان للعيش. مأواهم الوحيد خيمة بلاستيكية مهترئة، بلا كراسٍ أو أسِرّة. وبالنسبة لأطفالها، من الصعب العثور على أي لحظة فرح في مكان يفتقر إلى أبسط مقومات الحياة.
وتضيف أمل بحسرة: "إذا تم قطع هذا الشريان الذي توفره المنظمات غير الحكومية، فقد يموت أطفالي. ليس لدينا عمل، ولا دخل، ولا أي شيء."
و بحسب منظمة اليونيسف، يحتاج نحو نصف سكان اليمن إلى مساعداتٍ إنسانية عاجلة، بمن فيهم ما يقرب من 10 ملايين طفل. كما يصنّف مؤشر التنمية البشرية للأمم المتحدة اليمن ضمن أقل 10 دول نموًا في العالم.
و تخبرنا أمل أنها تتلقى سلة غذائية شهرية من برنامج الأغذية العالمي (WFP) التابع للأمم المتحدة، لكنها بالكاد تكفي لمدة أسبوعين. وعندما ينفد الطعام، لا تجد أمامها سوى خيار واحد: الخروج من المخيم والتسول في شوارع المدينة، تمرّ بجانب المطاعم والمتاجر، على أمل الحصول على بضعة أرغفة خبز أو كيس من الأرز.
تقول بحزن: "يغمرني العار، لكن هل أترك أطفالي يموتون جوعًا؟ أنا عاجزة تمامًا." هذا الشعور باللا حول ولا قوة يثقل كاهلها يومًا بعد يوم. وتضيف: "أبكي كثيرًا عندما أدرك أنني لا أملك فلسًا واحدًا." صوتها مزيج من الألم والمرارة.
و في المخيم، يعاني عدد كبير من الأطفال من الإسهال والالتهاب الرئوي بسبب سوء التغذية وتدهور الظروف المعيشية وانعدام النظافة، لكن العلاج المناسب نادرًا ما يكون متاحًا.
و في إحدى العيادات بشمال اليمن، كانت الأرفف التي من المفترض أن تحمل الأدوية فارغة تمامًا. أخبرنا الطاقم الطبي أن المخزون المتوفر لا يلبّي سوى جزء ضئيل من احتياجات الناس.
حاولت هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) التواصل مع الأمم المتحدة للحصول على تعليق حول آلية توزيع المساعدات الحالية والاعتقالات الأخيرة، لكنها لم تتلق أي رد.
ومع ذلك، وأثناء كلمته أمام مجلس الأمن الدولي، أدان (هانس غروندبرغ)، المبعوث الأممي الخاص إلى اليمن، احتجاز موظفي الأمم المتحدة، واصفًا ذلك بأنه "ليس مجرد انتهاك للحقوق الأساسية للإنسان، بل يمثل أيضًا تهديدًا مباشرًا لقدرة الأمم المتحدة على إيصال المساعدات إلى الأكثر احتياجًا".
كما دعا إلى الإفراج الفوري عن جميع المعتقلين، سواء كانوا من موظفي الأمم المتحدة أو العاملين في المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية.
و من أجل عائلات مثل عائلة أمل، تعمل هناء وزملاؤها بكل جهد لمحاولة تحسين الحياة.
و تتذكر بفخر كيف ساعدوا الفتيات على الذهاب إلى المدرسة في إحدى المناطق الشمالية المحافظة. وعندما اشتكى بعض الأهالي من أن جيرانهم يستطيعون رؤية بناتهم أثناء فترة الاستراحة المدرسية، تقول:
"أجرينا حوارات بين السكان، وفي النهاية اتفقنا على تغطية ساحة اللعب، حتى تتمكن الفتيات من العودة إلى الصفوف الدراسية."
لكنها تخشى أن يؤدي غياب هذا النوع من الدعم، بسبب الخوف ونقص التمويل، إلى ارتفاع معدلات الأُمية.
وتضيف بحسرة: "نحن الوحيدون الذين صمدنا وسط انهيار الدولة، لنواصل خدمة الناس."
لقراءة المادة من موقعها الأصلي عبر الرابط التالي:،