دعاء علي، وهو اسم مستعار لامرأة ثلاثينية تحمل بشرة سوداء، تعرضت لأسوأ أشكال التمييز والإهمال الطبي في صنعاء، ليس فقط بسبب فقرها، بل أيضاً بسبب لون بشرتها. تعاني دعاء من مرض يتطلب متابعة صحية مستمرة، لكنها واجهت رفضاً مستمراً في العديد من المستشفيات، وفي كل مرة تدخل فيها أحد هذه المرافق، كانت النظرات المليئة بالازدراء والاحتقار تطاردها، وكأنها، بملامحها ووضعها المالي، لا تستحق حق الحياة أو الرعاية الصحية، كما تقول.
ذات يوم، وبينما كانت تبحث عن وسيلة للتخفيف من آلامها، تعرضت لموقف مأساوي عندما جاء أحد المارة وشاهد حالتها الصحية المتدهورة. وبدلاً من أن يقدم لها المساعدة، قام بركلها على الأرض وصرخ في وجهها: "ما باقي إلا الأخدام بالمستشفيات ينقلوا لنا عفنهم وأمراضهم." كانت هذه الكلمات أشبه بطعنة أخرى تضاف إلى جروحها المتراكمة، وكأن وجودها أصبح عبئاً لا يطيقه المجتمع.
تلك الحادثة لم تكن الأولى من نوعها؛ بل هي حلقة في سلسلة الإهانات اليومية التي تتعرض لها بسبب الفقر والتمييز العنصري، ما جعلها تشعر بأنها غير مرحب بها في أي مكان، بما فيها مراكز الرعاية الطبية.
توضح هاجر مصطفى بادي، المديرة التنفيذية في المنظمة الوطنية لمواجهة الكوارث وتقديم الدعم النفسي في صنعاء، أن التمييز بين البشر يُعد آفة تفرق بينهم، وأن الإسلام جاء ليزيل هذه الفوارق. ورغم ذلك، لا يزال المجتمع يعيد تقييم الناس ضمن فئات دونية، وهو ما يؤثر سلبًا على حياتهم ونفسيتهم. في اليمن، هناك فئة تُسمى "المهمشة"، وهم مجموعة من الناس يعيشون في مناطق معزولة عن باقي المجتمع، ويواجهون معاملة سيئة في مختلف المجالات، خصوصًا في المجال الصحي. هذه الفئة تعاني من مشاكل صحية ونفسية بسبب فقدانهم للكرامة الذاتية، وكأن ذنبهم أنهم وُلدوا في هذه العائلات.
ومع تفاقم الأثر النفسي بمرور الوقت، خاصة لدى الأطفال الذين ينشأون في بيئات عنصرية. يشعر هؤلاء بعدم الأمان في الأماكن التي يتواجدون فيها، سواء في المدارس أو الشوارع، حيث يُجبرون على العمل كباعة متجولين أو متسولين. هذا الوضع يعيق نموهم النفسي السليم ويحد من اكتشاف مواهبهم وقدراتهم. أما البالغون، فهم يعانون من النظرة الدونية تجاههم، ويضطرون للعيش في ظروف قاسية وتحت ضغوط نفسية كبيرة، حيث يفتقرون إلى أبسط مقومات الحياة. وكونهم ينتمون إلى فئة مهمشة، يجدون صعوبة لجهة الانخراط في أعمال ذات رواتب جيدة في القطاع الخاص أو الحكومي، ما يعزز شعورهم بالإحباط والاكتئاب.
التفاوت بين المناطق والفئات
التفاوت بين المناطق والفئات الاجتماعية في مجال الرعاية الصحية يُظهر كيف تؤثر البيئة والمستوى الاقتصادي على تعرض الأفراد للأمراض. الدكتور أدهم حسان، جراحة عامة وتجميل، يشير في حديثه لهودج، إلى أن الخلفية الاجتماعية والبيئية تلعب دورًا كبيرًا في الصحة العامة، حيث يتمتع البعض بحماية أكبر بفضل تعرضهم لعوامل طبيعية مفيدة مثل أشعة الشمس التي تعزز من المناعة، بينما يعاني آخرون من ضعف المناعة بسبب سوء التغذية.
وفقًا لكلام الدكتور حسان، يُلاحظ أن الفئات المهمشة في المناطق الريفية والنائية أكثر عرضة للإصابة بالأمراض بسبب نقص التغذية وضعف الوصول إلى الرعاية الصحية، ما يجعلهم أكثر عرضة للأمراض المعدية. في المقابل، هناك تحديات أخرى في المناطق الساحلية، حيث تزداد فرص الإصابة بالأمراض المدارية مثل الملاريا والبلهارسيا بسبب البيئة الرطبة التي تشجع على تكاثر الحشرات والطفيليات.
الاختلافات الصحية بين هذه الفئات والمناطق تتطلب استراتيجيات علاجية مخصصة تتعامل مع الاحتياجات الخاصة لكل فئة. في المناطق النائية، حيث يجب التركيز على تحسين التغذية والوقاية من الأمراض المعدية، بينما في المناطق الساحلية يجب التركيز على مكافحة الأمراض المستوطنة مثل الملاريا والبلهارسيا، ما يعكس أهمية تحديد الفئات الأكثر تعرضًا للأمراض واتخاذ إجراءات طبية استباقية مناسبة بحسب حسان.
التمييز في القطاع الصحي ضد المهمشين
يلفت الدكتور أدهم حسان الأنظار إلى مشكلة التمييز في النظام الطبي، حيث يشير إلى وجود تمييز غير مبرر في التعامل مع الفئات المهمشة داخل المستشفيات والمراكز الصحية. هذا التمييز لا يقتصر فقط على النظرة السلبية التي قد يبديها بعض الأطباء والممرضين تجاه هذه الفئات، بل يمتد إلى مستوى الخدمة الطبية المقدمة، حيث يعاني هؤلاء المرضى من معاملة غير عادلة مقارنة ببقية المرضى. وهذا الأمر يعكس تفرقة غير مقبولة داخل النظام الصحي، ما يعيق تقديم الرعاية المتكاملة والمتساوية للجميع.
حسان يوضح أن المريض، بغض النظر عن خلفيته الاجتماعية أو الاقتصادية، يحتاج أولاً إلى الدعم النفسي والمعنوي، وهذا يشمل فئات المهمشين الذين غالبًا ما يواجهون تحديات إضافية بسبب ظروفهم الصعبة. لذلك، يشدد على ضرورة أن تُعامل هذه الفئات بكرامة تامة، وأن يُقدم لهم التشخيص السليم والعلاج المناسب دون تمييز.
وفي رسالته للكوادر الطبية، يدعو الدكتور حسان الأطباء والممرضين إلى تحمل مسؤولياتهم المهنية والأخلاقية أمام الله والمجتمع. كما يقول ويؤكد أن مهمتهم تقديم الرعاية الصحية بأمانة وإخلاص، بما يتماشى مع القيم الإنسانية العليا. ويحث على تقديم رعاية خاصة للمهمشين الذين يعانون من ظروف صعبة، مؤكداً أنهم يستحقون دعماً مضاعفاً ورعاية فائقة تقديراً لإنسانيتهم وحقوقهم في العلاج مثلهم مثل أي مريض آخر.
التأثيرات الصحية والاجتماعية
يُبرز عبد القادر المجيدي، مختص في القانون الجنائي وعلم الاجتماع، أن قضية المهمشين في اليمن تمثل أزمة إنسانية واجتماعية تتطلب حلولًا شاملة ومستدامة. يشير إلى أن المهمشين، أو ما يُعرف محليًا بـ "الأخدام"، يعيشون في واقعٍ معقد يمتد لعقود من التمييز والحرمان الاجتماعي. هذا التمييز ليس فقط اجتماعيًا، بل يؤثر أيضًا على حياتهم اليومية بشكل عميق، حيث يشعرون بالاحتقار والدونية، ويواجهون صعوبة في الحصول على احترام المجتمع.
وبالإضافة إلى هذه التأثيرات الاجتماعية والنفسية، يعاني المهمشون من حرمانهم من الرعاية الطبية الملائمة، ما يزيد من معاناتهم الصحية. فعدم حصولهم على العلاج المناسب لأمراضهم، إلى جانب تأثيرات التمييز الاجتماعي، يؤدي إلى تفاقم وضعهم، ويزيد من صعوبة حياتهم اليومية حسب المجيدي.
من هنا، يرى المجيدي أن الحلول لا بد أن تتجاوز مجرد معالجة الأعراض الظاهرة للتمييز. حيث يجب العمل على تحسين المستوى الاجتماعي والتعليمي والاقتصادي لهذه الفئة، وتوفير فرص عمل لهم وإزالة الحواجز التي تمنعهم من الاندماج الكامل في المجتمع. ويشدد على ضرورة أن تتبنى الدولة خطة شاملة تعنى بهذه الفئة المهمشة، من خلال توفير رعاية صحية متكاملة وفرص تعليمية ووظيفية، إلى جانب خلق بيئة اجتماعية تحترم حقوقهم وتمنحهم الفرصة للعيش بكرامة.
وتُشير بادي في حديثها إلى أن الأشخاص الذين يعانون من ضغوط نفسية شديدة، مثل الاكتئاب، قد يظهر عليهم سلوك عدائي تجاه المجتمع، مثل السرقة أو التصرفات العنيفة. كما أن الضغوط النفسية يمكن أن تؤدي بمرور الوقت إلى أمراض جسدية مثل ارتفاع ضغط الدم، السكري، اضطرابات القولون، وضعف المناعة، لأن الجسم البشري والجهاز العصبي المركزي يعملان معًا بشكل متكامل.
وتؤكد بادي في هذا السياق على أهمية أن ننظر إلى هؤلاء الأشخاص بعين الرحمة والتفهم، كما علمنا ديننا الحنيف، الذي يعلّمنا أن لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى. ومن خلال هذا الفهم، فإن النظر الجاد إلى هذه الفئة والعمل على مساعدتها يمكن أن يُجنب المجتمع جانبًا من الصراعات الداخلية، ويسهم في بناء مجتمع أكثر استقرارًا، محبةً، وألفةً.
اقتراحات لتعزيز العدالة الصحية
يقترح الدكتور حسان حلولاً لتحقيق العدالة والمساواة في الرعاية الصحية، ومنها عمل دورات توعوية وتثقيفية للكادر الطبي وغير الطبي وتنظيم ورش عمل منتظمة تتناول مهارات التواصل وأهمية التعامل الإنساني مع المرضى، والتركيز على الفئات الأكثر عرضة للتمييز وتضمين التدريب في برامج تأهيل الأطباء والممرضين ليصبح جزءًا من التقييم السنوي وعمل لائحة تعريفية للكادر الطبي عن الفئات المهمشة من خلال إعداد دليل عملي مبسط يشرح الخصائص الثقافية والاجتماعية لفئة المهمشين، لتسهيل التواصل معهم وفهم احتياجاتهم ووضع لافتات في المرافق الصحية تذكر الكادر الطبي بأهمية احترام الجميع دون تمييز وتكليف إدارة المستشفى بمتابعة مدى تطبيق هذه المبادئ من خلال الاستبيانات والملاحظات القادمة من المرضى، إلى جانب إنشاء لائحة تخفيض بنسبة 70% على الإجراءات الطبية للمهمشين والتنسيق مع الجهات الحكومية والمؤسسات الخيرية لتوفير الدعم المالي لتغطية هذه التكاليف وإنشاء نظام رقمي لتسجيل المهمشين المستحقين لهذه التخفيضات بناءً على معايير واضحة. ولابد من متابعة التطبيق لضمان عدم استغلال النظام وضمان استفادة المستحقين فقط.
رأي القانون
يبين عادل عبد الله علي عبده، محامي ومستشار قانوني، أن ليس هناك تشريعات تخص المهمشين، لأن ذلك سيكون تمييزًا عنصريًا، فهم يمنيون ويسري عليهم ما يسري على أي مواطن يمني أبيض، ولكن قضية المهمشين قضية مؤلمة بسبب رفض المجتمع دمجهم فيه. "هناك أسباب عديدة لذلك، منها تقصير الدولة في العمل على دمجهم في المجتمع وجعلهم في مربعات سكنية خاصة منزوية عن بقية الحارات، وأيضًا تقصير الدولة في نشر ثقافة أن هؤلاء بشر يمنيون لهم حقوق وعليهم واجبات مثل أي يمني أبيض، وكذلك التقصير في بث ثقافة أن اللون الأسود ليس عيبًا، إلى جانب تقصير الدولة في عدم انتشالهم من مربع الجهل والفقر".
من التقصير الرسمي أيضًا، بحسب عبده، عدم العمل على دمجهم في المدارس العامة وتعليمهم النظافة وتوفير فرص عمل لهم تنتشلهم من خانة الفقر، وإفهام المجتمع أن هناك قارة تتضمن 40 دولة سكانها من ذوي البشرة السوداء، ولا يعد ذلك عيبًا يقتضي تحقير الإنسان أخاه الإنسان. ويضيف: "هناك عوامل أخرى أدت لتحقيرهم تتمثل في إهمال الدولة لأوضاعهم وإهمالهم هم لأنفسهم، وللأسف حتى المهمش اقتنع أنه غير مؤهل لأن يكون شخصًا عاديا له مثل غيره حقوق وواجبات".
تم نشر هذه المادة في منصة هودج