في خطوة مثيرة للجدل، أعلنت جماعة أنصار الله "الحوثيون" في اليمن مؤخراً، عن قرار منع استيراد مادة الدقيق، بادعاء أن هذه الخطوة تأتي في إطار سعيهم لتحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح، وأن البلد تمتلك إمكانيات طحن أكثر من 3.5 مليون طن من القمح الذي تستورده سنوياً.
يأتي هذه القرار في وقت يعاني فيه اليمن من تحديات بيئية واقتصادية هائلة، حيث يعتبر من أكثر الدول العربية المهددة بالجفاف ونقص المياه، بينما يثير تساؤلات حول جدوى تحقيق الاكتفاء الذاتي في ظل الظروف القاسية التي تمر بها الزراعة في البلاد، ويزيد المخاوف من أن يكون هذا القرار جزءاً من استراتيجية الحوثيين لإدارة البلاد، أكثر من كونه حلاً اقتصادياً فعّالاً للأزمة الغذائية المتفاقمة.
•الماء قبل القمح
"على الرغم من صعوبة تصديق ذلك، فإن اليمن يعيش حالياً عصره الذهبي للمياه، حيث يعتمد بشكل كبير على استغلال المياه الجوفية غير المتجدّدة التي تراكمت على مدار أكثر من 10,000 عام، لكنها استُهلكت بشكل كبير خلال الخمسين عاماً الماضية".
وردت هذه العبارة في تقرير للأمم المتحدة، منشور في العام 2022، حول وضع المياه في اليمن، وأشار التقرير إلى أن اليمن يواجه مستقبلاً لن تتوفر فيه إلا الموارد المائية المتجدّدة، مثل مياه الأمطار والمياه السطحية والجوفية الضحلة، والتي تلبي أقل من ثلث الطلب الحالي على المياه. حينها، سيتوجب تقاسم هذه الموارد بين الزراعة والاستخدامات الحضرية المتزايدة، ما يستدعي إعادة تخصيص كميات كبيرة من المياه من القطاع الزراعي لتحقيق الهدف السادس من أهداف التنمية المستدامة، والذي يضمن توفير المياه والصرف الصحي للجميع.
لكن الصراع على الاستخدام العقلاني والعادل للموارد غير المتجدّدة قد فُقد بالفعل، وصار لزاماً بذل المزيد من الجهود لتسهيل الانتقال إلى عالم يعتمد فقط على المياه المتجدّدة، والحدّ من التكاليف البشرية والصراعات وعدم المساواة الناتجة عن ذلك.
تزداد المشكلة تعقيداً بسبب عدم وضوح حقوق الانتفاع بالمياه، وعدم ملاءمة القوانين التقليدية لمتطلبات العصر الحديث، ما يؤدي إلى توزيع غير عادل للمياه على مستوى القرى، ونشوء نزاعات بين المزارعين ومزودي المياه في المدن.
•تجارب أولية لم تنجح
كشف الدكتور فواز المنيفي، عميد كلية الزراعة والطب البيطري في جامعة ذمار، لرصيف22، أن تجربة زراعة القمح في سهل تهامة غرب اليمن، التي أجريت بمشاركة عدد من الأكاديميين، لم تنجح بالكامل، بسبب المناخ الحار والرطوبة المرتفعة التي أثرت سلباً على نمو المحصول.
وأضاف الدكتور أن تجربة زراعة القمح في اليمن ليست جديدة، حيث بدأت مع إنشاء اللجنة الزراعية العليا في عام 2019 والذي هو أحد أهدافها، وكان التركيز في البداية على محافظة الجوف، نظراً لمساحاتها الشاسعة ووفرة الأراضي غير المستغلة، وأكد أن الجهود كانت تعتمد على أسس علمية، حيث تم استقدام سبعة أصناف من القمح من السينغال، والتي أثبتت نجاحها في 35 دولة بمناخات متنوعة، تتراوح بين درجات حرارة تحت الصفر وحتى 37 درجة مئوية.
وأشار إلى أن التجارب الأولية التي أجريت في كلية الزراعة في جامعة ذمار، أظهرت إنتاجية جيدة مقارنة بالأصناف المحلية، مثل "سبأ" و"بحوث" و"وادا"، ومع هذا، فإن التحديات الرئيسية التي واجهتها التجربة في تهامة تمثلت في الرطوبة العالية، ما أثر على تكوين السنابل وتقليل المردود الاقتصادي للمحصول.
مؤكداً أن الاكتفاء الذاتي من القمح في اليمن يحتاج إلى جهود مستمرة لسنوات قادمة، مع ضرورة استغلال المساحات الواسعة المتوفرة في الجوف ومأرب، حيث توجد أراضٍ خصبة ومناخ ملائم خاصة خلال فصل الشتاء. ولفت إلى أن اليمن يعتمد حالياً على إنتاج داخلي لا يغطي سوى 8% من الاستهلاك المحلي، ما يكفي لنحو 18 يوماً فقط.
ويوضح أن التاريخ الزراعي لليمن يشير إلى أن مناطق، مثل الجوف ومأرب، كانت مركزاً رئيسياً لزراعة القمح في الحضارات القديمة، ما يؤكد إمكانية تحقيق إنتاج محلي كبير في حال توفر التخطيط العلمي والدعم المناسب.
ويختم المنيفي حديثه بالتأكيد على أن نجاح زراعة القمح في اليمن يحتاج إلى إستراتيجيات زراعية محكمة، وخبراء متخصّصين، إضافة إلى الاستفادة من التجارب السابقة والتعلم من الأخطاء لتطوير القطاع الزراعي وتحقيق الأمن الغذائي.
•لماذا تخلّت السعودية عن زراعة القمح؟
في العام 2016، أعلنت المملكة العربية السعودية، رسمياً، التخلي عن زراعة القمح المحلي، وهي خطوة جاءت تتويجاً لقرارات تدريجية بدأت منذ سنوات، لمواجهة أزمة شحّ المياه المتزايدة. كانت زراعة القمح في السعودية تعتمد بشكل أساسي على المياه الجوفية، وهي مورد نادر في واحدة من أكثر المناطق جفافاً في العالم، حيث يعد القمح من المحاصيل المستهلكة بكثافة للمياه، إذ يتطلب إنتاج طن واحد من القمح حوالي 1800 لتر من المياه، ومع تضاؤل المخزون المائي، أصبح من الضروري اتخاذ قرارات جذرية للحفاظ على المياه الجوفية للأجيال القادمة.
السعودية اعتمدت على استراتيجيات جديدة، من خلال استيراد القمح من دول ذات وفرة مائية وأراضٍ زراعية شاسعة، مثل أوكرانيا وأستراليا، ما ساهم في تقليل الضغط على المياه المحلية مع ضمان توفر القمح بأسعار تنافسية.
يواجه اليمن تحديات مماثلة فيما يتعلق بندرة المياه، حيث تُعاني البلاد من استنزاف خطير للمياه الجوفية بسبب الاستخدام غير المستدام في الزراعة، وخاصة زراعة القات التي تستنزف جزءاً كبيراً من الموارد المائية المتاحة.
ورغم أن اليمن لم يصل بعد إلى قرارات مماثلة للتخلي عن بعض الزراعات الرئيسية، إلا أن الحاجة إلى سياسات أكثر استدامة تزداد مع تفاقم الأزمة المائية وتغير المناخ.
في حين تمكنت السعودية من توجيه استثماراتها نحو الخارج لتعويض الإنتاج المحلي، فإن اليمن يواجه تحديات أكثر تعقيداً بسبب محدودية الموارد المالية وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، يُبرز ذلك أهمية تبني حلول محلية مبتكرة، مثل ترشيد استهلاك المياه، تحسين كفاءة الري، تنويع المحاصيل الزراعية بما يتناسب مع طبيعة المناخ القاحل وتحديات زراعة القات التي تتوسّع بشكل مستمر في اليمن.
•للاستهلاك الإعلامي
في 27 آذار/ مارس 2024، نشرت وكالة أنصار الحق الإعلامية على تويتر، تغريدة تقول فيها إن منظمة الأغذية والزراعة الدولية "الفاو" صرّحت بأن زراعة القمح في اليمن خلال الأعوام الماضية تحسّنت بنسبة 70%. بحثنا في موقع المنظمة عن الأخبار، لكن المنظمة لم تنشر مثل هذه التصريحات أو الأرقام التي تؤيد ما جاء في التغريدة التي نشرتها الوكالة المقرّبة من جماعة الحوثيين.
وفي ظل استيراد اليمن لأكثر من ثلاثة مليون طن من القمح سنوياً، مع زراعة 118 الف طن كل عام، فإن الحديث عن الاكتفاء الذاتي يحتاج إلى المزيد من التفكير بنظرة عملية واضحة بعيداً عن المبالغات.
يقول الباحث في هذا الشأن وليد راجح، لرصيف22، إن ما يتحدث به الحوثيون مجرد ظاهرة صوتية وليس لديهم أية إحصائيات أو دراسات علمية حقيقية، حيث إن اليمن يواجه تحديات كبيرة في تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح، مشيراً إلى أن الاستهلاك السنوي للقمح في اليمن يتجاوز 3.5 مليون طن، بينما الإنتاج المحلي لا يكاد يصل إلى 300,000 طن، ما يمثل أقل من 10% من إجمالي الاستهلاك المطلوب.
وأوضح راجح أن محافظة الجوف، التي تُعرف بخصوبة أراضيها وإمكاناتها الزراعية، لم تتمكن حتى الآن من تحقيق إنتاج يذكر مقارنةً بحجم الطلب المتزايد، حيث لم يصل إنتاجها إلى 30,000 طن. وأضاف قائلاً: "الجهات المسؤولة تقدم معلومات مضللة ولا تستند إلى إحصائيات دقيقة، بل تعتمد على تصريحات جوفاء لا تعكس الواقع الحقيقي للقطاع الزراعي".
ويشير راجح إلى أن تحقيق الاكتفاء الذاتي يتطلب توسيع الرقعة الزراعية على مستوى جميع المحافظات والمديريات اليمنية، مع التنوع في زراعة مختلف الأصناف الزراعية، لكن المزارعين في اليمن يواجهون عقبات عديدة، أبرزها نقص المعدات الزراعية الحديثة، مثل الجرارات والمحسنات الزراعية، والقيود الاقتصادية المفروضة نتيجة الوضع السياسي، خاصة في ظل الانقلاب الحوثي، ما يعيق استيراد مستلزمات الزراعة.
وينوه إلى أن زراعة القات تعدّ التحدي الأكبر أمام تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح، حيث تشغل زراعة القات 20% إلى 30% من إجمالي الأراضي الزراعية في اليمن، وتدر أرباحاً طائلة على المزارعين مقارنة بالمحاصيل الأخرى، مؤكداً أن استمرار انتشار زراعة القات سيجعل تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح أمراً بالغ الصعوبة، مضيفاً: "لن نستطيع الوصول إلى الاكتفاء الذاتي طالما أن القات يسيطر على معظم الأراضي الزراعية".
وفي تصريح لرصيف22، يؤكد الخبير الاقتصادي فارس النجار، أن قرار وقف استيراد القمح والدقيق في اليمن يفتقر إلى المنطقية والجدوى الاقتصادية، خاصة في ظل الظروف الحالية التي تعيشها البلاد، وأوضح النجار أن الإنتاج المحلي من القمح والدقيق لا يغطي سوى نسبة بسيطة من احتياجات السوق اليمني، حيث لا يتجاوز إنتاج القمح المحلي نسبة 10% من إجمالي الطلب، ما يعني أن حوالي 90% من القمح يتم استيراده.
ويشير إلى أن مطاحن الغلال الموجودة في البلاد عاجزة عن تلبية احتياجات السوق المحلية، ما يترك فجوة كبيرة في العرض.
يقول: "اقتصادياً، يجب أن تكون هناك حالة من المنافسة في السوق لتجنب ارتفاع الأسعار ومنع الاحتكار، لكن القرار الأخير قد يؤدي إلى نتائج عكسية"، ويضيف أن القرارات التي تتخذها جماعة الحوثي، رغم أنها تبدو في ظاهرها داعمة للإنتاج المحلي، إلا أنها تهدف في حقيقة الأمر إلى تضييق الخناق على المستوردين الحاليين. "من وجهة نظري، هذه الخطوة تهدف إلى إقصاء لاعبين محددين من سوق الاستيراد، لفتح المجال لاحقاً لمستوردين جدد يتم اختيارهم بشكل انتقائي"، بحسب كلماته.
وتطرق النجار إلى تجارب سابقة مشابهة، مشيراً إلى أن إجراءات مماثلة اتخذت في الماضي مع استيراد الزبيب، حيث تم منع مجموعة من رجال الأعمال من الاستيراد لصالح مستوردين جدد، وأكد أن النتيجة كانت بقاء السوق معتمداً على واردات الزبيب من دول أخرى مثل إيران والصين، ما يعكس عدم جدوى هذه القرارات في تحقيق الاكتفاء الذاتي أو تحسين الإنتاج المحلي.
وفي ختام حديثه، يشدّد النجار على أن الإنتاج المحلي الحالي من القمح والدقيق لا يمكن أن يغطي احتياجات السوق، ما سيؤدي إلى نقص كبير في المعروض. يقول: "النقص في المعروض سيؤدي حتماً إلى ارتفاع الأسعار وزيادة العبء على المستهلكين. وبالتالي، فإن مثل هذه القرارات غير مدروسة، وتؤدي إلى آثار اقتصادية سلبية تفاقم الوضع الحالي بدلاً من تحسينه".
كانت هناك محاولات مع الدكتور عبدالله العلفي، رئيس هيئة البحوث الزراعية التابعة للحوثين، للرد على الآراء السابقة، لكنه لم يتجاوب.